أناس يظهرون على الشاشات لترديد محفوظات وقوالب عن دعم الفلسطينيين، ويشيرون عادةً إلى ثبات وتاريخية موقف مصر هذا، متشنّجين برفض أي مزايدة عليه. كاذبون. أعرف وغيري كذبَهم لأننا نعرفهم مباشرةً، يمثلون نمطاً شائعاً بكثرة في دوائر القريبين للدولة وذوي الارتباط بها، والمحاسيب وأصحاب المصالح الكبرى. والحقيقة أن قطاعاً معتبراً من المصريين تشرّب - منذ النشأة - لا معاداة الفلسطينيين تحديداً، بل رفض اتّجاه ومبدأ الكفاح والمواجهة ذاتيهما، وربطهما بالحماقة والفشل بصرف النظر عن أي سياق أو ضرورة. تطرح الفكرة التأسيسية أن المستضعَف الذي لم يستطع لعقود تحسين شروط استضعافه، أو «تقنينه» لتخفيف أكثر آثاره سلبية، غالباً ما يجد مصلحة في ذلك وراء ظهورنا، وفي الخلفية تمويل الخليج والقذافي وغيرهما لمنظمة التحرير، أو أنه ضحية مطلقة وضعها الله حيث أراد. غزالة بين فكَّيْ نمر في غابة، مثلاً.تكره غالبية هؤلاء الفلسطينيين بصفتهم ظاهرةً إقليمية أو أصحاب معضلة. وعلى قناعة بأنهم - إجمالاً - محتالون طامعون ومثيرون للمتاعب، دأبوا على استغلال التعاطف العربي لجني المكاسب لا الانتصارات، وفوّتوا فرصة ذهبية للسلام في فندق «مينا هاوس» برفضهم دعوة السادات للتفاوض أواخر السبعينيات، ولم يلبثوا أن قبلوا ما رفضوه سابقاً، بعد عشرة أعوام ونيف في أوسلو، بعد مزايدة طويلة على مصر وتضحياتها، رغم الحادث الأليم الذي واجهَته عام 67 «بسببهم»، دون ضرورة معقولة لتعرّضها لتجربة مثل تلك، والتورّط في معاداة الغرب الذي اتّضح لاحقاً، بداية التسعينيات وبموازاة أوسلو نفسها، أنه لا يُهزم.
لا أرى ضرورة للرد على تلك النظرة بمنطق العقل، الذي تفتقده في الأساس، قدر ما أظن الإجابة دوماً في التحديد: أي فلسطينيين تعني؟ ولماذا ومتى وبأي سياق؟ والسبب ليس وجاهة ما يقولون. بل تحديداً تغطيته الأطراف المسؤولة عن المقولة التبسيطية، أننا أضعف من إسرائيل والغرب الجمعي، وإسقاط أسباب صراعنا معهم، أي دوافع المعركة في الأساس، التي يرى أغلب هؤلاء (بلا مزاح) أنها أقرب إلى النفسية عند عبد الناصر، وكذلك إسقاط دور ودلالة حضور الأطراف المعاكسة، التي تقاوم وتمثل عرباً وفلسطينيين مرتبطين بالأرض نفسها وسكانها، ومنطقي أن ندعمها بشكل فارق وجاد، سواء كنّا نلمّح عن «تخلّي» بعض الفلسطينيين أنفسهم أو عن تململ «العرب» من دعم القضية وتراجعهم أمام العدو لأسباب «واقعية». ألا يبدو هاماً تشخيص التخلّي، وجذوره، ومن يسأل عنه، وتحديد أي عرب نقصد وعن أي مشروع سياسي أو مصالح تعبّر فاعليتهم وموقفهم؟ من جهة أخرى، إذا أحجمت عن أي مواجهة لإسرائيل، ونظّرت لقوتها مثل معطى غيبي، كيف تلومها إن قوّضت محيطك ومصالحك ودفعتك للحائط أكثر؟
في الحالة المصرية تندرج تلك النظرة تحت عنوان «الاستقرار» وهو شبه أيديولوجية كاملة


عايشت وقت الانتفاضة الثانية ترديداً إعلامياً يسأل: أين العرب؟ وتدريجياً - لسنوات - رأيت عرباً راكموا القوة وقاتلوا وانتزعوا مكاسب عملية حقيقية، وبذلوا جهداً مركّباً ومتطوراً في مجالات متعددة، رغم مصاعب جمّة، وآخرين عملوا لطمر هذه الظاهرة بالذات، وتنفيذ تكامل إقليمي مع إسرائيل يتجاوز مصالح أغلب العرب، وفي مقدمتهم نقطة التعادي بينهم وبين الكيان، الفلسطينيون. بدا السؤال أسخف بتوالي أحداث مثل مبادرة السلام العربية وحرب 2006 في لبنان وفكرة صفقة القرن والتطبيع، وبعد «الطوفان» يعكس السؤال عجزاً وتجاهلاً (أو تغافلاً)، تجاه خارطة المصالح والقوى للنظام الرسمي العربي، وواقع الشعوب العربية وحدود فعاليتها الحالية ومدى تمثيلها السياسي. مثلاً، يصعب حلّ معضلة رفض دول الطوق الضغط أكثر لصالح غزة، وكذلك الخليج، وحلف المقاومة يواصل الإسناد بالاستنزاف وتحقيق أهداف قصيرة المدى - واقفاً عند إشعال حرب إقليمية من لبنان - واليمنيون ينفذون حصاراً عملياً، مستهدفين قطعاً بحرية أميركية، والإنزالات المصرية والأردنية جاءت بعد عجز عن إدخال مساعدات كافية برياً، ولم تمنع موت الناس جوعاً. فماذا نفعل؟ نسأل أين العرب.
