ربما لم أستغرب، ككثيرين، ما أثاره الرد الإيراني على اعتداء الكيان الإسرائيلي لقنصليته في إيران في الأول من نيسان، على ضفتي من ينتمون إلى «محور المقاومة»، من جهة، والمعارضين لـ«التوجهات الإيرانية» من جهة أخرى، من مبالغات في توصيف المشهد. وإن لم يخلُ الأمر في بعض الأحيان من مقاربات منطقية، إلا أن المبالغة الخارجة عن المألوف تمثّلت في اعتبار البعض أن الرد الإيراني أهم من عملية «طوفان الأقصى» (هذا ما صرّح به سياسي لبناني على قناة «الميادين»)، أمّا الطرف الآخر فاعتبرها «مسرحية» متفقاً عليها. ومن الواضح أن الأفكار المسبقة، الموافقة أو المخالفة، المبنيّة على توجّه سياسي أو أيديولوجي مبالغ فيه، كفيلة بحجب الرؤية عن قراءة المشهد. ومن الممكن الاتفاق مع مقاربة الدكتور عزمي بشارة بأن الخيارين «مسطحان، والخياران أيديولوجيان وعاطفيان لهما علاقة بالمواقف المسبقة، الذي حدث مهم، لأنه أول هجوم إيراني من أرض إيرانية وبحجم كبير، ولم يحصل منذ حرب الخليج الثانية» (مقابلة على التلفزيون العربي، 15 نيسان).
يعتبر الكثير من المثقفين والمناضلين الفلسطينيين أن خروج مصر من معادلة الصراع مع العدو الإسرائيلي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، كان بداية الانكسار والتراجع العربييْن (وإن كنتُ أميل إلى أن أزمتنا مع العرب ابتدأت منذ تعاون الشريف حسين مع البريطانيين لطرد العثمانيين من المنطقة، فهو برأيي، ورأي كثيرين أيضاً، كان كارثة تاريخية كلّفتنا الكثير من استعمار المنطقة، وضياع فلسطين). ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وصولاً إلى توقيع «اتفاقات أبراهام»، انحدر العرب من السيّئ إلى الأسوأ بحق القضية الفلسطينية، مقابل تنصّل كامل من قبل الاحتلال من كل اتفاق أوسلو. وفي ظل عجز وغياب مشروع عربي داعم للمقاومة، ازداد الاستيطان في الضفة الغربية، وفتحت شهية اليمين الإسرائيلي المتطرف على هدم المسجد الأقصى، وأصبحت آمال الدولة الفلسطينية الموعودة على حدود الـ67 ضرباً من الخيال.
إذاً، العرب بكل بساطة خارج المعادلة. وما تابعناه من سباب وشتائم على منصات وسائل التواصل الاجتماعي للضربة الإيرانية «ناجم عن عدم وجود مشروع عربي، فالمنطقة تتقاسمها إيران وتركيا، وإيران و"إسرائيل"... نحن نسقط خيباتنا وآمالنا على تلك الدول» (عزمي بشارة، المقابلة نفسها).
بعد الإعلان عن رد إسرائيلي عبر توجيه ضربات في أصفهان، فإنّ مخاوف المنظرين الإسرائيليين، من باحثين وصحافيين، قد تحقّقت، ذلك أن هذا الرد أقل ما يقال عنه أنه باهت و«ضعيف» كما عبّر الوزير في حكومة الاحتلال إيتمار بن غفير. وليس بعيداً عن هذا الرأي، وصف عاموس هرئيل من صحيفة «هآرتس» الهجوم على أصفهان بـ«المحدود»، نظراً لعدم تحقيق أي إنجاز في العدوان على غزة. أمّا عن عملية «الوعد الصادق»، فيذهب محلل الشؤون العسكرية والاستراتيجية الإسرائيلي عاموس يدلين، إلى أن الرد الإيراني «حتى لو فشل، فإنه تخطى خطوطاً حمراء خطِرة، وبصورة غير مسبوقة، وأضرّ بقدرتنا على الردع». الباحثان أورنا مزراحي، ويورام سفايتسر، من معهد دراسات الأمن القومي، وتحت عنوان «الرد على إيران ليس ضرورياً الآن، وقد يمس بتحقيق أهداف الحرب»، أبديا تخوفاً من رد إسرائيلي محصور يمكن أن يخفض منسوب الردع أمام إيران، وهو ما تحقق فعلاً، وهو حتى لم يرض اليمين المتطرف كما صرح بن غفير.
الأفكار المسبقة، الموافقة أو المخالفة، المبنيّة على توجّه سياسي أو أيديولوجي مبالغ فيه، كفيلة بحجب الرؤية عن قراءة المشهد


من البديهي القول إنّ العرب يتفاوتون في علاقتهم مع إيران، لكنهم متفقون على ما يسمى «المبادرة العربية للسلام»، والسؤال الذي يطرح نفسه بعد تلك السنوات الطويلة على تلك المبادرة: هل الكيان الإسرائيلي ما زال يؤمن بالسلام وحل الدولتين؟ الجواب: لا كبيرة.
إذاً، ما هو الحل المتبقّي أمام الفلسطينيين؟ إمّا التسليم بالقهر، والتهجير، أو امتشاق السلاح والقتال.
إذا كانت إيران، ومنذ انطلاق الثورة فيها عام 1979، قد قرّرت دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، وتحمّل التبعات كافة، وليس هناك من خيار إلا المقاومة، فأين يكمن دور العرب؟
هناك مقاربة واقعية (ربما تعتبر سريالية نظراً إلى السياسة العربية الحالية تجاه فلسطين!) تمثّل الحد الأدنى من الواجبات الوطنية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية، وهي مقاربة الدكتور عبد الرزاق مقري، الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، ونائب رئيس البرلمان الجزائري سابقاً، طرحها في مقاله المنشور في موقع «الجزيرة نت» في 15 نيسان: «عن الرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي». وتتمثّل في أنه، وفي ظل استبعاد خيار عربي بالاشتباك العسكري مع الاحتلال، فباستطاعة الدول العربية دعم إيران دبلوماسياً وهي التي تواجه الكيان الإسرائيلي وتتحمّل تداعيات كبيرة، كذلك دعم المقاومة الفلسطينية، مترافقاً ذلك مع إنهاء التطبيع فقط، وإغاثة الشعب الفلسطيني وإدخال المساعدات.
بالتالي، هل يستطيع أصحاب نظرية «المسرحية»، الضغط على النظام الرسمي العربي على الأقل لتنفيذ الشق المتعلق بدعم المقاومة وإدخال المساعدات، وتسمية زعماء الدول المتخاذلين؟ وهل هناك أسوأ من «مسرحية» إلقاء المساعدات من الطائرات؟ أو ماذا نسمّيها؟

* إعلامي فلسطيني