مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية المقبلة في حزيران 2013، تنهال الاقتراحات حول القانون الانتخابي، التي تتفاوت في مقارباتها باختلاف مصالح معدّيها. وتسعى القوى السياسية والطائفية الى تفادي أي إصلاحات جديّة تطاول قانون الانتخابات لكونه يمثّل مدخلاً إلى الإصلاح السياسي، وهو الذي يؤدي إلى تكوين السلطات لاحقاً من خلال مجلس من مهمّاته انتخاب رئيس للجمهورية ومنح الحكومة الثقة، وإصدار القوانين والتشريعات.إنّ أفضل الأنظمة الانتخابية هي تلك الذي تضمن المساواة بين اللبنانيين في التمثيل، من خلال عدد المقاعد، على أن يكون لكل المقاعد حجم تمثيلي واحد.

غني عن القول إنّ اعتماد المناصفة في المقاعد في الوقت الذي لا تتوافر فيه المناصفة في المجتمع يمثّل إخلالاً بمبدأ المساواة، ويجعل من العيش المشترك سيفاً مصلتاً على رقاب الأقليات بأيد الأكثريات. فإلى أي مدى يمكن أن يستمر الوضع على حاله؟
وتلافياً للخلل في توزيع الدوائر وفي قدرة المواطنين على تحديد ممثليهم من الطائفة نفسها، يهرب البعض إلى الأمام من خلال اعتماد قانون يزيد من التقوقع والانعزال، بدلاً من العمل من أجل تطوير أسس ودعائم الدولة المدنية والديموقراطية التي تضمن حقوق مواطنيها، كل مواطنيها من دون تمييز. فالخللُ في التوزيع ضمن الطائفة الواحدة سوف يبقى قائماً، وبالتالي فإن تهميش فئة كبيرة من المواطنين ضمن الطائفة الواحدة سيبقي حقوقهم مغبونة. ذلك فضلاً عن أنّ باقي اللبنانيين الذين لا يرون أنّ تمثيل الطوائف يعنيهم سيبقون مهمشين وغير ممثلين.

«القانون الأرثوذوكسي»

صدر عن اللقاء المسيحي الذي عُقد منذ أشهر في مقر البطريركية المارونية في بكركي للتداول في أفضل صيغة لقانون الانتخابات لتُعتمد في 2013، بيانٌ يرى أنّ ما اصطلح عليه بـ«المشروع الأرثوذوكسي» يصلح لأن يكون أساساً في الحوار حول القانون الانتخابي الجديد. ويبرّر المجتمعون رؤيتهم تلك، بوجوب تطبيق المناصفة «فعلاً لا قولاً»، أي أن يُنتخب ممثلو الطوائف مباشرةً من قبل طوائفهم. وهم بذلك يرون أنّ النائب الذي ينتخبه مواطن من غير طائفتِه لا يمثّل الطائفة، مما يؤدي، باعتقادهم طبعاً، إلى خلل في قرار المناصفة في المقاعد النيابية، وفق ما جاء في الدستور.
في هذا التوجه خرق للدستور في أكثر من مادة منه، إذ عندما يعدّ الدستور في الفقرة الأولى من المقدمة أنّ «لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً»، فإنّ الاقتراح «المسيحي» يقضي على نهائية الوطن، ويجعل منه أوطاناً ويؤدي الى تقسيم شعبه ومؤسساته إلى طوائف ومذاهب. وتقول المادة 27 من الدستور إنّ «عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه»، وهو بالتالي يرى أنّ النائب عندما يمارس مهمة التشريع أو مراقبة أعمال الحكومة، أو عندما يعدّ الموازنة العامة إنما لا يقوم بذلك لصالح مذهب من المذاهب، بل لصالح الأمة جمعاء وبكل تكاوينها. بالاختصار، يتحول مجلس النواب مع هذا الاقتراح الى مجلس مِلل ومذاهب وطوائف، ليس إلّا.
بالإضافة الى ذلك، فإنّ صيغة التعايش والعيش المشترك تتعزز من خلال الممارسة وإرساء ثقافة الثقة بالنفس وبالمؤسسات والاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر. ولا يجوز أن تعتمد ممارسات تؤدي إلى الإخلال بهذه المبادئ. فالقانون الذي يؤدي إلى التقوقع في انعزاليات مذهبية هو حكماً قانونٌ مطعونٌ بدستوريته لأنّه يؤدي حكماً إلى تفتيت الأرض والشعب والمؤسسات.
ومن جهة أخرى، فإنّ الثقة بالمؤسسات تأتي من مصدرين، فهي تتعزز أولاً من خلال القدرة على إخضاع هذه المؤسسة إلى المساءلة والمحاسبة على نحو دائم ومستمر، وبالتالي فإنّ الثقة بمجلس النواب تنبع من قدرة المواطن على مساءلة أعضائه، أي ممثليه، ومحاسبتهم من خلال قانون انتخابي يمكّنه من حجب صوته عن كل من يخالف شروط العقد المتفق عليه، أو إعادة التأكيد على هذا التوكيل في الحالة المعاكسة. أما أن يشهد المواطنون على ممارسات تخالف التعاقد المتوافق عليه، ولا يمتلكون القدرة على سحب التوكيل، فيعدّ ذلك تعبيراً عن خلل كبير وجوهري.
أما مصدر الثقة الثاني، فهو الممارسة اليومية للبرلمان من خلال قدرته على القيام بوظائفه الأربع الأساسية على أكمل وجه أي: التشريع، مراقبة عمل الحكومة، إعداد الموازنة العامة وتمثيل المواطنين. وفي هذه الحالة أيضاً لا يجوز أن يعجز مجلسُ النواب عن القيام بمهمّات التشريع (ولا سيما عندما يتعلق الأمر بقوانين أساسية كقانون الانتخابات واللامركزية الإدارية وإقرار الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، والقوانين والتشريعات الخاصة بمحاربة الفساد وشفافية المعلومات، الخ) فكيف إذا كان المجلسُ عاجزاً عن إعداد الموازنة العامة منذ سنوات، وعن مراقبة عمل الحكومة وأداء الوزراء فيها، وفي الوقت نفسه، لا قدرة لدى المواطن على مساءلة ومحاسبة أعضائه من خلال قانون انتخابي يمكنّه من القيام بذلك على نحو ديموقراطي وسلمي.
إنّ القانون الأرثوذوكسي لا يفي بكل هذه المواصفات، ومن هنا تأتي أهمية إقرار قانون انتخابي يمكّن المواطنين من المحاسبة والمساءلة ويضمن ديموقراطية العملية الانتخابية والعدالة في التمثيل ونزاهة وسرية الانتخابات.

