خاص بالموقع- إذا كانت الفوضى الخلاقة تُعرّف بأنّها انقلاب على حكم فاسد بطريقة عشوائية وتلقائية، بغية الوصول إلى نظام ديموقراطي وتحقيق عدالة اجتماعية، فالحقيقة أنّه من خلال نماذج الشتاء العربي، يتبيّن أنّ الفوضى لا تخلق إلا فوضى أكبر، وتترك البلاد بلا حسيب ولا رقيب.
إذا كانت الفوضى الخلاقة سيئة للغاية فإنّ «التدمير الخلاق» أشد سوءاً، وأكثر خطورة، وهو المرحلة التي تلي الفوضى وإسقاط الحاكم. ويعتمد مبدأ التدمير الخلاق على إعادة البناء انطلاقاً من الأنقاض، تماماً كطائر الفينيق (العنقاء) الذي يموت احتراقاً، ثم يتجدد من رماده. إذاً، فالتدمير الخلاق دعوة لإسقاط كل مؤسسات الدولة المدنية، وتدمير هيكلة الجيش من خلال تشجيع صغار الضباط على العصيان، وأيضاً تأليب الرأي العام عليه، وتسليط الضوء على انتهاكاته وتضخيمها عبر وسائل الإعلام والإنترنت، اللاعب الرئيسي في ساحات التغيير العربية. يتضح، من خلال ذلك، أنّ التدمير الخلاق يهدف إلى حل وإسقاط الدولة بكلّ رموزها وهياكلها ثم إعادة البناء انطلاقاً من الصفر (مبدأ شيوعي بتمويل وتشجيع أميركيّين). في واقع الحال، فإنّ صفة «الخلاق» أبعد ما تكون عن التدمير، لأنّ غايته المستترة تتمثّل في الوصول إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من مخطط الفوضى الخلاقة، ألا وهي تفكيك الدول العربية إلى دويلات صغيرة، بحيث يصبح الكيان الصهيوني أكبرها مساحة وأشدها قوة.
تبدو مراحل هذا المخطط الصهيو ــ أميركي بكل تفاصيله أشد وضوحاً في التجربة المصرية، لذا كانت الحاجة ملحة لترجمة مقال مثير (من فصيلة «ويكيليكس») للمحلل الأميركي ويليام ﺇنغدل، وقد نُشِر بتاريخ 5 شباط 2011 (قبل تنحي مبارك) بعنوان «ثورة مصر: التدمير الخلاق لأجل شرق أوسط كبير؟»، وفيه يستشرف الكاتب (أو تملي عليه الاستخبارات الأميركية المركزية) كل ما حدث خلال الأشهر الماضية، ويتنبأ بانتقال العدوى إلى ليبيا، اليمن وسوريا. ويوضح كيف يتدرب «الناشطون السياسيون» في مراكز أميركية على قلب أنظمة الحكم والتدعيم المالي والمعنوي الذي يتلقونه (كحصول اليمنية توكل كرمان على نوبل للسلام والمصرية أسماء محفوظ على جائزة سخاروف).
وبالمنطق، يستحيل أنّ احتراق بغداد واستباحة القدس لا يحركان شعرة في العرب النائمين على مدى الدهر، ويأتي احتراق البوعزيزي في تونس ليشعل فتيل غضبهم! كلّ ما حدث ويحدث وسيحدث مخطط له منذ عقود في دوائر صنع القرار الصهيو ــ أميركية المغلقة. إنّ عنصر المؤامرة الماسونية هو كالعامل المساعد في التفاعلات الكيميائية، ودونه لا تتحقق المعادلة. وذلك ليس اتهاماً للشعوب العربية بالعمالة، ولا هو تثبيط لهمة الشعوب التي تنوي الخروج عن طاعة ولي الأمر ــ الذي لم يراع شرع الله فبغى وطغى ــ لكنّه فقط تذكير بأنّ التحدّي يتجاوز إسقاط شخص الرئيس أو الملك. على الشعوب التنبه لعامل المؤامرة وحفظ انتفاضاتهم من تسلل حكومة العالم الخفية...


ثورات البنتاغون في العالم العربي
يرى المحلل السياسي في مقاله السالف الذكر أنّه بخلاف الانطباع السائد بأنّ إدارة أوباما ترغب في الحفاظ على عملاء أميركا التقليديين في الشرق الأوسط، كانت واشنطن تشرف على تغييرات إقليمية جذرية للأنظمة العربية، في إطار عملية يسميها البعض «التدمير الخلاق».
