الحديث عن واقع الباحثات بشكل عام يستوجب رجوعاً في الزمن لفهم الإجحاف الذي وسم تاريخ المرأة في العلوم. فما وصلنا من سرديات علميّة يوحي وكأن الباحثاتِ غيرُ مرئيات أو بأفضل الأحوال ملحقاتٌ بزملاء احتلوا المشهد. الأمثلة لا تحصى من ماري-آن بولز التي يتناسى التاريخ أنها لم تكن فقط شريكة لافوازييه، "أب" الثورة الكيميائية، في الحياة بل أيضاً في الكيمياء، إلى روزاليند فرانكلين الملقبة بالمنسيّة في نوبل 1962 التي لولا إسهاماتها في فهم تركيبة الحمض النووي لما استُحقت جائزة نوبل ل"أبوي" الحمض النووي واطسون وكريك… أيضاً نذكر أنه، في مسار اكتشاف علاقة الكروموزوم 21 بمتلازمة داون، ذُكرت مارت غوتييه بشكل ثانوي عند إعلان النتائج عام 1959، ورغم أنها ناضلت على مدى سنين طويلة لإثبات حقّها في هذا الإنجاز العلمي، كان عليها أن تنتظر 35 سنة لتقرّ لجنة أخلاقيات المعهد الفرنسي للصحة والبحوث الطبية INSERM بأن لا أرجحية لمن نُسب إليه الاكتشاف. في حينها، هنأت البيئة العلمية نفسها بإحقاق بعض الحق لمارت غوتييه، ولكننا فعلياً نجهل كم من باحثة سُلبت إسهاماتها أو هُمّشت في الصفوف الخلفية. هذه عيّنة ممّا نستخلصه كلّما محّصنا تاريخ العلوم والعلماء. ومن التاريخ إلى الجغرافيا، لنستنتج أن واقع المرأة في العلوم يتبع، تقريباً، نمطاً متشابهاً في كافة بقاع الأرض، ولو أن الجهود التي بذلت في بعض الدول بدأت تؤتي ثماراً متواضعة بفعل قوانين وأنظمة وإجراءات تسهّل الوصول إلى بيئة علميّة أكثر مساواة. ولكن حتى في هذه الدول تبقى النتائج دون المأمول، ويكفي أن نستذكر مثلاً أن الأكاديمية العلميّة الفرنسية التي تأسست عام 1666 لم تشهد دخولَ أولِ امرأة إليها وهي إيفون شوكيه -بروهاه إلا بعد قرابة ثلاثمئة عام، وما زلنا حتى اليوم لا نجد الكثير من النساء في المواقع القيادية الأكاديمية والعلميّة، وهو ما ينطبق تماماً على منطقتنا العربية بشكل عام... بحسب إحصاءات "اليونسكو"، تشغل النساء ثلث إجمالي الباحثين حول العالم، وفي أوروبا نجد هذه النسبة أيضاً، أما في المنطقة العربية فتصل هذه النسبة إلى أربعين في المئة (!). بالأرقام أيضاً، تشير الدراسات التي ترصد واقع البحث العلمي في المنطقة العربية إلى تزايد ملحوظ في نسبة طالبات الدكتوراه، وهي المرحلة التي تؤسس لمسيرة البحث العلمي، حيث أنها تتخطى نسبة الذكور وفي الكثير من المجالات. وفي الوقت نفسه، تشير هذه الدراسات إلى تناقص نسبة حضور المرأة في الوظائف البحثية وكلما صعدنا في السلّم الوظيفي البحثي والعلمي.