المسألة أن أغلب أصحاب هذا الخطاب يظلّون معترفين بسلطة أوسلو ممثلاً لهذا الشعب، مع أنها ملخص للتيار الانتهازي المنتقَد، وهم أقرب للعداء تجاه المقاومة رغم بذلها التضحيات. وعلى وفاء لذلك طالما كانوا مؤيدين لشعار الواقعية هذا أو للإدارة المصرية. وجميعهم يستخدمون تاريخ الصراع دليلاً على هزيمتنا التاريخية، وهي ذاتها تعني أن لا أفق لمكاسب أعلى مما يحدد الأقوى/المنتصر. كأن جمْع قضية فلسطين اللبنانيين والأردنيين والسوريين والمصريين، وغير العرب، حدَث في المنطقة سابقاً وسط ذروة تاريخية محددة، بصفة استثنائية، ولم يعبّر عن معنى أكبر ومستداماً. وهذا تنقصه الدقّة بحكم حجم القضية نفسها: قد يبدو القول مكروراً لكنها تظلّ المركزية لأغلب سكان المنطقة، لأسباب منها الملموس لا محض الفكري أو العقائدي. والدليل أن عشرات آلاف العرب يبادرون الآن بالفعل لمشاركة الفلسطينيين معركتهم، ولا يُعقل بذلهم الدماء والخسائر والجهد بالمبادرة، مواجهين عقوبات حلف الهيمنة، لتسجيل موقف مشرّف أو لدعم دور إيران الإقليمي وحسب.
في الحالة المصرية تندرج تلك النظرة تحت عنوان «الاستقرار»، وهو شبه أيديولوجية كاملة، ولا يمكن حتى حصره في جمهور الدولة وحده. وقدر ما تعظّم الفكرة بعث قوة البلد بعد هزيمة حزيران، وصولاً إلى النصر عام 1973، تؤكد بالتالي أن الخط الأحمر الأكبر، وهذا ما تثبته الوقائع، ليس تعاظم قوة إسرائيل أو تصاعد عربدتها، ولا تحميلها مصر المشاركة في حصار غزة، وشروط كامب ديفيد في سيناء سابقاً، بل «التورط» في تعارض قوي معها أو اتخاذ إجراء جذري ضدها، وأن آخر حروب مصر (بالمطلق) وقعت ولن نختار منطق أو منهج المواجهة ذاته للأبد، لأنه خيار تدميري. هكذا معنى يقوله الرئيس نفسه، وبات مستهلكاً استدعاء الوجه الناصري، والتلويح بالقوة الكامنة لكن الضخمة والتلميح إلى تفعيلها، على لسان إعلاميي الدولة، وواضح ارتباطه بعجز عن تهديد الصهاينة فعلاً، وقد جاء الخط الأحمر الفاعل على اجتياح رفح أميركياً لا مصرياً. سنجد في خطاب الخارجية ما يقول إن إسرائيل تقوض الاستقرار، لكن لا إجراء أبعد من مرافعة قانون دولي.
السبب الأكثر جوهرية ليس ضعف مصر بالمطلق - مقولة غيبية مثل حتمية ضعفنا أمام منظومة الهيمنة - بل قرار وقناعة الإدارة بأن مصر معنية بالقدر الذي يكفله الواقع، الذي تحدده المنظومة، والقانون الدولي. وعندما ينتقد الناطقون باسمها هذا القانون، أو يسبون صمت العالم وتآمر الغرب - الذي لم يعد تآمراً - وينعون العرب ويتحسرون، لا تصدّقوهم. هذه رسالة مسجلة، فيها نفاق وإيثار للانكفاء واستدعاء للتاريخ أكثر من الواقع، وتقديس ضمني لسقف يحدّ المخيلة السياسية ذاتها. وتفويت استغلال عشرات العوامل المؤاتية، والتحولات الإقليمية والدولية، للضغط على إسرائيل، لا يرجع إلى الديْن الخارجي ونفوذ السعودية والإمارات وحسب، ولا يعكس توجيهاً غربياً بالذات. بل كذلك تصور الإدارة المصرية للصراع وذاتها ودور مصر.

* كاتب مصري