من السذاجة الاعتقاد بأنّ النظام السوري سيسقط كالآخرين بسهولة وبسرعة. ذلك أنّ لكل نظام تجربته على مسرح الأحداث، وخبرته في التعاطي مع الأزمات، وتعميم التجارب خطأ تاريخي وجغرافي أيضاً. من هنا، كانت الأحداث في سوريا مغايرة تماماً بالكمية والنوعية، ونمط الأزمة كان مختلفاً منذ البداية.انطلقت الاحتجاجات في خمس محافظات دفعة واحدة، وبزخم قوي، وتدحرجت ككرة الثلج، وامتدت كبقعة الزيت، ووصلت الى معظم مناطق الريف، والى مدن لم يكن أحد يتوقع أن تتحرك كاللاذقية، وبانياس، وجبلة، التي تعدّ معقل النظام. بات حتمياً، والمسألة لا تتعدى الأسابيع، أنّ عدوى الثورات ستشمل كلّ دول المنطقة، ولن تتوقف إلا بزوال جميع الأنظمة، وخاصة بعد سقوط مبارك في مصر. كانت الاحتجاجات قد هبت كالتسونامي في بعض الدول العربية، ولم يصمد امامها احد. وتسارع الجميع للالتحاق بركبها.

أما بالنسبة إلى سوريا، فقد كانت القيادة مطمئنة الى وضعها، وظنت أنّها بمنأى عن التحركات السارية في بعض دول العالم العربي، لذلك كان هول المفاجأة كبيراً عليها. وقد يكون النظام السوري قد ارتبك جراءها، وربما اهتز، لكنّه لم يفقد السيطرة على أوضاعه، وتعاطى مع الازمة برباطة جأش، وراح يعدّ الخطط للمواجهة المقبلة، وهو صاحب الباع الطويل، والبناء المسبق الاعداد، كما بدا لاحقاً، لمواجهة الاحتجاجات. فسوريا لم تعرف الراحة والاستقرار ابداً، لكونها منطقة في قلب العاصفة الجيوسياسية. والربيع العربي المشؤوم بالنسبة إليها، انطلق من سوريا في الحركة التي سمّت نفسها «ربيع دمشق» عام 2000. فالنظام السوري ـ حليف المنظومة الاشتراكية الراحلة ـ لا يستسيغ كلمة الربيع، التي تذكّره ببراغ 1968، ويمنّي النفس بسحقه كما سحقته الدبابات الروسية في ذلك الحين لتعيد تشيكوسلوفاكيا الى بيت الطاعة. من السهولة على نظام مثل النظام السوري عسكر مجتمعه منذ عقود، التعامل مع تحركات كهذه وهو كان دائماً في موقع النصح للأنظمة المهددة، لكونه يمتلك بنك معلومات يزود أصحاب الحاجة بها عند الطلب. ولديه ايضاً وحدات عسكرية لكافة المهمات، كالتي أرسلها الرئيس الراحل حافظ الاسد الى السعودية لإخماد انتفاضة جهيمان العتيبي في 1980. نظام متخصص ليس ككل الأنظمة، لديه عدة شغل كاملة، ويعرف عن الحكام العرب اكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم. تداعت وحدات ادارة الأزمات في النظام بعتادها وعديدها، وبدأت بوضع خطة من عدة مراحل، قبل ان تعرف أي مرحلة بلغت الازمة، حسب اعتراف الرئيس الأسد. اهم المعايير ميزان القوة والضعف الذي لم يستطع احد أن يحدد كفّتيه ويتابع بمقاييسه كالنظام نفسه، على ما بدا من خلال التطوّرات حتى اليوم. اعتمد معيار «اذا تجمّع عدوك فانتشر، واذا انتشر فتجمّع»، او اذا كانت قوى خصمك في الوسط فاضرب في الأطراف، وحيث هو يخطط للمعركة استدرجه الى مكانك المحصن. كانت الاحتجاجات تستهدف تحريك الشارع السوري في مختلف المدن والمناطق على صعيد شعبي. أدرك النظام انّ ذلك سيكون مقتله، إذ سيفقد في الحراك قطاعات كبرى مؤيدة له، ولن يستطيع رد التهم المتوقعة من القريب والبعيد، في حال مواجهة الحراك الشعبي اذا توسع، وخصوصاً اذا اتخذ صفة الحراك السلمي، الاحتجاجي غير المسلح. اذاً، المواجهة يجب أن تكون في مكان آخر، في تحوّل الحراك الى مؤامرة وفتنة وخروج على القانون، وعلى ساحة تكون فيها الذراع الاقوى له، أي للجيش. بدا النظام مرتبكاً بداية الطريق، فهل كان مرتبكاً حقاً؟ ام أنّه كان يخطط لإحداث فوضى عارمة في البلد يسهل اتهام الطرف الآخر بها، فتسهل مواجهته؟
لا بد من بعض الارتباك في ما لم يكن متوقعاً، لكن التطورات اللاحقة أظهرت أنّه ترك للحراك أن يأخذ مداه، ويفلت من عقاله، من جهة، ويسهم من طرفه في جر الحراك والقائمين به إلى حيث يريد هو، لا إلى حيث يريدون هم، إلى ساحة الفوضى والمقارعة بالسلاح. هناك تقع المواجهة غير المتكافئة. أدرك النظام أنّ مواجهة الاحتجاجات بالأدوات المتعارف عليها غير ممكنة، وخبراؤه يعلمون أنّ الحركة الشعبية لا توقفها خراطيم المياه ولا القنابل المسيلة للدموع. وهي آليات غريبة عن قاموس النظام في تعابيره الخاصة بالقمع، ولا توجد عنده فرق لمكافحة الشغب أو عناصر حفظ نظام. فمنذ إعلان قانون الطوارئ وسوريا ترى أنّها بلد المواجهة، وهي دائمة الجهوزية لمواجهة المؤامرة. هيّأ النظام عدّة سيناريوهات، وزوّدها بكل التهم الجاهزة من «المؤامرة» إلى «القاعدة»، فـ«المندسّين»، و«المطلوبين للعدالة» و«المهربين» و«المرتزقة». أخرج من جعبته كل التهم الممكنة التي استُخدمت على مراحل، وفي محطات تاريخية مختلفة، ولم يترك عبارة تمثّل تهمة تفوته، وهو الخبير العتيق بشؤون السياسة الدولية، ويعرف أي بضاعة يمكن أن تروَّج في كلّ لحظة من اللحظات السياسية الحساسة.
أعطى النظام لنفسه الوقت الكافي لكي تعم الفوضى البلاد. انسحب من المناطق التي فيها بعض حراك، تاركاً له أن يتوسّع. واجه بعض المسلحين بعمليات كرّ وفرّ بسيطة. فجَرّ الحركة المسلحة إلى استخدام واسع للسلاح، والاستعانة بمقاتلين، بالاستيراد من الخارج. غضّ الطرف عن دخول المسلحين والسلاح لأنّهم مهما نموا وكبروا وتعاظموا، لن يحققوا ترسانة كترسانته، ولا جيشاً منظّماً ومدرّباً ومتماسكاً كجيشه.
ولم يكن ينقصه إلا ما قدمه الخصوم إليه، فجاءه استعجال الغرب على الثورة على طبق من فضة، ووجد فيه مراده. هنا يتقن النظام لعبته، ويزاوج بين مواقف الغرب مستخدماً لكل موقف التهمة الملائمة. استبق الغرب الثورة، واستنفر بكل أدواته، غرباً وعرباً، إعلاماً، ومجلس أمن، ومجلس الجامعة العربية، وجمعيات حقوق إنسان، وتصريحات من هنا وهناك. أدوات تجاوزت إمكانات الثورة، فوقع الفأر الغربي العملاق في فخ اللعبة المتواضع، عندما دفع النظام بالساحة إلى ترك حركة الاعتراض تأخذ مداها، ليتحوّل الحراك إلى حراك مسلح. فالاستدراج يحتاج إلى جيش قوي، وموالٍ، وهذا متاح. وضعت خطة أوليّة أتاحت للخصم توسيع دائرة الفوضى والعصيان، وتورطت المعارضة باللعبة وانزلقت أكثر فأكثر وبدأت تعلن عن عمليات عسكرية وأسماء وحدات قتالية، مما أثار مخاوف طبقة اجتماعية واسعة وأساسية في الحراك، وأخرجها تماماً من مسرح الأحداث، وباتت الحركة مفعمة بالحجج التي تمكّن السلطة من قمعها بالقوة.
