«الذين يأخذون علينا من أعدائنا أنّنا لا نقرأ، وبالتالي نكرّر الأغلاط هم أشدّ منّا خطأً لأنهم يواجهوننا وكأنّنا قوم بلا تاريخ. وهذا ما يواجه الصهاينة به اليوم جنوب لبنان بتجاهلهم الصلة الوثيقة التي ربطته بالأرض الفلسطينية بالماضي، وتربطه بالقضية الفلسطينية رباطاً وشيجاً أبدياً»[تقيّ الدين الصلح، 1980]

تُعانق تلال جبل عامل هضابَ الجليل الأعلى وتلتفّ الوديان حولهما كالرباط المشدود وكأنها تأبى أن يفرّق التاريخ ما جمعته الجغرافيا. فالتاريخ صناعة البشر، يتأرجح بين التلاقي والتباعد. لكنه لا يُلغي وحدة المصير في السرّاء والضرّاء. حكاية جبل عامل مع الجليل عمرها ألوف السنين، تشهد عليها آثار العصور الغابرة من مساكن بدائية في الكهوف ومن آبار ومدافن ومعاصر حُفرت في الصخر ومنه؛ ومن عمران بشري في عصر الزراعة الحضرية بين قرى ومدن وممالك امتدّت عبر الساحل وفي الداخل في كلتا المنطقتين دون تفرقة.
وتشهد عليها كذلك هجرات وحروب شعوب وقبائل شرق المتوسط في العصور القديمة وغزوات الفرس والروم ومن بعدهم عرب الجزيرة المسلمون في العصور الوسطى. فقد أقام كلّ هؤلاء تقسيمات سياسية وإدارية لم تُراعِ يوماً الحدّ الفاصل اليوم بين الإقليمَين وما يحيطهما من أصقاع بلاد الشام؛ فتارةً تبِع جبل عامل وادي التيم، وتارة أخرى تبِع سنجق صفد في الجليل. ولم يجد والي عكا أحمد باشا الجزار بُدّاً من إخضاع جبل عامل بالحديد والنار كي يستوي حكمه في شمال فلسطين. ولجأ علي الصغير إلى آل طوقان في نابلس بعد خسارة سلطانه في موطن العامليين. وقد أشار كل من ابن الأثير واليعقوبي في مؤلفاتهما إلى جبل عامل بجبل الجليل أو جبل الخليل.
وعندما ألحق جبل عامل بولاية بيروت العثمانية عام 1888، ضُمّ معه سنجقا نابلس وعكّا. وبعد قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 والذي خطّ للمرة الأولى حدوداً برّية صارمة بين لبنان وفلسطين، كان العامليّون بمعظمهم، وكما تشير وثائق لجنة كينغ كريان الأميركية والتي أرسلت لاستقصاء رأي الأهالي حول استقلالهم، من دعاة قيام الدولة العربية. وهم تماهوا في خيارهم ذلك مع غيرهم من أبناء الجليل وعموم فلسطين وبلاد الشام باستثناء جبل لبنان. وبايع أعيان جبل عامل الحكومةَ العربية في دمشق وشاركوا في مؤتمر الحجير عام 1920 ولاحقاً في مؤتمر الساحل عام 1936 المُطالب بالوحدة السورية. واستشهد عامليّون، كأدهم خنجر وصادق حمزة، في وجه المستعمر الفرنسي.
