منحت الكنيسة الكاثوليكية صكوك الغفران منذ القرن التاسع الميلادي، وأعطي بعضها في القرن الحادي عشر للحجاج الذين يزورون الأضرحة المقدسة. وكانت هذه الصكوك تمكّن مقتنيها من الإعفاء «الجزئيّ» أو «الكامل» من العقاب، وتطهيره من الخطايا والذنوب والحصول على العفو الذي يخوله دخول جنّة السماء، لكنها سرعان ما فتحت أبواب المطامع البشرية، وبات كبار رجال الدين والأساقفة يرسلون الرهبان إلى مختلف المدن والقرى لعرض صكوك الغفران على الراغبين لقاء هبات يقدمها الطالبون، أو توبة من الذنوب، أو صلوات يؤدونها. فغدا الرهبان جامعي أموال يبتزون المؤمنين أو الخائفين، ولا سيما بعد احتدام الأزمة المالية للكنيسة. فتفشى الظلم والفساد والانتهازية وتنامى امتعاض الناس ورجال دين آخرين، وعلى رأسهم مؤسس حركة الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر، الذي قاد ثورة الإصلاح الديني التي أفضت في النهاية إلى قيام صلح «وستفاليا» الشهير في 1648؛ ذلك الصلح الذي وضع الحجر الأساس لعلمنة الغرب.في سوريا، تأخذ صكوك الغفران شكلاً آخر. فمنذ بداية الانتفاضة في سوريا، أسهم المثقفون السوريون بقوة، ومنهم عددٌ كبير يتحدّر من الأقليات، في تنظيم التظاهرات «الطيارة» وتأمين التغطيات الإعلامية وتعميم أسماء المعتقلين والحملات التضامنية معهم. ولم يكن أمامهم من مكان للتجمع في البداية سوى الانطلاق من المساجد أو محيطها، بسبب منع قانون الطوارئ أيّ تجمّع عام، قبل أن يلملموا صفوفهم ويعقدوا مؤتمرهم التأسيسي الأول والأخير، بتنسيق المعارض والكاتب لؤي الحسين والدكتور منذر خدام في فندق سميراميس وسط دمشق في 27 حزيران من العام الماضي؛ في خطوة هي الأولى من نوعها منذ تسلم حزب البعث للسلطة! وقوبل الحاضرون بهجوم مزدوج شنته وسائل الإعلام الحكومية و«شبه الحكومية» من جهة، وبروباغاندا متطرفة في معارضتها من جهة ثانية، لكنّها لم تكن متبلورة آنذاك، يرعاها تحالف رأس المال الخليجي والإسلاموية السياسية التي سيّرت تظاهرات مناهضة «لمؤتمر الحوار مع النظام»، ليُغلق الباب بعدها على نحو شبه نهائي على خيار الخروج السياسي من الأزمة! ومع تزايد وطأة القمع والقتل والترهيب الذي رافق السياسة الوحيدة التي اعتمدها النظام، أي سياسة «الحل الأمني»، كثرت المؤتمرات خارج الأراضي السورية، حتى ظهر «المجلس الوطني» بتركيبة هجينة (إسلاموية ــ ليبرالية) تنسجم مع سياسة تعليق الخلافات إلى ما بعد سقوط النظام!
ومع اعتقال بعض المثقفين من منطقة الميدان قبيل انطلاق تظاهرة المثقفين (13 تموز)، بات التعريف بطوائف المعتقلين وسيلةً للتأكيد على «وطنية الثورة» ونفي صفة «السلفية أو الأصولية» التي أطلقتها الحملة الإعلامية الرسمية للنظام على المتظاهرين! ولم يتورع بعض العلمانيين والأقلويين، وحتى المسيحيين، عن استهجان من انتقد ما رُفع من شعارات دينية في وطن متعدّد الإثنيات والطوائف، بدلاً من الشعارات الوطنية أو الشعارات المستندة إلى حقوق الإنسان التي انتفض من أجلها الناس. وردّد الكثيرون منهم سواء في اللقاءات أو في المواقع الإلكترونية عبارات واحدة كـ«أنا أقلوي، وأنا مع الثورة»، أو «أنا مسيحي (أو علوي أو درزي...) والله أكبر».
