يتوازى التفكيك الممنهج للدولة السورية مع تفكيك دورها الإقليمي الذي بناه حافظ الأسد طوال عقود، محققاً لسوريا دوراً أتاح لها البروز لاعباً إقليمياً في المنطقة بفعل قدرته على استثمار الفراغ، الذي أحدثه غياب لاعبين آخر انشغلوا بدواخلهم المهتزّة، كما يحصل الآن في سوريا التي يتفكك دورها بفعل الانتفاضة السورية التي يهرب منها النظام إلى متاهات إقليمية ودولية ساعدته في ولوجها أطياف معارضة.الدور الإقليمي السوري ما كان ليبنى لولا إحكام الأسد قبضته على الداخل السوري بعد ثمانينيات القرن الماضي، وانشغال دول الجوار بدواخلها أو حروبها العبثية: انكفأ حكام تركيا «العلمانيين» نحو الاحتفاظ بالسلطة مع محاربة الصعود الإسلامي والمشكلة الكردية والعلوية، مع الانضواء في حلف «الناتو» منذ عام 1952، وانشغلت الثورة الإيرانية (1979) بأوضاعها الداخلية وحاجتها لحلفاء بالخارج العربي، وخاصة بعد الحرب مع العراق التي أجبرت صدام على الانسحاب من الساحة العربية وخسارة دور إقليمي كان يمكن أن يؤديه، مراكماً خسائره في غزو الكويت. ولبنان غرق في حربه الأهلية التي أشغلت المنطقة (1975-1989)، ومصر انشغلت بداخلها بعد طردها من الجامعة العربية إثر اتفاق كامب ديفيد (1978) لتخسر الدور الذي بناه عبد الناصر إقليمياً، لمصلحة سوريا التي عرفت سلطتها كيف «تلعب» في متغيرات الشرق الأوسط والمنطقة العربية، لتكون مرحلة كامب ديفيد الإرهاص الأول لتكوّن الدور السوري الإقليمي الذي ساعده الدخول السوري على لبنان وانتصار الثورة الإيرانية، التي كانت بحاجة إلى ممر إلى العالم العربي، مستفيدة في الزمن التصاعدي من توتر العلاقة الإيرانية/ المصرية في ظل السادات ومبارك من بعده.
ما سبق خلق فراغاً في المنطقة استثمره الأسد الأب بدهائه المعروف، ناقلاً سوريا من ملعب إلى لاعب، فنسج علاقات تخدم دوره وسلطته، إن لم تكن مع الدولة الرسمية (إيران، السعودية) فمع خصومها (حزب العمال الكردستاني في تركيا والمعارضات: العراقية بطيفيها العربي والكردي والبحرينية في فترة ما، والفلسطينية ما بعد أوسلو وغيرها)، مع تحييد من يمكن تحييده بعد رعاية مصالحه مشروطاً بالاعتراف بالدور السوري في الإقليم، وهذا ما ترجمه اتفاق الطائف اللبناني (1989) الذي كان بداية التتويج الإقليمي للنظام السوري، ليحصد اعترافاً دولياً تجلى رسمياً بزيارات الرؤساء الأميركيين لدمشق وزيارة جاك شيراك (1996) وعودة العلاقات الفرنسية/ السورية بعد تذليل عقباتها (ديون سوريا لفرنسا توقفت سوريا عن دفعها منذ الثمانينيات لتوافق فرنسا على إلغاء ستين بالمئة منها)، أو تخلي فرنسا عما كان يمنع تطوير العلاقات (اغتيال السفير الفرنسي «لويس دولامار» في سبتمبر/ أيلول عام 1981 في لبنان)، واعتراف هؤلاء بدور سوريا في المنطقة، وهو ما جعل سوريا طرفاً في أي حل أو تسوية بدءاً من مدريد (1991) وليس انتهاءً بتفاهم نيسان (1996)، فضلاً عن أدائها دور المفصل في عدة علاقات دولية مثل العلاقة العربية الإيرانية، وسعيها إلى فرض قطب «ممانع» في الجامعة العربية لسياسات دول الاعتدال، وإن كانت الممانعة لأهداف تخص النظام وحده.
توازى ما سبق مع ترتيب للداخل وصل حد تغوّل السلطة وابتلاعها الدولة وإخصائها المجتمع، حيث استُميلت الأحزاب والشخصيات بالمال والمناصب، مع عنف وحشي وسجن لمن لم يستجب، لنصل إلى تفكيك الحياة السياسية الهشة أصلاً لمصلحة صعود الهويات الطائفية والمذهبية والقبلية، مستفيدة (السلطة) من شيوع ثقافة جماهيرية ضدية تعلي من شأن الإيديولوجيا على حساب الإبستمولوجيا، تمثلت في التطلع خارجاً نحو وحدة عربية لم تأت وحنين إلى تحرير فلسطين والجولان دون بناء هذا الداخل أو تجهيزه أو السعي لامتلاك آليات تحقيقه، إذا افترضنا أن السلطة كانت تريد ذلك حقاً.
