جزءٌ من مهمّتنا المنهجية هو كتابة اقتصاد سياسي لعلم الإحالات البحثية (Scientometrics)، وضمناً استبدال الأرقام والقياسات الاقتصادية المتداولة حالياً بأرقام وقياسات الإحالات البحثية الأكاديمية، على اعتبار أنّ قيمةً مراكمتُها وتوزيعُها هما موضوع علم الاقتصاد الكلاسيكي هي إنشاءٌ سياسي ما بين أقسامي (إمبريالي بطبيعة الحال) وليست قيمةً «طبيعية» موجودة في الخارج لتجميعها ومراكمتها وتوزيعها (العرض هو عرض معرفي - سياسي، والطلب هو طلب معرفي - سياسي، وليس هناك مادة أو بضاعة يَحتاج إليها السوق بـ«طبيعته»). تأويل اقتصاد السوق من خلال تعالقات النصوص البحثية (النصوص ذات السلطة المعرفية) وليس العكس. هذا المسعى غير مرتبط ببعض المحاولات الاشتراكية لاستبدال الاقتصاد بالسيبرناتكس («سيبرنيطيقا»، وهو «علم الاتصالات والتحكُّم»)، التي كان عدم وجود نظرية سياسية لها كفيلاً بإنهائها وجعْلها أقرب إلى علوم الإدارة الأميركية الفوردية والتايلورية التي اعتنقها السوفيات في وقت مبكر، لتشكِّل لاحقاً منافساً هيكلياً للماركسية من داخل النظام. يُصوَّر النفط على أنه الثروة الأسهل؛ تَستخرجه، تصدِّره، وتَتسلّم سعره العالمي. لكنّ هناك نظاماً سياسياً إمبريالياً أقسامياً كاملاً جعله كذلك، وليس «طبيعة» النفط. معظم مخزونات النفط التي نعرفها اليوم لَم تكن لتُكتشَف من دون حجم هائل من ميزانيات البحث العلمي في مجال الكيمياء والجيولوجيا وابتكار طرق استخراج جديدة وعمليات تنقيبٍ ميداني مكلِفة. كذلك الأمر مع ألواح الطاقة الشمسية التي أصبحت أكثر فعالية مع الوقت بسبب ميزانيات البحث العلمي التي خُصِّصتْ لتطويرها؛ بمعنى أنها ليست طاقة موجودة في الخارج لجَنْيها، بل إنّ المزيد من الاستثمار في علومها يجعلها أكثر توافراً.
لو أنّ الميزانيات التي صُرِفتْ على تطوير مواد التنقيب عن النفط وطرقه (دون ميزانيات التنقيب الميداني) صُرفتْ بدلاً من ذلك على تطوير مفاعلات الاندماج النووي لكنّا الآن مع طاقة نظيفة ووفيرة. لكنّ هناك استثماراً إمبريالياً في النفط من خلال نظام البترودولار (النيوليبرالية ونظام البترودولار المرتبط بها أدّيا إلى نهاية «العصر النووي» وقسم الفيزياء بناءً على بُنية سياسية معرفية تَشكّلتْ بين الحربَين): مع كل برميل نفط يُحرَق، كانت الولايات المتحدة تراكِم المزيد من السلطة المالية والسياسية حول العالم (ليس «الإنسان» ولا «الشركات الكبرى» هي التي تدمِّر البيئة، بل السلطة الإمبريالية لواشنطن). سلطة، من حيث الاتساع والحيوية، ما كان بمقدور مفاعلات الاندماج النووي توفيرها دون مشروع سياسي أقسامي بديل.
وهناك سبب لعدم تَشكُّل هذا البديل. منتصف القرن الماضي ازدهرتْ خطاباتٌ (سرعان ما تبدّدتْ) تَرى أن الطاقة النووية هي حتمية التقدُّم البشري (يوتوبياً أو ديسيوتوبياً)، وهو تصوُّر لم تحظَ به طاقة الوقود الأحفوري يوماً، رغم تعالقاتها الجندرية كما رأينا في العديد من الأبحاث الأخيرة (أن السيارات الكهربائية لم يتمّ تطويرها بدايةً لأنها عُدّتْ أقل «رجولة» من سيارات الوقود الأحفوري، أي أن الهدف من السيارة هو ليس فعل الإيصال فحسب، بل الإيصال بطريقة محدَّدة والمساهمة في تكريس نظام اجتماعي). مشروع البترودولار كان إبقاء سعر النفط منخفضاً بشكل مصطنع من أجل إبقاء الاتحاد السوفياتي أقل استفادةً، والعالم العربي موالياً لواشنطن، والصين بحاجة إلى التجارة مع العالم من أجل النفط الذي تحتاج إليه صناعاتها المستجدة (إذْ إن تطوير المزيد من الطاقة النووية سيبدو أكثر تكلفة). دور الاتحاد السوفياتي في إطلاق عجلة النيوليبرالية كان أساسياً؛ في هذه النقطة أُحيلُ إلى أوسكار سانشيز - سيبوني، لأنني ضد فكرة فهْم نشأة النيوليبرالية من منطلق الولايات المتحدة فقط، علينا أيضاً أن نرى الحاضرة الإمبريالية الموازية ومساهمتها في هذه النشأة. هو يَرى أنّ الاتحاد السوفياتي هو الذي ضَغط من أجل تفكيك بنية بريتون وودز و«أمولة» الاقتصاد العالمي كي يتمكّن من بيع نفطه، وأن الولايات المتحدة هي التي كانت تعارِض ذلك بدايةً.