هذا المخطط السري لتغيير الأنظمة جرى تطويره من طرف البنتاغون، جهاز الاستخبارات الأميركية، وأبرز مراكز الأبحاث، مثل مؤسسة «راند»، على مدى عقود من الزمن. ويشبّه الكاتب حركات الاحتجاج التي يشهدها العالم العربي بالثورات الملونة التي نظمتها أميركا لإطاحة الاتحاد السوفياتي وتحويل دوله من الشيوعية إلى الرأسمالية، من خلال تجميع قادة المعارضة المحليين وتدريبهم على قلب أنظمة الحكم سلمياً، وتمويلهم عبر الصندوق الوطني للديموقراطية الأميركي.
لم ينكر الكاتب تلك المظالم الرهيبة والضغوط الاقتصادية التي دفعت الملايين ــ من شمال أفريقيا والشرق الأوسط ــ إلى الشوارع مخاطرين بحياتهم، لكنّه لم يتجاهل في الوقت نفسه حقيقة أنّ واشنطن هي التي تحدد التوقيت وفق ما تراه، في محاولة لصياغة النتيجة النهائية للتغيير الشامل والاضطرابات التي أحدثتها في العالم الإسلامي. ويستدل على ذلك بأنّه حين بلغت التظاهرات «الشديدة التنسيق» ضد مبارك أوجها، كان قادة الجيش المصري (من بينهم رئيس هيئة الأركان اللواء سامي حافظ عنان) في ضيافة البنتاغون، وذلك لتحييد الجيش ومنعه من التصدي للتظاهرات المناوئة لمبارك.
بدأ هذا المخطط تزامناً مع شن الحرب على الإرهاب في 2001، وإطلاق تسمية الشرق الأوسط الكبير، واليوم جرى تعديله وتخفيف وقعه على المتلقي العربي بابتداع مصطلح «الشرق الأوسط الجديد»؛ وهي استراتيجية تقضي بتفكيك دول المنطقة من المغرب إلى أفغانستان، وقد رسم معالم وحدود المشروع صاموئيل هانتغتون في مقاله الشهير عن صراع الحضارات.


انتفاضة مصر؟
يشبه الكاتب سيناريو البنتاغون لانتفاضة مصر بفيلم هوليودي يضم طاقمه ملايين الشباب المدربين على استعمال «تويتر»، وشبكات من ناشطي الإخوان المسلمين، تحت إشراف فريق عسكري أميركي متخصص. ويتصدر البطولة المطلقة في هذا الإنتاج السينمائي الجديد مصري حائز جائزة نوبل للسلام، نجح في تجميع كل خيوط وأطراف المعارضة للنظام الأسبق، والانطلاق بها نحو مصر جديدة تحت مزاعم ثورة ديموقراطية ليبرالية.
وقبل الانتقال لتشريح استراتيجية واشنطن الطويلة الأمد للعالم الإسلامي، ارتأى الكاتب تقديم نبذة عن الممثلين المشاركين في فيلم انتفاضة مصر، أو ما اصطلح على تسميته «ثورات واشنطن الناعمة».


ثورات واشنطن «الناعمة»
يرى الكاتب أنّ الاحتجاجات التي أدت إلى تنحي مبارك (عقب رد الفعل المذعور لزين العابدين وهروبه) ليست «عفوية» كما يحاول البيت الأبيض، ووزارة الخارجية الأميركية وقنوات الـCNN وBBC الترويج لها.
هذه الاحتجاجات جرى تنظيمها وفق أسلوب أوكراني، ونمط تكنولوجي شديد الحداثة، بالإضافة إلى مجموعات شبابية دائمة التواصل على الإنترنت، ذات صلة بمحمد البرادعي وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة، الذين لم يعد خافياً ارتباطهم بالاستخبارات الأميركية والبريطانية وبالماسونية.
في تلك الأثناء، بدت الحركة المناوئة لمبارك كتهديد لامتداد أميركا في المنطقة، لكن العكس هو الصحيح. ففي واقع الحال، تملك هذه الحركة كل بصمات نظام آخر مؤيد لسياسة التغيير الأميركية، تماماً كنموذج الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا بين 2003 ــ 2004.
