كان كاتب هذه السطور قد توقف في مناسبتين: الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 والثانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، عندما قيل عن دور خطير منسوب إلى خبير وموظف حكومي أميركي سابق بدرجة سفير، هو بيتر غالبريث، في كتابة الدستور العراقي النافذ مقابل رِشى كبيرة قدمتها له الزعامات الحاكمة في إقليم كردستان العراق عبر شركة نفطية نروجية كان وسيطاً ومستشاراً لها. وفي المناسبتين لم يردّ مصدر عراقي رسمي، اتحادي أو من الإقليم، علناً على ما أثرناه معتمدين على ما صدر بشأن الموضوع في الإعلام الغربي، نفياً أو تأكيداً أو تفسيراً، ربما باستثناء الحادث الآتي: كتب لي شخص يبدو أنه أحد أعضاء مجلس النواب المنتهي العهدة، في حينها، مستفسراً عن المصادر التي اعتمدتها في كتاباتي عن هذا الموضوع؛ لأنه كما قال كان «قريباً من لجنة كتابة الدستور ولم ألاحظ أي تدخل في عملية كتابة الدستور مباشرة أو بشكل غير مباشر من قبل أجانب». وقد رددت عليه وأرسلت له ما بحوزتي من مصادر صحفية عن الموضوع، ولكنه انقطع عن التواصل معي منذ ذلك الحين. جديد هذا الملف المثير هو صدور دراسة علمية موثقة في بغداد قبل أيام للباحث في شؤون النفط فؤاد قاسم الأمير بعنوان «الجديد في عقود النفط والغاز، الموقعة من قبل حكومة إقليم كردستان»، كنا قد توقفنا عند المحور الأول منها قبل أيام («الأخبار»، العدد ١٩٩٢ الاثنين ٢٩ نيسان ٢٠١٣)؛ نعرض تحليلياً هنا محورها الثاني الخاص بدور الخبير والسفير غالبريث في كتابة الدستور العراقي لقاء رِشىً ضخمة من القيادة الكردية عبر الشركة النروجية.
يؤكد الباحث الأمير قِدَمَ علاقة غالبريث بالأكراد «حيث عمل سنة 1988 على توثيق حملات الرئيس السابق صدام حسين ضدهم وبضمنها استخدام الغازات السامة. ولذلك، فليس من الغريب أن تطلب شركة نفطية مساعدته للحصول على عقود في كردستان، وهو أمر اعتيادي لدى الشركات النفطية، واستمرت مثل هذه الممارسات حتى الآن، وكان آخرها ما قامت به شركة أكسن موبيل في شباط 2013 بتعيين السفير الأميركي السابق في العراق جيمس جفري، مستشاراً لها».
وحين توجهت «دي أن أو» إلى سوق النفط في الإقليم الكردي، فقد استندت إلى علاقات غالبريث الخاصة مع القيادة الكردية وخبراته واستطاعت أن تحصل بوساطته على عدد من عقود المشاركة في الإنتاج في الإقليم، وكانت حصة كلّ من غالبريث وشريكه النروجي الذي ظل اسمه مجهولاً 10% مناصفة.
صحيفة «نيويورك تايمز» أكدت أنّ غالبريث يعترف بهذه التفاصيل، ولكنه يقول إنه كان آنذاك شخصاً عادياً ليست له علاقة بالحكومة الأميركية، ولكن في الوقت ذاته كانت له اهتمامات كبيرة بالمسألة الكردية، سواء في ما يتعلق بالأمور السياسية أو بأمور الأعمال. وتستمر الصحيفة في روايتها فتسجل: «وعندما تم العثور على النفط في حقل «طاوكى» في كانون الأول 2005، لم يعرف أحد سوى عدد قليل في حكومة إقليم كردستان والمسؤولين في الشركة والدوائر الضيقة التي تحيط بغالبريث بأن البنود التي أدخلها غالبريث في الدستور العراقي حول النفط قبل شهور قليلة يمكن أن تغنيه بصورة كبيرة!».