في حقبة الاحتلال الفرنسي، والمعروفة بالانتداب، حاول الفرنسيون لبننة المجتمع العامليّ، والذي بات يُشار إليه بمتصرفية لبنان الجنوبي، من خلال التمثيل السياسي الطائفي - مع الإبقاء على تهميشه اقتصادياً. وقد تواطأت الأسر الإقطاعية (والأصحّ البورجوازية الكولونيالية الزراعية) مع الفرنسيين كما هي حال نظيراتها في المناطق الأخرى. لكن تبنّي الهوية اللبنانية من قبل الشريحة الكبرى من المجتمع العاملي تأخّر عقوداً إلى حين ظهور قوى طائفية جماهيرية وانخراطها في مؤسسات الدولة في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولم يكن هذا الدمج ليُحدِث قطيعة جغرافية مع الجليل وبقية فلسطين لولا نشوء الكيان الصهيوني عام 1948. فعلى الرغم من إعادة تشكيل خريطة بلاد الشام عام 1920والتي أدّت الى إلحاق جبل عامل بلبنان، بقيت عكا والجليل الأعلى - وحتى الأربعينيات - مقصد أهل قرى الجنوب للتجارة. وكانت أسواق الجنوب كسوق الخان مقصد أهل فلسطين وملتقى أهالي قرى العرقوب وحاصبيا والنبطية لبيع وشراء الحبوب القادمة من حوران وغيرها من الأراضي الزراعية ولتبادل السلع المُصنّعة في راشيا الفخار من أباريق وجرار وخوابٍ. وبقيت كذلك العلاقات الأُسَرية والاجتماعية كالتصاهر والتسامر بين أهالي جبل عامل والجليل الأعلى عامرة. وحتى ما حرّمه القانون حلّله التهريب في المواشي والسلاح وأحياناً البشر. وبقي ما يجمع بين الجنوب والجليل من تقاليد قروية في الملبس والمأكل والفولكلور الموسيقي والتعبيري واللهجات المحكيّة والمخيّلة الشعرية أكثر ممّا يجمع الجنوب بجبل لبنان على كثرته.
وعلى عكس بيروت التي انتعشت على حساب مرفأ حيفا بعد النكبة، تضرّر جبل عامل من جرّاء انفصاله عن فلسطين وانقطاع أواصر التواصل مع الجليل الأعلى. ومع الوقت زادت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على جبل عامل والتي وصلت إلى حدّ الاجتياح عامَي ١٩٧٨ و١٩٨٢، ما فاقم من معاناة الجنوبيين الاجتماعية والاقتصادية وسرّع من النزوح نحو ضواحي بيروت والهجرة عبر البحار.
لكن ما فرّقه الاحتلال جمعته المقاومة. فمع مرور الزمن، وتخاذل دول الطوق عن دعم الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، تحوّل الجنوب إلى جبهة المواجهة الثانية بعد فلسطين. وتُرجمت وحدة المصير فعلاً لا قولاً عبر امتزاج دماء المجاهدين العامليين بدماء إخوانهم الفلسطينيين عبر عقود حتى تجلّت اليوم في مفهوم وحدة الساحات تحت راية المقاومة الإسلامية بنسختَيها اللبنانية والفلسطينية. وقد توحّدت الساحتان اليوم ضمن قواعد اشتباك وتنسيق متبادل راكمت خبرات الماضي وتعلّمت من أخطائه فتخطّت التوقّعات من حيث الإنجازات إذا ما قيست بالقُدرات؛ وخاصة في غزة. ولولا تخاذل الأنظمة العربية، والمنهمكة في قمع شعوبها وهدر ثرواتها، لكانت انتصارات المقاومة العسكرية قد تُرجمت انتصاراً سياسياً في فترة وجيزة.
لطالما جهل أعداء المقاومة في لبنان هذا التاريخ أو تغافلوا عنه. فهم يقيسون المعركة من زاوية المصالح الفئوية الضيقة أو زواريب السياسة اللبنانية المقيتة أو من باب التبعية الذليلة للغرب وحلفائه العرب. حبّذا لو يجارون ذلك الغرب في توحيد ساحاته هو من أجل دعم إسرائيل على قِصر التاريخ المشترك بين العدوّ والغرب وتباعد الجغرافيا واجتماع الاثنين على إعانة الاحتلال على ظلمه لا على حقّنا. لكنّ المتحاملين على المقاومة يُجارون الغرب في جَوْره على شعوبهم لا في أخذ العِبر منه حول المعاني الحقّة للحرية والسيادة والاستقلال. إنّ من لا يرى بعين التاريخ والجغرافيا، لن يفقه معنى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر... ومن جبل عامل إلى غزة.

* أستاذ جامعي في التاريخ والاقتصاد السياسي