الآن في ضوء الانتفاضة السورية يجري تفكيك الدور السوري الإقليمي الذي بني على داخل هش، طالما طالبت المعارضة الوطنية بتحسينه لكي لا يكون أداة تتسلل القوى الدولية/ الإقليمية من خلاله لتفكيك الدور السوري، لينشأ فراغ هائل يجري الصراع على ملئه لبناء أحلاف جديدة ستغيّر وجه المنطقة دون معرفة اتجاهاتها بعد.
على المستوى الإقليمي ثمة صراع واضح (وإن اتخذ شكل التعاون أحياناً) بين تركيا وقطر والسعودية ومصر والكيان الإسرائيلي لملء الفراغ السوري بمواجهة إيران (بمساعدة العراق) الساعية إلى منع انهيار النظام قبل إيجاد بديل سوري يلبي مصالحها أو بديل إقليمي يؤدي نفس الدور، ولهذا حاولت إيران في السنة الماضية تعويم الدور العراقي في المنطقة من خلال مبادرات الحل التي طرحها العراق، لتكتشف إيران أن ما بنته في العراق ما زال هشاً وغير قادر على احتواء تداعيات أزمته الداخلية بعد، فكيف بأداء دور في المنطقة؟! وحين أدركت طهران أنه لم يعد بإمكانها الحفاظ على دورها بالإقليم كما هو، قبلت بمناصفة دورها مع آخرين، شرط أن لا يصبّ في خدمة خصومها وأعدائها (السعودية، إسرائيل، تركيا) لذا تعمل الآن على محاولة تعويم الدور المصري الساعي إلى إعادة بناء دوره مجدداً من خلال المبادرة التي تطرحها مصر لحل الأزمة السورية، وسعياً إلى التحرر من هيمنة الأدوار التركية/ الخليجية/ الإسرائيلية، الساعية إلى إبقاء مصر في دور التابع، وهو ما عبر عنه مسؤول سوري لصحيفة «الأخبار» بالقول: «أكثر طموحاتها (إيران) هو أن تشاركها في قيادة المنطقة، خلافاً للتركي الذي ينافس مصر على الدور ويطمح إلى أن يسرقه منها». إضافة إلى محاولة إيران استمالة الأردن أو تحييده ما أمكن، مستغلة وضعه الاقتصادي وتوازناته الداخلية الهشة، وهو ما يفعله الجميع الآن لجذب الأردن نحوه. وهنا يبدو أن الحكم الإخواني المصري يسعى إلى الاستفادة من تلك الفرصة هرباً نحو الخارج من استحقاقات داخلية باتت تحاصره، ويسعى إلى إيجاد حل لها، وهو ما تجلى في التقارب المصري الإيراني أخيراً، ما دفع المسؤول السوري إلى القول: «القيادة المصرية مستعدة لأن تعيد النظر في سياساتها تجاه الداخل المصري، من علاقاتها مع الأزهر وأحزاب المعارضة، وطهران مستعدة لأن تؤدي دوراً في هذا السياق، من باب تزويدهم بخبرات لإعادة بناء الدولة»، الأمر الذي يعني بدء مصر العمل على استعادة دورها الإقليمي الذي بات في خطر. كذلك عبّر مصدر مصري لصحيفة «الأخبار» أنّ «سوريا تمثل للقاهرة جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي»، المتمثل في ثلاثة أركان: «الجنوب نحو السودان وإثيوبيا ومنابع النيل، والشمال الشرقي حيث سوريا، والشرق حيث العراق»، مشيراً إلى «أنه بعد الأوضاع الحالية في كل من العراق وجنوب مصر أصبح من الخطر على الأمن القومي المصري استمرار حالة القتال في سوريا». ويبدو أن النظام السوري بدوره بات مقراً بخسارة دوره الإقليمي، فيعمل بالتنسيق مع طهران على أن تملأ مصر هذا الفراغ، حيث قال مسؤول سوري إن القاهرة تستعد «لأداء دورها الإقليمي... وهي تعطي الإيراني الضوء الأخضر للمضي في هذا الاتجاه»، وكأن سوريا تعيد إلى مصر ما ورثته منها إقليمياً بعد كامب ديفيد!
