(إلى مصطفى بدر الدين)
اتهامك بـ«جريمة العصر» لم يكن عبر المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانيال بلمار، ولا من خلال جهات محلية أو إقليمية، بل بقرار دولي صدر على ثلاث مراحل منذ تأسيس حزب الله في 1982. وفتح اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 المجال لانطلاق المرحلة الرابعة، خصوصاً بعد صيف 2006.
جنّد مجلس الامن الدولي منذ 2007 عشرات القضاة والموظفين ذوي السمعة الجيدة في الأوساط القضائية الدولية. وعملت مؤسسات استخبارية خلال فترة زمنية طويلة وبواسطة أدوات محلية وإقليمية على تأمين «أدلة جنائية»، وذلك «للحسم بأنّ لا فرق بين الرئيس رفيق الحريري وجيش الاحتلال الاسرائيلي. والعجيب في الأمر أنّ فئة واسعة من اللبنانيين رحّبت بذلك، وقرّرت بالتالي تغيير موقفها السياسي. ذلك التغيير لا يمكن أن يساهم في تكريس اتهامك يا مصطفى بـ«جريمة العصر» الا بواسطة انتشار التعصّب المذهبي والكراهية بين لبنانيين يسعون للثأر من لبنانيين آخرين، بعدما حدّد الرجل الابيض مفاتيح «الحقيقة».

فـ«الحقيقة» تربط بين قرار مجلس الامن 1559 الذي يستهدف حزب الله وبين هجوم 14 شباط 2005 الذي استهدف الحريري. وبدل عدّ اغتيال الحريري حدثاً مساعداً لتطبيق القرار الدولي بواسطة تبعاته، انقلبت «الحقيقة» لتخلص إلى أنّ القرار 1559 كان الدافع الاساسي للاغتيال. إن تصنيف الحقيقة الأولى مؤامرة لا يقلل من دقة تصنيف الثانية كذلك مؤامرة. وبالتالي فإنّ تسخيف نظريات المؤامرة في هذه القضية يطاول صدقية المتآمرين والمتآمر عليهم في آن.
المرحلة الاولى لاستهداف المقاومين في حزب الله أمثالك، يا مصطفى، لم تنطلق مباشرة بعد تفجير قاعدتي المارينز والمظليين الفرنسيين في بيروت في 1983 بل بعد أيام قليلة على وقوعها عندما تبيّن لواشنطن ولباريس حجم العجز عن الردّ. وكشف قصف المدمرة الاميركية «نيو جيرسي» لمنشآت مدنية في لبنان يومها التخبط في صفوف آلة الحرب الاميركية، والشعور السائد بين الضباط والعسكريين بضعف تكرّر لاحقاً في سياق مشابه من خلال المغامرات الدولية في العراق وافغانستان. تطلّب ذلك في كلّ من المغامرات الثلاث استدعاء خبرات فيرجينيا الاستخبارية لوضع خطط من نوع آخر. وبذلت جهود كبيرة في الساحة اللبنانية مثلاً خلال ثمانينيات القرن المنصرم لشلّ تنامي قوّة المقاومين ولعرقلة المرحلة التأسيسية لحزب الله من خلال محاولات متنوعة ومتشعبة لشقّ الصفوف وتحفيز الاقتتال الداخلي. وجاء مؤتمر مدريد في مطلع التسعينيات ليصب الزيت على النار.
المرحلة الثانية تلت عملية «عناقيد الغضب» الاسرائيلية في 1996 خصوصاً بعد «الغضب» في كواليس السياسة الدولية الأميركية من تقارب واضح بين «حزب السلاح» ومن «عمّر وعلّم وحرّر». هذا التقارب ساهم في نسف ما تبقى من أمل بنتائج مؤتمر مدريد لـ«السلام». ولا شكّ في أنّ ما عرف بـ«اتفاق نيسان» غيّر الموازين عبر اكتساب حزب الله موقعاً متقدّماً في ساحة المواجهة السياسية اضيف الى موقعه الابرز في ساحة المواجهة العسكرية والامنية. استدعى ذلك جهوداً دولية استثنائية لإحداث الفرقة بين الحريري وحزب الله. لكن تمكن الامين العام السيد حسن نصر الله والرئيس رفيق الحريري من استيعاب تلك الضغوط الدولية والاقليمية خلال تلك المرحلة بفضل التمسك بالاستقرار الامني وعدم التخلي عن سلاح المقاومة وقوّتها. أدى ذلك الى نجاح تكريس سلاح المقاومة سلاحاً دفاعياً مما سمح بسحب التداول بشأنه في الاوساط السياسية الدولية. لكن حجم الضغوط الدولية ونوعها تغيّرا اثر اندحار الجيش الاسرائيلي وحلفائه من لبنان في 2000. ولم يسمح ذلك باستمرار «تفاهم نيسان» ومفاعيله، بل أسّس لمرحلة جديدة من استهداف ما بات يشكّل خطراً مباشراً وجدّياً يهدّد الكيان الصهيوني ومصالح القوى الغربية في لبنان والمنطقة.
تميّزت دوافع اطلاق المرحلة الثالثة عن المرحلتين السابقتين. اذ شهد العالم اول هزيمة حقيقية لآلة الحرب الاسرائيلية. لكن ما خلّف الخيبة الدولية غير المعلنة آنذاك كان غياب المجازر وجرائم الثأر بحقّ من تعاملوا مع قوات الاحتلال، خصوصاً المسيحيين منهم، كما توقعت تقارير الاستخبارات الاسرائيلية والغربية. هذا الضعف الاسخباري الذي تبع العجز العسكري والامني اضاف من نسبة التوتر. وأدرك حلفاء اسرائيل الدوليون انّهم حُشروا في زاوية. استدعى هذا الوضع الصعب خطوات تتناسب مع حجم الاضرار الناجمة عنه بحق المصالح الغربية في المنطقة.
أما المرحلة الرابعة، والتي تخصّك مباشرة، وتُعَدّ الشقّ التنفيذي للمرحلة السابقة، فانطلقت ببيان رئاسي صدر عن مجلس الامن الدولي في 15 شباط 2005 صُنّفت من خلاله جريمة اغتيال الحريري، دون غيرها من الجرائم الوحشية التي استهدفت نحو مئة وخمسين ألف انسان في لبنان ومنهم رؤساء ووزراء، تهديداً للسلم والامن الدوليين.
لم يتّهموك زوراً بـ«جريمة العصر». فبحسب «عدالة» المجتمع الدولي، يصنّف الكفاح المسلح والعمل الفدائي لتحرير فلسطين وتهديد أمن الاسرائيليين ومصالح حلفائهم جرائم إرهابية بالغة الخطورة تستدعي قيام محاكم دولية خاصة بحجة اغتيال رئيس وزراء سابق أو بحجج أخرى. المهم السعي إلى حماية اسرائيل من أولئك الذين يبحثون ليل نهار عن حيلة لردّ عدوانها. المهم أيضاً توجيه رسالة واضحة الى كلّ من يتجرأ على الخروج عن طاعة «المجتمع الدولي» والى كلّ من لا ينصاع لـ«لعبة الأمم». اما الأهم فرفع شعار «العدالة» دولياً ومحلياً لاستهداف مقاومين نذروا عمرهم خدمة للعدالة عبر تحرير الارض ومناصرة المظلومين وفك احتجاز اسرى المعتقلات الاسرائيلية والدفاع عن البلد وعن كرامات أهله.
* من أسرة الأخبار