يُصوَّر النفط على أنه الثروة الأسهل؛ تَستخرجه، تصدِّره، وتَتسلّم سعره العالمي. لكنّ هناك نظاماً سياسياً إمبريالياً أقسامياً كاملاً جعله كذلك، وليس «طبيعة» النفط


الحماسة الأميركية المبكرة للحدّ من انتشار الأسلحة النووية كانت فعلياً حماسة للحدّ من انتشار كلٍّ من الطاقة النووية والعلوم النووية، وحتى رغبة في الحدّ من تقدُّم قسم الفيزياء الذي عُدّ خطراً (لأسباب سياسية) لمصلحة قسم الكيمياء (تشجيع الصناعات النفطية ضمناً؛ هناك ورقة لآدم هنية في «نيو لفت ريفيو» تتجاوز تيموثي ميتشل في شرحه لسياسات الصناعة البتروكيمياوية بداية القرن العشرين والهيمنة الألمانية على هذه الصناعة عالمياً حينها)، ولاحقاً لمصلحة قسم علوم الكومبيوتر. الأمر لا يتعلّق بالسلام العالمي، بل بالموقع السياسي لقسم الفيزياء ما بين الأقسامي في ألمانيا بدايةً وفي الولايات المتحدة من ثم. الأبحاث العلمية في مجال البتروكيمياويات والآلات والتجهيزات التي تُستخدَم في هذه الصناعة يمكن استخدامها نفسها في إنتاج غاز السارين والفي - إكس والسيانيد والخردل وغيرها الكثير من الأسلحة الكيميائية الفتاكة، لكن واشنطن لم تُبدِ اهتماماً بالحدّ من قطاع البتروكيمياويات (على العكس تماماً)، فضلاً عن كوْن النفط مدمِّراً للبيئة (حكومة الولايات المتحدة لديها وكالة «لحماية البيئة» منذ عام 1970، وهي تَعلم بمخاطر حرق الوقود الأحفوري منذ خمسين عاماً على الأقل).
خلال الفترة بين الحربَين العالميّتَين (أي قبل ولادة الطاقة النووية بعقدَين تقريباً)، رأتْ الولايات المتحدة أنّ مهمّتها العلمية التي تميِّزها ستكون «وصْل» العلوم الأوروبية التي عَزَلتْها عن بعضِها البعض التوتراتُ السياسية القومية وأساليبُ البحث القومية المتباينة (استُخدمتْ عبارة «إنقاذ» و«تطوير» العلوم الأوروبية من خلال وصْلها، أي مهمة سيبرنتكية ما قبل الولادة الرسمية للسيبرنتكس). وقامت جمعية روكفلر بتمويل «مراكز تواصل» للعلماء من مختلف الدول، أي التحكُّم بتواصلية العلوم، وما يمكن أن يصل إلى هذه الجهة وما لا يمكن، وتمّ تشخيص الرياضيات والفيزياء على أنهما المجالان الأهمّ بالنسبة إلى واشنطن في هذا الإطار، وأنّ الرياضيات والفيزياء الألمانيين هما موضوع إعادة الوصل بشكل رئيسي وبذلك تفكيك إرث المقاطعة التي فرضتْها بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى وبُعيدَها (رحلات ويكليف روز وجورج ديفيد بيركهوف إلى أوروبا والتقارير التي رفعوها إلى مؤسسة روكفلر، وجميعها موجود في كتاب «روكفلر وعولمة الرياضيات بين الحربَين العالميّتَين» لرينهارد سيغموند شولتز). سمعة الألمان في قسم الفيزياء لم تكن تضاهيها سوى سمعتهم في قسم الهندسة (ولكن مع فارق موقع القسمَين في الهرمية الأكاديمية هناك)، وكان يمكن لهذا القسم أن يتخذ مساراً مختلفاً. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت هناك مدرسة ناشطة في ألمانيا لهندسة ضد الرياضيات (اليوم نتخيّل تلقائياً الهندسة على أنها فائض من الرياضيات) تُعلي من شأن المهندس الفطري أو الحدسي. قام قسم الهندسة في الولايات المتحدة على إقصاء هذا المهندس لمصلحة فائض الرياضيات والإمبريالية الرياضية (هيمنة مناهج قسم على قسم آخر)، وذلك من خلال قسم علوم الكومبيوتر. تمّ محو قسم الفيزياء عبر اختزاله إلى مجالات هندسية إلكترونية وميكانيكية (أطروحة بول فورمان عن التحوّل باتجاه الفيزياء التطبيقية بُعيد الحرب العالمية الثانية).