في لبنان، وفي ظل غياب أي معطيات موثوقة، أسسنا بالتعاون مع "اليونسكو"، المرصد الوطني للمرأة في الأبحاث "دوركنّ" كاستجابة لضرورة دراسة واقع الباحثات اللبنانيات من حيث حضورهن في البيئة البحثية، إنتاجهن المعرفي، مساراتهن العلمية، العوائق والتحديات التي تواجههنّ، بالإضافة إلى نشر الوعي في هذا الخصوص كما والعمل على تسليط الضوء على إنجازاتهن العلمية كمساهمةٍ في مواجهة تغييبهنّ. وفي أول مسحٍ أجراه المرصد لعامي 2018 و 2019، عملنا على تحليل معطيات برامج المجلس الوطني للبحوث العلمية والتي تغطي كافة الجامعات البحثية ليتبيّن لنا أن نسبة الفتيات في المرتبات الخمس الأول وفي كل فروع الشهادة الرسمية تتخطى 71%، ووصلت نسبتهن كحائزات على منحة دكتوراه ضمن البرنامج الوطني لمنح الدكتوراه إلى 72% (ازدادت هاتان النسبتان لتصلا إلى أكثر من 82% في العامين المنصرمين). أما في برنامج دعم المشاريع البحثية، فهبطت نسبة الباحثات اللواتي حصلن على تمويل لمشاريعهن إلى 33%، لنصل إلى فقط 26% كحصّة الباحثات اللبنانيات من إجمالي جوائز التميّز التي يمنحها المجلس للباحثين المتميزين. وللبحث أكثر عن تفسير لهذه الأرقام في ما يخص منح الدكتوراه وتمويل المشاريع وجوائز التميّز، وجدنا أن هذه النسب تتلاقى مع نسبة نساء خلال الترشّح، وهذا ما يمكن تحليله، في ما يخص فئة الباحثات، بنوعٍ من الرقابة الذاتية التي تمارسها الباحثات على أنفسهنّ، كما وترتبط بنسبتهن كباحثات في الجامعات اللبنانية والتي لا تتخطى 35% كما أظهر مسحنا الشامل للجامعات. في موازاة ذلك، بيّن لنا هذا المسح أن فقط 20% من عمداء الكليات هنّ عميدات وأقل من 8% في موقع رئاسة الجامعات. هذا التراجع كلما صعدنا في السلم الوظيفي العلمي يعكس من جهة تسرباً في مرحلة ما بعد الدكتوراه كما وعدم تكافؤ الفرص عند التقدم للوظائف العلمية والأكاديمية، دون إهمال السقف الزجاجي، وهو سمة عالميّة، والذي يُترجم الحواجز التي تعيق الوصول الى مواقع القرار، بالإضافة طبعاً الى الرقابة الذاتية التي تفرمل إقدام النساء على تولي مهام قيادية (وهي على ارتباط وثيق بعوامل ترتبط بالتربية والتشكيل الاجتماعي والثقافي كما وغياب الإجراءات المحفّزة لمراعاة التنوّع).
إلّا أن تحليل الواقع لا يجب أن يقتصر على المؤشرات الكميّة لنسبة مشاركة المرأة في البحث العلمي، بل يجب أن يتخطّاها للوصول إلى فهم أثر انسحاب النساء من رأس المال العلمي على نواتج البحوث من حيث شموليتها، كما وعلى الاقتصاد الكلّي وعلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة. في المقابل، يجب أن يرتكز هذا التحليل إلى عدة ثوابت أهمها أن واقع الباحثة اللبنانية لا ينفصل عن واقع المرأة اللبنانية بشكل عام. فما زال لبنان، ورغم مظاهر الحداثة، يقبع في أدنى التصنيفات العالمية في ما يخص المساواة بين المرأة والرجل وذلك بالإستناد إلى عدة مؤشرات منها نسبة انخراط النساء في العمل السياسي وسوق العمل.
وفي كل الأحوال، لا يجب إسقاط تفسيرات دخيلة لا تتلاءم بالضرورة مع واقعنا الاجتماعي-الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، النسب المرتفعة لطالبات الدكتوراه في الجامعات اللبنانية (حوالي 60%) قد لا تعني حكماً رغبةً في خوض غمار البحث العلمي في ما بعد، بل ربما هي ببساطة نتيجة صعوبة الحصول على فرصة عمل بعد أول مرحلة جامعية لصالح الخريجين الذكور، وقد تعني أن طلاب الدكتوراه الذكور يسافرون إلى الخارج لإتمام دراساتهم العليا. أيضاً، أي زيادة لنسبة الباحثات في الجامعات والمراكز البحثية قد لا تعني بالضرورة انعكاساً للمساواة بل قد تكون الوجه الآخر للنسب المرتفعة لهجرة الباحثين الذكور (كما يحصل في بعض الدول العربية التي هلّلت للنسب المرتفعة للنساء على اعتبار أنها دول أكثر مساواة !)... نحتاج لعدة دراسات تعالج كل هذه الإحتمالات كي نصل لتشخيص دقيق يتخطى الأرقام التي قد تكون مضلّلة إذا لم تراعِ كل هذا التشابك خاصةً في بلدان تعاني من أزمات اقتصاديّة وماليّة وسياسيّة وحتى أمنيّة تنعكس على كل الأصعدة.
في المحصّلة، وأيّاً كان هذا التشخيص، لا يمكننا أن ننكر أنه ورغم السعي الحثيث من قبل الباحثات اللبنانيات للإسهام بشكل أكثر فعالية في البحوث والتنمية إلا أن الإضاءة على حضورهنّ ومساهماتهنّ تبقى ضعيفة، إن لم نقل غائبة كلياً، مما يستوجب العمل أكثر على إبرازهنّ وتثمين مشاركاتهنّ في إنتاج البحوث كما في إدارة وقيادة مؤسسات بحثية، وذلك بعيداً عن شعارات التمكين التي تحمل في طياتها إقراراً بضعف إمكانات المرأة. فبعيداً عن لغة الأرقام ودلالاتها، وبالنظر إلى وقائع ملموسة لا مؤشرات كميّة لها، نجد أن الباحثات اللبنانيات، وفي كل المجالات العلميّة، يبدعن ويثبتن يوماً بعد آخر قدرة هائلة ليس فقط داخل جدران المختبرات حيث ينتجن بحوثاً وعلوماً متقدّمة، بل أيضاً خارجها حيث الحاجةُ الملحّة في بلادنا للتواصل مع المواطن ونسج علاقة ثقة بينه وبين العلوم والبحوث، وهذه مسؤولية اجتماعية قد تتخطى بأهميتها في بلادنا الإنتاج العلمي المتخصص. والأهم هو في أن الباحثات اللبنانيات، والعربيات عموماً، يثبتن يوماً تلو الآخر أن التميزَ ليس استثناء... بالعكس، ما هو استثنائي هو الظروف التي تعمل فيها الباحثات في هذا المشرق، واللواتي رغم المحن والنكبات، يثبتن من جديد أنهنّ قادرات، مثابرات، مناضلات، ومبدعات، حتى في أحلك الظروف كالإحتلال والحصار والأوضاع الأمنية والاقتصادية المترديّة... ما ينقصنا ليس إرادة الباحثات لصنع التغيير، بل هو الإرادةُ الحكومية والمؤسساتية التي تقارب دورَ المرأة في العلوم على أنه حتميٌ في مسار السعي نحو بحوثٍ أكثر فعاليّة لأن الوصول لكل الإمكانات الكامنة في العلوم يحتّم الإستفادةَ من مواهب وإبداع ورؤية الباحثات كما الباحثين. فالتمثيل المتكافئ يضمن الإنصاف وتنوّع وجهات النظر في كل المجالات العلمية، مما يمهّد لتكوين رأس مال علمي متوازن ينتجُ بحوثاً ذات أثرٍ إيجابي على المجتمع بكل مكوناته. في بلادنا، لا نريد باحثين وباحثات فقط لنتباهى بمؤشرات كميّة لا تُترجَم نوعاً وإسهاماً في تقدمٍ علمي نهدف من خلالِه إلى التقدّم المجتمعي والتنمية المؤنسنة.
* الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلميّة- لبنان