وتعترف الصحيفة أيضاً، بعد أن قابلت ودرست وحللت الكثير من الوثائق، كما قالت، بدور غالبريث في كتابة بنود الدستور العراقي، وتحديداً في ما يتعلق بالقضية النفطية، وكذلك في استثمار علاقته بالقادة الأكراد، وبالأخص في ما يتعلق بالدستور، للحصول على مكاسب مادية في حقول نفطية في كردستان. وهنا – تستنتج «نيويورك تايمز» – نرى الارتباط واضحاً بين السياسة والتدخل في الشؤون الداخلية للدولة، وبين المال والشركات النفطية!
تضيف «نيويورك تايمز» أنها عندما نشرت نتائج التحريات والمقابلات التي قامت بها ومعها مجلة «التايمز»، لم ينكر غالبريث ذلك، بل أرسل رسالة إلى مجلة «التايمز»، ذكر فيها أنّ العقد وقّع عام 2004. وإنه «استمر في علاقات عمل مع الشركة النروجية أثناء مناقشات الدستور سنة 2005 وما بعدها!». وقال أيضاً: «إن كل ما قام به هو الدعاية لموقف كان الكرد قد أعلنوه حتى قبل المفاوضات مع شركة دي أن أو».
يشكك الأمير في أقوال غالبريث ويعتبرها محاولة للتملص من الإحراج الصحفي؛ لأنّ الموقف الكردي والمطالب التي كانت القيادة الكردية ترفعها تختلف تماماً عن تلك التي وضعها لها غالبريث. فالأكراد لم يكونوا يريدون كياناً مستقلاً يفرض شروطه وإرادته على الدولة العراقية، بل إدارة ذاتية للإقليم بما يمكن الحصول عليه من صلاحيات ضمن السيادة العراقية. أما غالبريث، فقد طرح عليهم خطة مقلوبة أو معكوسة تدعو إلى بناء الإقليم «الفيدرالي»، وفرض الصلاحيات الخاصة به على المركز الاتحادي فرضاً.
تبلغ اعترافات غالبريث ذروتها حين يكتب إلى «نيويورك تايمز»: «إن من الصحيح القول إنني قمت بنشاط كرجل أعمال في ذلك الوقت، وهو النشاط الذي يتلاءم بصورة كاملة مع موقف السياسي الثابت منذ فترة طويلة، حيث إن عملي في «دي أن أو»، وشركات غيرها، ساعد في خلق صناعة النفط الكردية، التي ساعدت في إعطاء كردستان القاعدة الاقتصادية لخلق حكم ذاتي يرغب به كل الأكراد تقريباً».
وحين سُئل غالبريث عمّن كان يدفع له مقابلاً مالياً أثناء تقديم المشورة حول الدستور للأكراد، قال: «لم يدفع الأكراد لي أيّ مبلغ في هذه الفترة؛ إذْ كانوا يعرفون أن شركة «دي أن أو» كانت تدفع لي»! ويعلق الأمير على اعترافات غالبريث هذه بالقول: «علينا أن نحترم الرجل لقوله هذا، إذْ كان صريحاً ولم يقل إنه كان يعمل بالمجان لوجه الله! أو لقضية إنسانية، أو للقضية الكردية! بل أكد أن شركة «دي أن أو» كانت تدفع له لأعمال يقوم بها لمصلحة حكومة الإقليم، وأن القادة الأكراد يعرفون ذلك».
