سياسة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، التي تحفّز على بناء الجيش وزيادة قدراته، ليست جديدة ولا استثنائية، بل هي حصيلة تطوّر تراكمي ابتدأ منذ الخمسينيات، حين شجّعت اميركا اليابان على اعادة بناء قواتها المسلحة تحت شعار «المشاركة في تحمّل كلفة الدفاع» ومواجهة الخطر السوفياتي، ثمّ قامت اليابان بتحديث أسطولها – برعاية اميركية ايضاً – بشكلٍ مضطرد منذ الثمانينيات. واليوم تبدأ، مع صعود الصين، مرحلة جديدة في بناء الجيش الياباني (يسميها الأميركيون «تطبيع الجيش») وتحريره من القيود الدستورية والقانونية التي وسمته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
يمجّد الكثير من العرب التجربة اليابانية (والألمانية والكورية)، بمعنى تحقيق النموّ في ظل الامبراطورية، والتركيز على النهوض الاقتصادي مع تلزيم السياسة الخارجية والسيادة لإرادة الأقوياء. هذه الدول قد تمكنت بالفعل من الاستفادة من موقعها في النظام العالمي وأفضليات العلاقة مع اميركا لتخط مسيرة اقتصادية مثيرة للإعجاب. ولكن البعض لا يأخذ الكلفة بعين الاعتبار، وأوّلها أن دور هذه الدول، لعقود، كان أن تنتظر ابادتها بالقنابل النووية مع أوّل طلقات الحرب العالمية الثالثة؛ وهي اليوم تسخّر جيوشها وميزانياتها وسياستها الخارجية لخدمة الحلف الأميركي في وجه المنافسين الجدد.
في المبدأ، المادة التاسعة من الدستور الياباني (التي كتبها ضباط الجنرال ماك آرثر بالانكليزية أيام الاحتلال المباشر، وتمّت ترجمتها بيابانية ركيكة) لا «تحدّ» من حجم الجيش، بل تمنع البلد من اقتناء قوات مسلحة في الأساس. كلّ خطوة لبناء جيش اليابان مرّت عبر «اعادة تفسير» للدستور، وصولاً الى التعديل الأخير في تموز الماضي الذي سمح بمبدأ «الدفاع المشترك»، ما يجيز للجيش الياباني أن يقاتل خارج أرضه ضمن حملةٍ يشنها حلفاؤه.
حتى لا ننخدع بالصورة «السلمية» عن اليابان، فلنتذكر أن البلد لديه أحد أقوى الأساطيل الحربية في العالم. هو يملك ست مدمّرات من مستوى المدمرات الأميركية التي ترافق حاملات الطائرات (مع نظام «ايجيس» المتقدم وكل شيء)، واثنتان من هذه السفن هم في الواقع أكثر تطوراً من مثيلاتهما الأميركية. واليابان تملك ايضاً اربع حاملات طائرات وهليكوبتر- تدعوها «مدمرات هليكوبتر» من أجل تجنب التسمية - وسيزيد عدد الغواصات الحديثة من 16 الى 22. بالمعنى القتالي والسياسي اذاً، بحرية اليابان هي عبارة عن مجموعتي حاملات طائرات اميركية تعمل تحت علم آخر.
على رغم الزيادات المتتالية في الميزانية العسكرية، فإن اليابان فهمت أن المنافسة مع الصين ليست ممكنة على المدى البعيد، فاقتصاد الصين أكبر، والديموغرافيا الصينية متفوقة، وقد صار الانفاق العسكري الصيني أضعاف مثيله الياباني. هذه العوامل تدفع اليابان لمزيد من الاعتماد على الحليف الأميركي والتكامل معه. ولكن الى اين؟ اليابان الامبراطورية كانت تملك، على الأقل، رؤية «آسيوية» للمنطقة ومستقبلها، وان كانت تقوم على هيمنة. امّا اليوم، فهي كاسرائيل تماماً: موقع متقدّم للأجنبي القوي، مصيرها من مصيره.