الهدف الأساسي للتحركات الإيرانية منع أنقرة أو الخليج أو إسرائيل من ملء الفراغ الذي يخلفه تضعضع النظام السوري، حيث تصارع أنقرة لأن يصب كل شيء في خدمتها ومصلحتها فتعمل على تحسين علاقتها مع الأكراد وترتيب البيت الداخلي التركي وفقاً لتحولات المنطقة، وهو ما يمكن فهمه من الاتفاق بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني؛ إذ أدركت أنقرة أن الربيع العربي سيحاكي تطلعات مكوناتها الداخلي، فعملت على احتوائها ما أمكن، مع سعيها الواضح إلى احتواء المعارضة السورية لتكون سوريا ساحة نفوذ إقليمي لها بعد سقوط النظام. وهو ما عبر عنه بوضوح أحد المعارضين الدائرين في الفلك التركي/ الخليجي رياض الشقفة حين قال لصحيفة «جمهورييت» التركية: «سنكسر العمودَ الفقريّ للهلال الشيعيّ».
بعد سنتين، أدركت أنقرة أنها عاجزة وحدها عن ملء فراغ النظام السوري بمواجهة طهران، حيث سعت في البداية إلى أن تحتوي الدور الخليجي ليكون مساعداً لها وصلة وصل بينها وبين العرب، إلا أن تبعية الدول الخليجية سياسياً، جعلت أنقرة ترضى بتقاسم الأمر مع إسرائيل، فكانت المصالحة الإسرائيلية/ التركية المسنودة بتحالف تركي/ كردي بات يظهر وسيكون له شأن في تحولات المنطقة. هنا تبدو مصر بيضة قبان بين تركيا وإيران، من يشدها لجانبه سيتوج اللاعب الأقوى، مع احتمال أن تسعى مصر إلى أن تبقى عامل توازن بين الطرفين دون أن تكون ضد أي منهما، فتعمل على بناء دورها واستعادته خطوة خطوة مستغلة حاجتهما لها؛ إذ تقول التحركات المصرية الأخيرة ذلك، فالغزل المصري لإيران رسالة واضحة للحلف المقابل (إسرائيل، الخليج، أنقرة) بأن لمصر خيارات بديلة في حال تهميش الدور المصري.
يتقاطع الصراع الإقليمي مع صراع دولي بين واشنطن وروسيا العائدة بقوة إلى المنطقة، فاستخدامها الفيتو بهذه الكثافة بعد انقطاع طويل يؤكد ذلك، وكذلك واشنطن أجبرتها الانتفاضة السورية على العودة بعدما كانت قد أعلنت في بداية عام 2011 استراتيجية التحول باتجاه منطقة آسيا – الباسيفيك لمواجهة ثلاث قوى صاعدة هناك (اليابان، الهند، الصين)، تاركة المنطقة لحلفائها الإقليميين الذين لم يتمكنوا من ملء فراغ رحيل الأميركي من بغداد، فكيف بفراغ النظام السوري أيضاً!
من دلائل عودة موسكو إلى الشرق الأوسط زيارة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، ولقائه كل المسؤولين اللبنانيين، بمن فيهم حزب الله، وهذا ما يذكر بحج المسؤولين الأميركيين إلى لبنان سابقاً، إضافة إلى أنّ بوغدانوف التقى في أربيل قيادة حزب الاتحاد الديموقراطي (أغسطس/ آب 2012)، الأمر الذي يعني أن موسكو باتت تدخل في تفاصيل المنطقة غير مكتفية بالعلاقات الرسمية على مستوى الدولة؛ إذ حين تعلن علاقتها رسمياً مع منظمات كحزب الله وحزب العمال الكردستاني، فهذا يعني أنها تسعى إلى ملء فراغ يبدو أن واشنطن تتجه للتسليم به بعد عجز حلفائها الأوروبيين (فرنسا وبريطانيا) والأتراك والخليجيين والإسرائيليين عن ملئه!
على ظهر الانتفاضة السورية، ثمة صراع في سوريا على سوريا، وهذا أمر يهدد الانتفاضة أولاً، وإمكانية إعادة بناء سوريا لاحقاً؛ إذ لم تحسن المعارضة حتى اللحظة فهم تعقيدات الوضع الدولي حول سوريا، وإدراك الفارق بين الاستعانة بالخارج (سواء كان هذا الخارج مع النظام أو ضده) لدحر النظام، وبين أن يستغل الخارج الانتفاضة لتحقيق مآربه، ليس لتدمير سوريا وهو ما يحصل الآن، بل لمنعها من استعادة قوتها ودورها لعقود طويلة.
* شاعر وكاتب سوري