وبعد ظهور الممثلة والناشطة فدوى سليمان بشجاعة وسط الناس في حي بابا عمرو، حياها أحد الناشطين البارزين لأنّها «...شوكة بعيونهم (النظام)؛ ثانياً لأنّك فنانة حرّة، وأولاً وأخيراً لأنّك (علوية)...»، لكنّ فاديا نفسها ترفض هذه المحدّدات الطائفية لوعيها بخطورتها مستقبلاً، فكتبت على صفحتها في فايسبوك في 20 كانون الأول الماضي: «...أنا لست علوية، ولست فنانة...أنا الثائرة صحيح منذ مولدي على كل القيم البالية في مجتمعي... الثائرة لأجل الحرية ولأجل أن يكون الناس أحراراً في ما يعتقدونه ويؤمنون به ويحبونه، طالما أنّه يريحهم حتى لو عبدوا الشجرة... فليسقط العلويون وليبقى الإنسان فيهم، وليسقطوا السنّة والدروز والإسماعيلية والإسلام واليهودية والمسيحية وليبقَ الإنسان فيهم... عاش الإنسان حراً كريماً أينما كان، ومهما كان انتماؤه ودينه... عاش الإنسان أينما كان مهما كان انتماؤه ودينه..».
ويشهد الطلب على صكوك الغفران تزايداً من قبل الناشطين اللادينيّين والعلمانيين أو المتحدّرين من خلفية أقلوية، لتصل إلى حدّ التماهي مع الإسلام السياسي، الذي بدأ بحسن تنظيمه وخبرته يستغل الإسلام الشعبي اللاطائفي الذي يميز السوريين، فتبنوا شعاراته بدلاً من تكوين تيار وطنيٍّ مستقل يطرح شعارات «وطنية» تستوعب السوريين جميعاً، فرفعوا شعاراً إسلاموياً تلفيقياً هو «الدولة المدنية»، كبديل خادع عن الدولة العلمانية أو الوطنية وتحايلاً على الديموقراطية.
وبدأ الانزلاق الثقافي في المجرى الموحل الذي حفره النظام وعمّقه الإسلامويون، لتظهر على فايسبوك عدّة صفحات كـ«ائتلاف العلوي ضد نظام آل الأسد» و«تنسيقية الشباب العلوي الثائر بحمص ضد بشار الأسد» و«شبكة مسيحيي سوريا لدعم الثورة السورية» و«أخبار مشاركة الأقليات في الثورة السورية»، كما كثرت البيانات الموازية كـ«بيان من أبناء الطائفة العلوية» و«بيان من مسيحيين سوريين»، و«بيان من أجل المواطنة». ورغم حسن النية والدور الإيجابي «الآني» الذي تعكسه هذه الصفحات والبيانات للوهلة الأولى، إلا أنّها ذات تأثير سلبي على المدى البعيد، لتكريسها «واقعاً اجتماعياً مستقبلياً جديداً» ينطلق من مواجهة «واقع اجتماعي حالي مريض»، باستخدام «أدوات مريضة»، بدلاً من معالجته بالدعوات «الوطنية»، التي أفرغها النظام من محتواها، كما أنّها تعكس مدى الخوف من تهمة الطائفية والشعور بعقدة الذنب في اللاوعي الجمعي لأبناء الأقليات جرّاء ممارسات النظام والتجييش الإسلاموي معاً، لتأتي بمثابة استحصال على «صكوك غفران أو براءة» من اللاوعي الجمعي للطرف الآخر (الإسلامي/ السني). ويسهم بعض هؤلاء المثقفين أيضاً، عن قصد أو غير قصد، في تسهيل تمرير بعض المشاريع الإسلاموية، انطلاقاً من «الرغبة» في توحيد جهود المعارضين لإسقاط النظام، وإيماناً بـ«طوباوية الثورة»، واعتبار بعض التسميات الدينية لأيام الجمعة «مجرد تفصيل صغير غير مهم أمام القمع والقتل والإجرام الذي يمارسه النظام»، وأنّ أيّ انتقاد «للثورة» يخدم النظام الذي حاول منذ الأيام الأولى الترويج لرواية «العصابات المسلحة»، و«السلفيين»، الأمر الذي لم يكن موجوداً في البداية، لكنّ الساحة السورية باتت مفتوحة الآن على الاحتمالات كافة، مع تزايد حدة الانشقاقات والاستهدافات المتبادلة، وتدفق السلاح، والأخطر التراجع عن التمسك بأسمى شعارات الانتفاضة المتمثلة بـ«السلمية خيارنا»!