كانت الدعوة إلى إضراب مصري عام والى يوم الغضب في «25 يناير» السبب في إشعال فتيل الاحتجاجات الشاملة المطالبة بإسقاط الرئيس مبارك، التي انطلقت من منظمة فاعلة على موقع فايسبوك تطلق على نفسها «حركة 6 ابريل». ويرأس هذه الحركة شخص يسمى أحمد ماهر إبراهيم، وهو مهندس مدني يبلغ من العمر 29 سنة، دعا إلى إضراب عمالي في 6 نيسان 2008، ومنذ ذلك التاريخ أخذ نجمه يسطع.
ماهر أعلن أيضاً أنّ حركته تؤيد الرئيس السابق للهيئة الدولية للطاقة، والمرشح المحتمل للرئاسة، محمد البرادعي، جنباً إلى جنب مع الجمعية الوطنية للتغيير. ويشمل تحالف البرادعي هذا أيضاً جورج إسحاق، القيادي في حركة كفاية، ومحمد سعد الكتاتني، رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان المثيرة للجدل.
ورغم أنّ البرادعي غادر مصر منذ 30 سنة، إلا أنّه نجح فور عودته بكسب تأييد كل جزء يمكن تخيله من ألوان الطيف السياسي، انطلاقاً من الشيوعيين مروراً بالإخوان المسلمين إلى حركة كفاية وشباب «6 أفريل».


كفاية ـــ البنتاغون: «الحرب اللاعنفية»
حركة كفاية كانت في قلب حشد تظاهرات الاحتجاج المصرية منذ سنوات، والداعمة لعودة وترشيح البرادعي. وكفاية كما هو جلي مشتقة من «كفى!».
الغريب أنّ المخططين في الصندوق الوطني للديموقراطية بواشنطن، وما يتصل به من منظمات غير حكومية مخططة للثورات الملونة، كانوا على ما يبدو عاجزين عن ابتداع أسماء جديدة جذابة للثورة الملونة المصرية.
في تشرين الثاني 2003، أثناء الثورة الوردية في جورجيا، اختارت الولايات المتحدة والمنظمات غير الحكومية، الأميركية التمويل، كلمة «كمارا» Kmara من أجل التعريف بالحركة الشبابية لتغيير النظام. وكلمة «كمارا» في اللغة الجورجية تعني أيضاً: «كفى!».
مثل «كفاية»، تأسست «كمارا» في جورجيا من قبل المدربين ــ الممولين أميركياً ــ التابعين لمجموعات تستخدم وتروج لما يسمى «اللاعنف كأسلوب حرب».
الشبكات الشبابية المختلفة في جورجيا، كما في «كفاية»، جرى تدريبها بعناية كخلايا حرة، رخوة ولا مركزية، وجرى عمداً تجنب بناء هيئة مركزية يسهل كسرها، وهذا من شأنه عرقلة عمل الحركة (وهذا ما قد يفسر سبب عدم وجود قيادة مركزية لميدان التحرير!).
تدريب النشطاء على أساليب المقاومة اللاعنفية كان يجري في مراكز رياضية لجعله يبدو حميداً وغير ضار. وشمل التدريب أيضاً مجالات التسويق السياسي، العلاقات الإعلامية، وتعبئة المهارات وتجنيدها.
الاسم الرسمي لحركة كفاية هو الحركة المصرية من أجل التغيير. ظهرت في 2004 باتفاق مجموعة من المثقفين المصريين في منزل أبي العلاء ماضي، رئيس حزب الوسط، وهو حزب أنشئ على يد جماعة الإخوان المسلمين. وتأسست كفاية كحركة تحالف لا توحد أطيافها إلا الدعوة إلى إنهاء حكم مبارك.
«كفاية» كجزء من «حركة 6 أبريل» اللامتبلورة، اعتمدت منذ وقت مبكر على وسائل الإعلام الاجتماعية الجديدة والتكنولوجيا الرقمية كوسيلة رئيسية للتعبئة. وجرى بالخصوص الاعتماد على المدونات، السياسية منها، ونشر فيديوهات قصيرة غير خاضعة للرقابة على اليوتيوب، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية، وذلك بمهارة واستخدام مهني للغاية. وفي اجتماع حاشد في كانون الأول \ ديسمبر2009، أعلنت كفاية دعم ترشيح محمد البرادعي لرئاسيات 2011.


راند و«كفاية»
أجرت إحدى أهم منشـﺂت الدفاع الأميركي الفكرية، وهي مؤسسة راند، دراسة تفصيلية عن كفاية. وقد أمضى باحثو راند سنوات لتطوير تقنيات غير تقليدية لتغيير أنظمة الحكم تحت مسمى «الاحتشاد»؛ وهي طريقة تعتمد على نشر حشود من الجماهير الشبابية ذات الخبرة في مجالات الاتصالات والتكنولوجيا عن طريق تشكيلات احتجاجية ترتكز على الكر والفر وتتحرك كأسراب النحل.
واشنطن وسلسلة منظمات حقوق الإنسان والديموقراطية واللاعنف غير الحكومية، اعتمدت على مدى العقد الماضي على نحو متزايد على تغذية حركات احتجاجية محلية أهلية متطورة و«عفوية» لأجل المطالبة بتغيير النظام على نحو يوالي واشنطن ويخدم أجندة البنتاغون الهادفة إلى الهيمنة الكاملة على العالم.
وكما جاء في دراسة راند عن حركة «كفاية»، تنص في توصياتها الختامية إلى وزارة الدفاع على الآتي: «إن حكومة الولايات المتحدة تؤيد بالفعل جهود الإصلاح من خلال منظمات مثل وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. لكن نظراً إلى الموقف السلبي حيال الولايات المتحدة في المنطقة، من الأفضل للولايات المتحدة دعم مبادرات الإصلاح من خلال مؤسسات غير حكومية وغير ربحية».
وقد كانت الدراسة واضحة جداً بخصوص مستقبل الدعم الحكومي لحركات الإصلاح في مصر وغيرها من الدول: «يجب على الحكومةالأميركية تشجيع المنظمات غير الحكومية لتقديم كافة التدريبات لدعاة الإصلاح، بما في ذلك التوجيهات بشأن بناء ائتلافات وكيفية التعامل مع الخلافات الداخلية في سبيل تحقيق الإصلاح الديموقراطي. وباستطاعة المؤسسات الأكاديمية (وحتى المنظمات غير الحكومية المرتبطة مع الأحزاب السياسية في أميركا، مثل المعهد الجمهوري الدولي أو المعهد الديموقراطي الدولي للشؤون الخارجية) التكفل والقيام بمثل هذه التدريبات، والتي ستزود دعاة الإصلاح بالطرق المثلى لتسوية خلافاتهم سلمياً وديموقراطياً».
يواصل التقرير: «رابعاً، يجب على الولايات المتحدة أن تساعد الإصلاحيين على الحصول على تكنولوجيا المعلومات وعلى استخدامها، وربما من خلال تقديم حوافز للشركات الأميركية للاستثمار في البنية التحتية للاتصالات في المنطقة وتكنولوجيا المعلومات. ويمكن لشركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية أيضاً المساعدة على ضمان المحافظة على المواقع الإلكترونية لدعاة الإصلاح وإمكان استفادتهم من تكنولوجيات إخفاء الهوية التي تضمن البقاء بعيداً عن أعين الرقابة الحكومية، كما يمكن كذلك استخدام تكنولوجيا الحصانة الإلكترونية التي تمنع اختراق مواقع شبكة الإنترنت الداعية للتغيير وتخريبها».
قبيل رحلة أوباما إلى القاهرة للقاء مبارك في حزيران 2009، دعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عدداً من النشطاء الشباب المصريين إلى واشنطن، واستضافتهم تحت رعاية «بيت الحرية: Freedom House ، وهي منظمة «حقوقية» غير حكومية مقرها واشنطن، ولها تاريخ طويل في التدخلات ــ المدعومة أميركياً ــ لقلب أنظمة الحكم في صربيا وجورجيا وأوكرانيا وباقي الثورات الملونة الأخرى. كلينتون بالإضافة إلى جيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، اجتمعا مع الناشطين الـ16 في نهاية دورتهم التدريبية التي دامت شهرين، وجرى تنظيمها من طرف مشروع الجيل الجديد لـ»بيت الحرية».
"بيت الحرية"، ومنظمات قلب الأنظمة غير الحكومية الممولة من قبل الحكومة الأميركية ومؤسسة الأوقاف الوطنية من اجل الديموقراطية (NED)، هي في قلب الانتفاضات التي تجتاح العالم الإسلامي الآن. وهي تتناسب مع السياق الجغرافي الذي أعلنه جورج بوش بعد 2001 كمشروعه الشرق أوسطي الكبير لنشر الديموقراطية وإقامة «السوق الليبرالية الحرة» كنوع من الإصلاح الاقتصادي في الدول الإسلامية من أفغانستان إلى المغرب. وعندما تتحدث واشنطن عن «سوق ليبرالية حرة»، يجب على الناس الانتباه والاحتراس، لأن ذلك يعني إخضاع تلك الاقتصادات تحت نير نظام الدولار وكل ما ينطوي عليه.

لو نعد قائمة بدول المنطقة التي تعيش حركات احتجاجات شاملة منذ أحداث تونس ومصر، ونضعها ضمن خريطة، لوجدنا تطابقاً شبه كامل بين الدول التي تشهد اضطرابات، وبين خطة واشنطن الأصلية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي كُشف عنه لأول مرة أثناء فترة جورج بوش الرئاسية مباشرة عقب أحداث 2001.
«النيد» (NED) أو مؤسسة الوقف الوطني لدعم الديموقراطية، كانت ضالعة على نحو سري في الإعداد لموجة الاضطرابات السياسية على امتداد شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والإعداد لها منذ الاحتلال العسكري الأميركي لأفغانستان ثم العراق. قائمة الدول حيث تنشط المؤسسة أصبحت مكشوفة. وشبكتها تتضمن تونس، مصر، الأردن، الكويت، ليبيا، سوريا، اليمن والسودان. وبالمصادفة، هذه الدول السالفة الذكر تتعرض جميعها تقريباً لموجة انتفاضات شعبية «تلقائية» داعية للتغيير.
والمؤسسة في واقع الحال، هي وكالة تنسيق لزعزعة الاستقرار ولتغيير الأنظمة القائمة. ويمتد نشاط «النيد» من التيبيت إلى أوكرانيا، من فنزويلا إلى تونس، ومن الكويت إلى المغرب لإعادة تشكيل العالم عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، كما ورد في خطاب بوش الأب الذي ألقاه في 1991 في الكونغرس، وأعلن فيه بنشوة المنتصر بزوغ فجر النظام العالمي الجديد.
من بين أعضاء مجلس إدارة «النيد» الجنرال المتقاعد من حلف شمال الأطلسي ويسلي كلارك، إضافة إلى زلماي خليل زاد، مهندس الغزو الأميركي لأفغانستان، إضافةً إلى وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، وديك تشيني ودونالد رامسفيلد؛ أبرز الصقور المتطرفين الذين دعوا إلى التغيير الجبري لنظام الحكم في العراق منذ 1998.
من المفترض أن «النيد» مؤسسة خاصة، غير حكومية وغير نفعية بالأساس، لكنّها تتلقى سنوياً اعتماداً مالياً من الكونغرس الأميركي لتأدية مهمّاتها الدولية. يعتمد صندوق المؤسسة في تمويله على دافعي الضرائب الأميركيين، لكن باعتباره ليس وكالة حكومية، فهو لا يخضع لرقابة الكونغرس الاعتيادية.
تحوَّل مخصصات «النيد» المالية إلى الدول المعنية من خلال أربع «مؤسسات جوهرية» هي: المعهد الوطني الديموقراطي للشؤون الخارجية (المرتبط بالحزب الديموقراطي)، المعهد الدولي الجمهوري (الوثيق الصلة بالحزب الجمهوري)، المركز الأميركي للتضامن المالي العالمي، المرتبط بالاتحاد العمالي الأميركي، فضلاً عن وزارة الخارجية الأميركية، ومركز الاستثمار العالمي الخاص التابع لغرفة التجارة الأميركية للسوق الحرة.
نوهت المحللة السياسية الراحلة بربارا كونري بأنّ: «مؤسسة «نيد» تستغل وضعها الخاص المزعوم للتأثير في الانتخابات الأجنبية، وهو نشاط لا يمكن القيام به سوى عبر شبكة عمليات سرية للاستخبارات المركزية الأميركية. مثل هذه الأنشطة، جدير بالذكر، تعد غير قانونية بالنسبة إلى مجموعات أجنبية عاملة في الولايات المتحدة».
في الوقت الحاضر، تخصص مؤسسة «النيد» مشاريعها المختلفة للدول الإسلامية، وتضم إلى جانب مصر؛ تونس، اليمن، الأردن، الجزائر، المغرب، الكويت، لبنان، ليبيا، سوريا، إيران وأفغانستان. باختصار، كل دولة تستشعر في الوقت الراهن الآثار الزلزالية للاحتجاجات الداعية للإصلاح الممتد عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي هدف من أهداف «النيد».
في سنة 2005، ألقى جورج بوش خطاباً في المؤسسة ساوى فيه بين «التطرف الإسلامي» ـــــ كعدو جديد ـــــ وشرور الشيوعية، واستعمل عمداً مصطلح «الشرق الأوسط الأوسع» عوضاً عن الشرق الأوسط الكبير الذي أثار ضجة كبيرة في العالم الإسلامي. صرح بوش باﻵتي:
«العنصر الخامس لاستراتيجيتنا في الحرب على الإرهاب يتمثل في الوقوف دون تجنيد محاربين جدد في المستقبل، وذلك عن طريق استبدال الكراهية والبغضاء بالديموقراطية والأمل عبر كامل أنحاء الشرق الأوسط. هذا مشروع صعب وطويل الأمد، لكن لا بديل عنه. مستقبلنا ومستقبل تلك المنطقة مترابطان. إذا تُرك الشرق الأوسط الأوسع يكبر في ظل الأحقاد، وإن بقيت دوله تعاني البؤس والمرارة بينما المتطرفون يثيرون استياء الملايين، فإن ذلك الجزء من العالم سيكون مصدر صراع لا متناه، وخطر متزايد لجيلنا والأجيال القادمة. إذا سُمح لأفراد شعوب تلك المنطقة باختيار مصيرهم والنهوض عن طريق استغلال طاقاتهم الذاتية ومشاركتهم كرجال ونساء أحرار، فإن المتشددين سيجري تهميشهم، وتدفق التطرف المسلح لبقية العالم سيتوقف في نهاية المطاف... نحن نشجع أصدقاءنا في الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر والسعودية، على أن ينتهجوا سبيل الإصلاح، ويعملوا على تقوية مجتمعاتهم في الكفاح ضد الإرهاب باحترام حقوق واختيارات أبناء جلدتهم. نحن نقف مع المعارضين والمنفيين ضد الأنظمة القمعية، لأننا نعلم أن منشقي اليوم سيكونون قادة الغد الديموقراطي».


المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير
عمليات تغيير الأنظمة ـــــ بتحريض من واشنطن ـــــ المنتشرة من تونس إلى السودان، ومن اليمن إلى مصر فسوريا تندرج ضمن استراتيجية البنتاغون والخارجية الأميركية الطويلة الأمد. وهذا المخطط يشمل كل العالم الإسلامي من كابول بأفغانستان إلى الرباط بالمغرب.
الخطوط العريضة لاستراتيجية واشنطن، التي تستند في جزء منها إلى نجاح انقلاباتهم السياسية في دول حلف وارسو السابق الذي ضم المعسكر الشيوعي، أعدّها مستشار البنتاغون السابق وأحد المحافظين الجدد وهو ريتشارد بيرل، إضافة إلى مستشار بوش الخاص دوغلاس فيث في ورقة وُجِهّت وقتها إلى نظام الليكود الجديد بزعامة بنيامين نتنياهو في 1996.
وكان عنوان تلك التوصية السياسية؛ الكسر النظيف: استراتيجية جديدة لتأمين العالم. وقد كانت أول ورقة تصدر عن خلية بحثية في واشنطن، تدعو علناً إلى إطاحة صدام حسين في العراق، لموقف عسكري عدائي تجاه الفلسطينيين، ولضرب سوريا وأهداف سورية في لبنان. وقد أشيع حينها أن حكومة نتنياهو آنذاك دفنت تقرير بيرل ـــــ فيث لما يحتويه من مخاطرة كبيرة جداً.
تزامناً مع أحداث 11 أيلول 2001 وعودة الصقور دعاة الحرب إلى مراكز صنع القرار في واشنطن، وضعت إدارة بوش أولوية قصوى لتطوير نسخة موسعة من وثيقة بيرل ـــــ فيث، واصفين إياها بمشروعهم للشرق الأوسط الكبير. كما جرى تعيين فيث وكيل الرئيس لوزارة الدفاع.
خلف واجهة دعوة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة للقيام بإصلاحات ديموقراطية، كان الشرق الأوسط الكبير وما زال مخططاً لتوسيع نطاق سيطرة الولايات المتحدة العسكرية، ولفتح اقتصادات الدول الممتدة من المغرب إلى حدود الصين وروسيا.
في أيار 2005، قبل أن تكون آثار القصف الأميركي على بغداد قد نُظِّفت، أعلن جورج بوش ـــــ وهو رئيس لا يُذكر بوصفه صديقاً حميماً للديموقراطية ـــــ سياسة «نشر الديموقراطية» في كافة أنحاء المنطقة، والتنويه صراحة بأن هذا يعني «إقامة منطقة تجارة حرة أميركية في الشرق الأوسط في غضون عقد من الزمن».
والهدف من مشروع واشنطن الطويل الأجل هو السيطرة تماماً على النفط، السيطرة كلياً على تدفقات عائدات النفط، وبالتالي السيطرة على اقتصادات دول المنطقة بأكملها من المغرب حتى حدود الصين، وما بينهما، من خلال السيطرة على الشؤون البنكية والاقتصادية للمنطقة، عن طريق مؤسسات جديدة ذات صبغة دولية، لكنها، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، خاضعة لسيطرة واشنطن وتحكمها.


هل سينجح؟
يختتم الكاتب مقاله بالتساؤل إن كانت أحداث الفوضى واللاستقرار التي تقودها الولايات المتحدة في جميع ربوع العالم الإسلامي سوف تؤدي إلى إقامة النظام العالمي الجديد المنشود. أجندة واشنطن تتمثل في خلق شرق أوسط كبير خاضع لقبضة أميركية حديدية لتتمكن عبر ذلك من التحكم في تدفق رأس المال والطاقة في المستقبل من الصين، روسيا والاتحاد الأوروبي أيضاً إذا ما فكر يوماً في الخروج عن النظام الأميركي.
يزعم الكاتب أن هذه السياسة ستكون لها أبعاد هائلة على مستقبل الكيان الصهيوني كذلك. وكما جاء على لسان محلل أميركي؛ «التصور الإسرائيلي اليوم هو انّه إذا رحل مبارك (أو بالأحرى إذا سمحت أميركا برحيله)، فإن مصر ضائعة لا محالة. وبالمثل، إذا ذهبت تونس فإن المغرب والجزائر على وشك الذهاب. تركيا ذهبت بالفعل (وهنا، يجب على الإسرائيليين ألا يلوموا إلا أنفسهم). وسوريا ذاهبة أيضاً (يرجع هذا جزئياً إلى سعي إسرائيل لحرمان سوريا حقها في مياه طبريا). غزة ذهبت إلى حماس، والسلطة الفلسطينية على وشك الذهاب قريباً جداً (لحماس؟). و هذا سيترك إسرائيل وسط أنقاض سياسة الهيمنة العسكرية في المنطقة».
بالنسبة إلى ويليام ﺇنغدل، استراتيجية واشنطن لـ«التدمير الخلاق» تسبب الأرق بوضوح ليس فقط في العالم الإسلامي، لكن كما ورد في تل أبيب أيضاً، وفي نهاية المطاف في بكين وموسكو كذلك. قد تكون هذه الفرضية صحيحة على المستوى الشعبي، لكن يستحيل أن يسبب التدمير الخلاق وقبله الفوضى الخلاقة (الصهيونية الصنع) القلق وسط دوائر القرار الصهيونية، فالكاتب صور أميركا على أنّها محور الشر الوحيد؛ مغفلاً دور الحكومة الماسونية العالمية، ومتجاهلاً أن المحافظين الجدد ذوو أصول وميول صهيونية. لذلك فالخراب الذي حل بالعالم العربي يستحيل أن يؤثر سلباً في الكيان الصهيوني. بل إن حدوثه ضروري بالنسبة إلى العقيدة الصهيونية الدينية التي تترقب بل تسعى إلى إشعال حرب عالمية ثالثة حتى تقوم معركة «هرمجدون» التي تؤسس لأرض إسرائيل الكبرى؛ أرض الميعاد. وما الولايات المتحدة الأميركية سوى غطاء لنشاطات الحكومة الماسونية الخفية، التي تخطط وتمول كل ما يجري على الساحة العربية بغية تمرير مشروع سايكس ـــــ بيكو جديد، أو قد يُطلق عليه مشروع تقسيم برنارد هنري ليفي، باعتباره صديق المعارضين العرب، وواجهة التغيير على طريقة «راند»، «النيد» و«بيت الحرية».

* أستاذة جامعية في جامعة تبسة ــ الجزائر