حين نراجع بدايات قسمٍ جامعي ما، سنُفاجَأ بنوع النظريات التي كانت رائجة في حينها والتي تمّ «تقليمها» من أجل خلق المكتبة المرجعية للقسم (canon)، وهذه النظريات المقلّمة (لأهداف حواضرية إمبريالية)، والتي يمكن وصْفها بأنها «contrapuntal»، هي التي تَنفجر لاحقاً في القسم على شكل أزمات معرفية.
من خلال قسم علوم الكومبيوتر الذي ابتكرتْه الولايات المتحدة، تمّ احتواء الرياضيات وإزاحة الفيزياء من قلب النظام الأكاديمي. الفوردية - التايلورية، ومن ثم المهمة الوصْلية العلمية بين الحربَين وبعدها خطاب السيبرنتكس، هي التي هيّأتْ لولادة قسم علوم الكومبيوتر باعتباره قسماً أميركياً مستقلاً عن قسمَي الرياضيات والهندسة ويمثّل السياسة والاقتصاد الأميركيين على مستوى عالمي. وقسم علوم الكومبيوتر الأميركي هذا هو الذي أُنيطتْ به مهمة إعادة تنظيم الهرمية المعرفية بين الأقسام في الجامعة الأميركية (arch-department). في السياسة الأميركية الوصْلية للعلوم، عُدّ قسم الفيزياء قسماً ألمانياً بشكل فائض.
رغم الإنتاجات الألمانية الوافرة في قسم الكيمياء، إلا أنه لم يحتلّ قلب النظام الأكاديمي هناك، على عكس قسم الفيزياء الذي انتزعتْه ألمانيا من بريطانيا في القرن التاسع عشر من خلال تطوير الفيزياء النظرية التي كانت تُعدّ بدايةً «the second physicist». وبدلاً من التفلسف من خلال الفيزياء، فضّلتْ الولايات المتحدة التفلسف من خلال قسم علوم الكومبيوتر وإعادة تشكيل البُنى المعرفية من خلالها (لم يكن هناك فلسفة للوجود قائمة على الكيمياء كما هي الحالة مع الفيزياء الألمانية وعلوم الكومبيوتر الأميركية). وإذا كانت الرؤية الكهرومغناطيسية للكون أساساً في نهضة الفيزياء الألمانية في القرن التاسع عشر، فبلا شكّ أنّ الرؤية المعلوماتية (data) هي الأساس السياسي للرؤية الأميركية للكون والفلسفة.
لم يكن تصدير الصناعات الأميركية إلى الصين ممكناً إلا بعدما تحوّلتْ الصناعة (التي كانت حتى منتصف القرن العشرين مثال العقلانية الحداثية) إلى عقلانية من الدرجة الثانية مقارنةً بعلوم الكومبيوتر والمنطق الرياضي المرتبط بها وتشكيل بورجوازية الداتا مع خطاب سياسي ثقافي خاص بها (قطاع علوم الداتا في الولايات المتحدة كان مليئاً بالنساء بدايةً، لكن بعدما تَشكَّل كعقلانية جديدة، جرى إقصاؤهنّ حتى أصبح قطاعاً ذكورياً يصعب للنساء الوجود فيه، أي في الوقت الذي بات ممكناً تصدير الصناعة إلى الصين).
الإمبراطورية لا تقسِّم العمل عالمياً، بل هي تقسِّم العقلانية. وعكس ما هو شائع، فإنّ القيمة تسافر من الحاضرة الإمبريالية إلى الأطراف وليس العكس. أداء الأطراف لعقلانيات من درجة أقلّ موكَلة إليها يَزيد تلقائياً من قيمة عقلانية الحاضرة الإمبريالية؛ هي تراكم العقلانية.

* باحث