وباسم «الثورة» يجري الهجوم على كل من ينتقد أخطاءها أو انحرافها عن مسارها أو المتاجرين بدماء الشهداء، كالحملات التشويهية المنظمة ضد هيثم مناع وسمير عيطة وميشيل كيلو وغيرهم... لذا لم يكن مفاجئاً أو خارجاً عن السياق الذي تسير فيه الانتفاضة السورية طرحُ «جمعة الجهاد» للتصويت كتسمية مقترحة لجمعة 27 كانون الثاني، بعد سلسلة تصاعدية من التسميات التي يقف وراءها «الإسلام السياسي»، الذي يعمل مروجوه ــ كرهبان العصور الوسطى ــ على ابتزاز المنتفضين، الذين لا يشاركونهم إيديولوجيتهم بالضرورة، لاستحصال أكبر قدر ممكن من التنازلات والمكاسب لقاء صكوك غفران «وطنية»! ولا يمكن المرور على هذا الطرح باعتباره مجرّد تسمية أسيء فهمها، فقد أثار غضب غالبية المعارضين لخطورته وخدمته لمروّجي مشروع الحرب الأهلية، كما أنّه يعكس عقلية لا تتورع عن استثمار العنف ونزف الدماء المستمر لتحقيق مكاسب سياسية على حساب وحدة الأراضي السورية ونسيجها المجتمعي. فإن كان النظام مسؤولاً عن التلويح بفزاعة الحرب الأهلية ومحاولة إشعالها إعلامياً وشعبياً (الشبيحة مثلاً) على غرار ما فعلته أنظمة مبارك والقذافي وصالح، فإنّه ليس المسؤول عن اختيار هذه التسميات والتحريض الديني في الطرف المقابل!
وقد يصوّر البعض أنّ انتقاد أخطاء «الثورة» يعكس مخاوف نابعة من «الإسلاموفوبيا»، التي يُتهم بها عادةً منتقدو الإسلام السياسي، لكن المشكلة ليست مع «المسلمين»، بل مع «الإسلامويين» وانتهازيتهم. والتساؤل الأساسي الجدير بالطرح بدلاً من الاتهام هو: إن كانت التسميات والشعارات ــ كأداة تعبير على الأقل ــ قد تثير لغطاً ما أو انقساماً أو تكريساً للطائفية، فلما لا يجري تجنبها أساساً؟ هل أمست اللغة العربية عاجزة أم أنّ القاموس الوطني السوري قد فرغ من المفردات؟
يستحق السوريون خياراً أفضل من الاختيار بين سيئين: الاستبداد السياسي والاستبداد الديني. وتستحق هذه الدماء التي نزفت عدم التساهل واستعطاء البراءات من الانتهازيين والإسلامويين، وتستحق سوريا قيام حركة وطنية سورية تحتضن جميع المواطنين (دينيين ولادينيين، مؤيدين ومعارضين) وتؤسس لمفهوم الدولة الديموقراطية لتقود في النهاية إلى «وستفاليا» سوريّة!

* باحث في التاريخ والآثار