قانون الستين

القانون المعمول به حالياً (25/2008) يسمى قانون الستين، لأنّه يعتمد توزيع الدوائر وفق قانون الانتخابات النيابية لعام 1960. وهو يعتمد القضاء كدائرة انتخابية (ما خلا بعض الدوائر التي تتألّف من قضاءين)، أي إنّه يعتمد الدائرة الصغرى. يتضمن القانون الحالي خللاً كبيراً في عدالة التمثيل من خلال توزيع الدوائر، إذ يراوح عدد المقاعد من تسعة عشر مقعداً (في بيروت) الى مقعدين (في البترون)، في الوقت الذي لا تتساوى فيه المقاعد في حجم التمثيل، إذ يتفاوت حجم التمثيل للمقعد من طائفة الى طائفة أخرى، ومن دائرة الى دائرة أخرى. ويراوح الوزن التمثيلي للمقعد من خمسة عشر ألفاً للمقعد إلى أربعة وثلاثين ألفاً، وهو يتجاوز الضعف.
هذا إضافةً الى أن توزيع الدوائر الصغرى لا يسهم في تطوير صيغة العيش المشترك، كما يعتمد القانون الحالي على النظام الانتخابي الأكثري، إذ إنّ من يحصل على أغلبية الأصوات، حتى وإن كان الفارق صوتاً واحداً، يحصد كامل مقاعد الدائرة، فيتم بذلك إقصاء كل الأطراف الأخرى عن البرلمان، وهذا يمثّل خللاً إضافياً في عدالة التمثيل.
ويقترح وزير الداخلية والبلديات مروان شربل قانوناً، يعتمد فيه كثيراً على المشاورات الوطنية التي قام بها سلفه الوزير زياد بارود، ولا يختلف كثيراً عن القانون الذي تقترحه الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي. الا أنّه لا يعتمد الهيئة المستقلة للانتخابات كجهة منظمة ومشرفة على العملية الانتخابية برمتها، كما أنّه يعتمد دوائر صغيرة تراوح بين عشرة مقاعد وثمانية عشر مقعداً. إلا أنّه يتضمن العديد من البنود الإصلاحية التي تحسّن الأداء الانتخابي على نحو عام، كالنظام النسبي مع اصوات تفضيلية والقسيمة المعدة سلفاً.
ويعتمد مشروع الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي على الدائرة الوسطى التي تتساوى فيها المقاعد بمعدل عشرين مقعداً للدائرة الواحدة، حيث يسهل استخدام النسبية، ويعتمد المشروع النظام النسبي والقائمة المغلقة، أي بدون اصوات تفضيلية، حرصاً على تماسك التحالفات الانتخابية. وكلا القانونين يقترح الكوتا النسائية واقتراع غير المقيمين وتسهيل اقتراع ذوي الإعاقة.