الاحتواء
بلغت الخطة مبلغها، إذ جرى إدخال المعارضة والبلاد في دوامة العنف والفوضى، ونشأت مربعات ومقاطعات مسلحة، وزعامات ميليشياوية، وصارت تهمة «الشبيحة» سيفاً ذا حدين، فإذا التهمة تعبئة ضد النظام، لكن من جهة ثانية نعمة أيّد مواجهتها قطاع شعبي واسع ممّن لم ينخرط في التحركات ضد النظام أو الموالي له. وازدادت الانقسامات في صفوف المعارضة، وتعددت المجالس العسكرية وتحولت الثورة إلى عبء على المواطن وعلى دول الجوار وإلى تخبط دولي ــــ إقليمي.
لقد استطاع النظام تجاوز السقوط الحتمي بنجاحه في إدارة الأزمة، وإتقانه لعبة الفوضى الموجّهة، وجعل الجميع، في الداخل والخارج، والصديق والعدو، يدخل نفقاً مجهولاً يصعب الخروج منه، أو التكهّن بنتائجه. مثّل ذلك حماية له، حمته من السقوط، في الوقت الذي كانت فيه السلطة تدرك أهمية الجيش وولائه، ومطمئنة إلى تماسكه على نقيض مراهنات الخصوم عليه. فلعبة الفوضى تحتاج إلى قوّة عسكرية تستطيع ضبط الأمور عند حدود معينة، وإبقاء المواجهات تحت سقف محدد، وهي معادلة لم يعرفها أو يتقنها سوى النظام نفسه.
ترك النظام بعض الإمداد للمسلحين المعادين له دون دعم لوجستي، مما أبقاهم دون مستوى المواجهات الحاسمة والمفتوحة. حتى أسلوب الكرّ والفرّ الذي يتطلّب بقعة جغرافية آمنة، تمكّن النظام من ضبطه بوتيرة متقنة جداً. فقتال الجيوش النظامية في المدن يحتاج إلى غزارة نيران لإغلاق الشوارع والمساحات الكبيرة، فكان الجيش يعمد إلى محاصرة المقاتلين واستنزافهم في عدة أيام ثم الانقضاض عليهم. أو أنّه كان يعمد إلى جس نبض المقاتلين لكي يتمكن من إعداد العدة لهم، فتتقدم وحداته عند الضرورة، ثم تتراجع تكتيكياً تحت وابل رصاص المسلحين المعارضين الذين كانوا يظنون تراجعه انهزاماً، لكنّه متى استجمع معلوماته وقوّم قدرات خصومه، شنّ هجوماته عليهم بمعاييره العسكرية الخاصة التي اختبر فعاليتها في معارك ومواجهات عديدة في العقود الأربعة من حكمه.
لقد خسر المراهنون، حتى الآن على الأقل، على تهالك النظام وجيشه، ويرجّح أنّهم سيخسرون الرهان، لأنّ إطالة عمر الأزمة بوجود فوضى عارمة تدفع الجميع إلى البحث عن مخارج تسوية، والاهتمام الدولي يبقى لبرهة من الزمن ثم يبدّل أولوياته كي لا تتحوّل الأزمة إلى مأزق وعبء عليه.
أما النظام الذي لا يعرف دولة المؤسسات، فيمكنه أن يتعايش مع فوضى مضبوطة بآليات خاصة. وبالرغم من أنّه بدا أنّ الفوضى تجاوزت الحدود التي كان يريد النظام أن يحصرها فيها، كي لا تخرج عن قدرته على السيطرة، لكن، بحسب ما ظهر حتى اليوم، نجح إلى حد كبير في تحويل مجرى الصراع لمصلحته، واستطاع أن يستدرج خصومه إلى ساحة مواجهة يتقن هو اللعبة فيها، ويفشل الخصوم.
* كاتب لبناني