وبعد استبعاد غالبريث الذي لم تتضح أسبابه حتى الآن من حصص عقود الشركة النروجية، ورفعه قضية ضدها في محاكم لندن وصدور حكم لمصلحته، قالت صحيفة «البوستن كلوب» في عددها الصادر في 6/10/2010، إنّ «إعلان التحكيم هذا يؤكد أنه كان لغالبريث دور رئيسي في حصول «دي أن أو» على عقدها في كردستان عام 2004. وتضيف الصحيفة أن غالبريث كان يعمل مستشاراً بأجر في سنة 2003 لقادة كردستان في أثناء مناقشاتهم مع الحكومة المركزية. كذلك فإنه ساعد في كتابة «بعض بنود الدستور التي أعطت الأكراد السيطرة على حقولهم النفطية المكتشفة حديثاً في مناطقهم. ولاحقاً في 2005 (سنة مناقشة الدستور) قدم «النصائح» للأكراد بصورة غير رسمية، وبلا مقابل! وهذا الأمر ينسجم مع ما قاله غالبريث سابقاً، بأن شركة «دي أن أو» كانت تدفع له لقاء «نصائحه» وبعلم القادة الأكراد».
غالبريث نفسه اعتذر عن إنكاراته السابقة، وقال لمراسلة «بوسطن كلوب» إنه كان مخطئاً عندما لم يعلن أعماله حينما كان يكتب عن العراق... «وإنني أعتذر عن ذلك!». ولكن في الوقت نفسه أكد لها أن السلطات الكردية كانت تعرف بأعماله، كما أكد لها أنه لا يوجد تناقض مصالح بين أعماله التجارية وما قام به من أعمال سياسية. ويعقب الأمير على كلام غالبريث هذا بالقول: «ومن الواضح أنه ما كان على غالبريث في حينه إلّا أن يؤكد الجملة الأخيرة بعدم «تناقض المصالح»، حماية لسمعته، ولا سيما أنه كان مرشحاً في ذلك الحين لعضوية مجلس الشيوخ لولاية فيرمونت عن الحزب الديموقراطي!».
يخبرنا الباحث العراقي أنّ مؤهلات غالبريث العلمية ونشاطه في الحزب الديموقراطي ساعداه في أن يكون في بداية حياته العملية موظفاً ومحللاً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، وذلك بين السنوات 1979-1993. ومن ثم عيّن في عهد الرئيس كلينتون كأول سفير للولايات المتحدة الأميركية في كرواتيا، وكان له دور واضح في الحرب الأهلية اليوغوسلافية وتفتيت يوغوسلافيا. وبين السنوات 2000-2001 كان مدير الشؤون السياسية والاقتصادية والانتخابية للحكومة الموقتة التي شكلتها الأمم المتحدة لتيمور الشرقية، وهي منطقة أخرى تعرضت للتفتيت والتقسيم. ثم شغل منصب نائب الممثل الخاص للأمم المتحدة في أفغانستان وطرد من منصبه هناك في أيلول 2009 من قبل ممثل الأمم المتحدة النروجي «كاي أيدي»، إثر اختلاف متعلق بنتائج انتخابات الرئاسة الأفغانية. وهكذا، فخبرة الرجل وطبيعة المهمات التي قام بها لمصلحة حكومته الأميركية تجعله متخصصاً في تقسيم البلدان المستهدفة وتفتيتها، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم وجوده ودوره في العراق المحتل.عام 2006 صدر كتاب غالبريث الخطير «نهاية العراق: كيف خلقت عدم كفاءة الأميركيين حرباً بلا نهاية». وهو الكتاب الذي تشير إليه كل المصادر، وتقتبس عنه ما قاله غالبريث عن دوره في صياغة الدستور العراقي. والكتاب يدعو إلى تقسيم العراق، وما يتبعه من فوضى النفط ويلوم إدارة جورج بوش لعدم قيامها بذلك، ويعتبر ذلك عدم كفاءة. فهل نجح غالبريث في أداء مهمته التفتيتية حتى الآن، أم أنه اكتفى بأن دسَّ العديد من الألغام وبذور المشاكل في الدستور العراقي وهيكل الدولة، دولة المكونات الهشة والمتناقضة والمنتجة للأزمات بشكل دوري؟
* كاتب عراقي