أيّ قانون هو الأفضل؟

إنّ تحقيق الدولة المدنية لا يجري بقرار أو بين ليلة وضُحاها، لا بل يتطلب تدرجاً في الانتقال إلى الديموقراطية، ويتطلب أيضاً آليات تضمن الانتقال على نحو مستدام وممنهج وواع، لكن ذلك يحتاج الى قرار، والى التزام نابعين من القناعة بأنّ استمرار الوضع الراهن بات مدمراً ويمثّل خطراً على مستقبل الدولة بكل مكوناتها، وسط منطقة تتفجر فيها الثورات الشعبية، وتعاني الكثير من الانقسامات والتحديات.
لذلك لا بد من اعتماد أنظمة انتخابية تلزم المواطنين بالاختلاط، وتؤدي الى التوازن بين الطوائف، وإلى العدالة بالتمثيل. وفي حال تعذّر الإلغاء الفوري للقيد الطائفي في التمثيل النيابي ضمن قانون يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة، يمكن الانتقال التدريجي من الدائرة الصغرى (أي الصيغة المعتمدة حالياً، وهي القضاء) إلى لبنان دائرة واحدة (وهي الصيغة الأفضل) من خلال المرور بالدائرة الوسطى التي تحتوي على عشرين مقعداً (اقتراح الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي). يضمن ذلك توازن الحجم التمثيلي للمقعد الواحد، والمساواة في عدد المقاعد في كل الدوائر. وينسجم هذا الاقتراح مع ما جاء في اتفاق الطائف، الذي يقول بوجوب اعتماد المحافظة دائرة انتخابية بعد إعادة النظر في المحافظات، كما يمكن اعتماد الدوائر الانتخابية خارج إطار التوزيع الاداري، بحيث لا تكون بالضرورة الوحدة الادارية، أي القضاء أو المحافظة، هي الدائرة الانتخابية بالضرورة.
وفي هذه الحالة، يصبح تطبيق النظام النسبي أسهل، مما يؤدي بدوره إلى تحسين مستوى التمثيل للمواطنين، إذ إنّ النسبية تتيح التمثيل الأفضل لمختلف الأطراف، كل حسب حجمه وحسب الأصوات التي يحصل عليها. فلا تلغي المحادل أحداً من المعادلة السياسية.
كذلك فإنّ حياد الجهة المنظمة للانتخابات واستقلاليتها عن السلطة السياسية مسألة ضرورية وأساسية لضمان حسن التمثيل، وعدم تدخل أي سلطة في مسارها. وذلك يتم من خلال تأسيس هيئة مستقلة للانتخابات تنظم وتشرف على العملية الانتخابية برمتها.
ويؤدي تحسين إدارة العملية الانتخابية من خلال بعض التدابير الإجرائية، كاعتماد القسائم المعدة سلفاً، والتشدد في توفير سرية الاقتراع على نحو كامل والحد من الإنفاق الانتخابي وتنظيم الإعلام والدعاية الانتخابية، إلى تمكين المواطنين من تحسين اختيارهم المستقل بوحي من قناعاتهم، وبما يضمن مصالحهم من خلال التمثيل السليم.
وهناك بعض التدابير التي تعزز صفة الاقتراع العام على الانتخابات، وتلغي الإقصاء الذي يطاول بعض الفئات، كالشباب، من خلال خفض سن الاقتراع، والموقوفين الذين لم تصدر بحقهم أحكام، والقوات الأمنية والعسكرية والكوتا النسائية، واقتراع غير المقيمين (ولا يشمل ذلك المغتربين أو المتحدرين من أصل لبناني، لا بل اللبنانيين المقيمين في الخارج من حاملي الجنسية اللبنانية).
كذلك، هناك اصلاحات مواكبة لتحسين نوعية التمثيل، كاعتماد نظام اللامركزية الادارية وتعزيز دور البلديات والسلطات المحلية المنتخبة، بما يضمن توفير الخدمات للمواطنين من خلال الادارة المحلية. يخفف ذلك من حاجة المواطن إلى اللجوء الى المسؤولين لتوفير الخدمات من خلالهم. وهذا ما يعزز زبائنية العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
إنّ مخاوف الأقليات وهواجسها، ومنها ما قد يكون مشروعاً نتيجة الطبيعة الطائفية للنظام، لا تعالج على نحو مجتزء أو مؤقت. فالمزيد من الانعزال يمثل خطراً أكبراً ولا يسهم في إيجاد الحلول الناجعة للمسألة الطائفية في لبنان، لا بل إنّ الأفق والمستقبل هما في التحوّل نحو نظام مدني يفصل الدين والطائفية عن الدولة فصلاً تاماً. وهو يعزز الانتماء الوطني ويلغي الانتماء الأولي بواسطة المذاهب والطوائف، ويعزز الشعور بالمواطنة على حساب الفئوية والزبائنية.
* الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي