«بالمناسبة، إنّ مزيجاً من القوة البشرية من شرق أوروبا والقدرات التقنية لحلف الأطلسي قد يعزز بقوة القدرة العسكرية للشراكة -الأطلسية- لأنها ستقلل من مخاطر أكياس الجثث لدول حلف الأطلسي، وهذا هو القيد الوحيد لإرادتهم في التحرك. هذا بديلٌ فعّال للفوضى العالمية المحيقة»(جورج سوروس، نحو نظام عالمي جديد: مستقبل حلف الأطلسي، 1993)

بكلمات أخرى، يرى سوروس في أبناء جلدته (شرق أوروبا) لحماً أبيض رخيصاً يمكن زجه في وجه الموت تحقيقاً لمصالح حلف الأطلسي من دون إرباك لرفاهية الشعوب البيضاء الغربية فيه. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أوكرانيا، بثقلها الديموغرافي، كانت أكبر خزان للمقاتلين المعبأين نيابة عن دول «الأطلسي»، والفشل الذريع المتحقق مقابل القوة العسكرية الروسية، فإنّ بديل سوروس الفعّال احترق ووضع حلف الأطلسي وأميركا أمام لحظة حقيقة كانت تتجنبها منذ أكثر من خمسين سنة.
منذ سنوات والبنتاغون يصدر التقارير حول أزمة التجنيد لدى الجيش الأميركي، حيث فشلت آلة التجنيد الهائلة للجيش في تحقيق هدفها السنوي بـ 25 % (15 ألف مجند) العام الماضي، وهو أكبر إخفاق في هذا المجال منذ انتهاء حرب فييتنام. وفي عام 2020، أصدر البنتاغون دراسة مفادها أن 77% من الشباب الأميركي بين الأعمار 17-24 غير مؤهلين للخدمة، وأظهرت الدراسة أن البدانة والإدمان على المخدرات والكحول والمشاكل الصحية والنفسية هي أكبر مبطلات التأهل. أكثر من ذلك، بحسب الكولونيل تيموثي مكدونالد (زميل في مجلس العلاقات الخارجية CFR في قسم الجيش الأميركي) فإن 9 فقط من الـ 23% المؤهلين يرغبون في الانضمام إلى الجيش. كل هذا مضافاً إلى فشل البديل الشرق أوروبي في الحرب الأوكرانية والذي أدى بمراكز التفكير الكبرى في أميركا (منذ بداية العام الحالي) إلى الاستفاضة في إعادة التفكير في قرار اتخذ منذ نهاية حرب فييتنام: إلغاء التجنيد الإلزامي للأميركيين.

المشاة ورأس المال
هناك الكثير من الأبحاث التي تربط الاقتصاد الرأسمالي بالحروب الاستعمارية. لكن هذه الدراسات تغفل جانباً اقتصادياً آخر للحرب والاستعمار، ذلك الخاص بالفرد المقاتل. بداية، إذا ما تناولنا الأسباب المبطلة للتأهل في الجيش سنجدها مرتبطة بشكل وثيق بالاقتصاد المالي النيوليبرالي في أميركا؛ البدانة المتفشية على سبيل المثال هي نتيجة مباشرة لتغول عدد محدود من الشركات المنتجة لـ«الأغذية» وتلاعبها بقوانين الصحة التي يفترض بها الاعتناء بصحة الشعب الأميركي، وذلك لضمان تحقيقها أكبر قدر من الأرباح عبر الأغذية المشبعة بالدهون والسكريات والمواد المسرطنة والحافظة التي تدفع على الإدمان من ناحية، فتحقق استمرار الطلب، ومن ناحية أخرى تضمن تدني كلفة إنتاجها مع تدني الجودة الغذائية.
أمّا مشكلات الإدمان المتصاعدة بشكل مهول في أميركا، خصوصاً «كارثة الأفيونيات»، فهي نتيجة مباشرة لتلاعب شركات مثل «بيردو» و«جونسون اند جونسون» بالأبحاث العلمية وتلاعبها بالتراخيص الصحية التي أدّت إلى تداول العقار وإخفاء تسبّبه بالإدمان على مواد أفيونية صناعية قاتلة لأكثر من عقد، أمّا بعد كشف تآمرها ومواجهتها في المحاكم ودفع التعويضات، تعوض هذه الشركات عن خسائرها بتأمين مضادات الجرعات الزائدة التي تستخدمها السلطات الأميركية لمواجهة كارثة الأفيونيات المتسببة عام 2021 وحده بمقتل أكثر من 80 ألف أميركي بجرعة زائدة (75% من قتلى الجرعات الزائدة للمخدرات). ومن المعلوم جيداً للجميع أن الطبابة في الولايات المتحدة ليست حقاً عاماً، والأسوأ من ذلك تضخم كلفة العلاج والأدوية، زد على ذلك أن أميركا -على النقيض التام من كوبا مثلاً- لا تستثمر بسياسة صحة وقائية للشعب، بل أن أكبر حيتان رأس المال هم في قطاع الصحة ويستفيدون من انتشار الأمراض على اختلاف أنواعها.
في الحقيقة، إن العلاقة بين الحرية الاقتصادية والفعلية لعموم الشعب وقدرة الدولة على تأمين خزان بشري مقاتل تعود لآلاف السنين كما يرى الباحث مايكل هدسون - على عكس السردية الأورومركزية التي تبدأ هذا التاريخ بظهور الجندي المواطن بعد الثورة الفرنسية وامتلاكه إرادة قتال عالية. ويرى هدسون أن العلاقة العكسية بين الاقتصاد المالي المرتكز على الديون وبين قدرة الدولة على تغذية الجيش كانت من بديهيات إدارة الدولة لدى الحضارات الشرقية القديمة، وأن هيمنة هذا النوع من الاقتصاد كان دائماً ينتج عنه متلازمة من الأعراض، منها العبودية المتفشية، مصادرة الأراضي في أيدي القلة، الهجرة الجماعية والاعتماد على المرتزقة لبناء جيوش خاصة تضمن سيولة المدخلات والسلع للأوليغارشية من المستعمرات. وفي لقاء مؤخراً، أوضح هدسون أن هذه الظاهرة (التي كانت تتكرر عند الإغريق والرومان بشكل أكبر) واضحة للعيان في المجتمعات الغربية، وفي أميركا تحديداً تأخذ ظاهرة الهجرة أشكالاً أكثر حداثية، منها الهجرة إلى أعلى، أو إلى الأسفل، بمعنى تفشي الانتحار كمخرج من المأزق الوجودي للفقراء والمعدمين هناك أو هجرة الوعي بمعنى الهروب باللجوء إلى المواد المخدرة.
هكذا إذاً فإن الاقتصاد الرأسمال المالي الأميركي يتسبب بإخراج 77% من شبابها من التأهل للانضمام للجيش، ولكن ما علاقة الرأسمالية بالبقية المؤهلين؟
الحقيقة أن اليأس وصل بالجيش الأميركي لإنشاء وحدة رياضات إلكترونية، وهي أكثر الوحدات نجاحاً في اصطياد المرشحين، حيث يقوم ضباط كبار بالدخول إلى منتديات اللعب وإنشاء علاقات مع أطفال يصل أعمار بعضهم إلى 12 عاماً لإقناعهم بالانضمام إلى الجيش مستقبلاً ورسم صورة وردية حالمة لهم عنه.

«لماذا نقاتل؟» السؤال الأكثر بديهية
انسحبت أميركا من حرب فييتنام بفعل الهزيمة العسكرية، وتسبّبت لها بتغيّرات جذرية على المستوى السياسي والسوسيو-اقتصادي. كان الفشل الأكبر على مستوى الجيش والمجتمع هو قدرة النخبة (وعلى رأسها مجلس العلاقات الخارجية CFR) على فبركة إجماع شعبي حول ضرورة الحرب، وتحديداً فشلها في تقديم إجابة مقنعة لسؤال «لماذا نقاتل؟» وتبدّى ذلك بإلغاء التجنيد الإلزامي. وكان ذلك ضمن استراتيجية أكبر لإخراج الرأي العام من قرار السلم والحرب لناحية التأثر والتأثير كما لناحية الإدراك والإحاطة.
من الإجراءات الأخرى التي صبت في الاستراتيجية نفسها، توسع صلاحيات الرئيس لشن اعتداءات على دول أجنبية حتى دون إخطار الكونغرس، مثل إيكال مهام قتالية للقوات الخاصة الأميركية في الخارج وفي دول لا تعلن أميركا العداء تجاهها. تتحدّث التقارير عن أن أميركا تجري عمليات من هذا النوع ضد مئة دولة في العالم على الأقل بشكل سري. من المخارج الأخرى لشن الحروب دون تدخل من الرأي العام، الاعتماد أكثر وأكثر على مبدأ الحرب بالوكالة، ملجأ آخر يكمن في إبعاد العنصر البشري ككل عن ميدان الحرب، أي الاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والقصف بالمسيرات. هنا، في هذه الأخيرة، تميّزت إدارة باراك أوباما في سعيها الحثيث لإغلاق كل المنافذ القانونية والأخلاقية لردع قدرة الرئيس على إعطاء أوامر بالتصفية الميدانية لمواطنين أجانب وأميركيين، في دول صديقة أو عدوة، بدون محاكمة أو إخطار للدول المستهدفة أو حتى تقديم لائحة اتهام.

الملونون في جيش الإمبراطورية
يمكن ربط حاجة الإمبراطورية لخزان للجيش باستراتيجية قديمة تبنّتها إمبراطوريات عديدة وهي توظيف المستعمَرين كجنود ضد أبناء جلدتهم وضد أبناء المستعمرات الأخرى، كما هو الحال في الفيلق الهندي في جيش الامبراطورية البريطانية، والذي لولاه لما استطاعت السيطرة على دول أفريقية وكاريبية وآسيوية عديدة (الأمر ذاته ينطبق على الفيلق العربي الذي سمّي بالجيش العربي، أي ما يعرف اليوم بالجيش الأردني). أميركا نفسها فرضت الجنسية الأميركية على البورتوريكيين (منزوعةً من الحقوق السياسية) لسد النقص في جيشها خلال الحرب العالمية الأولى. هنا نحن نتحدث عن حرب بالوكالة من نوع خاص حيث تكون الخدمة العسكرية مدخلاً للتجنيس والتماهي للمهاجرين في السياق المعاصر، حيث يكثر الحديث عن النخبة المعولمة التي تريد إدخال المزيد من المهاجرين إلى المجتمعات البيضاء لضمان عمالة رخيصة بينما يغفل الجانب العسكري لهذه العمالة.
لا بد من الإشارة لمبدأ جوهري في تاريخ الاستعمار الأوروبي ككل، وهو أن استيراد البشر البالغين أقل تكلفة من تربيتهم، وعلاقة ذلك بالاقتصاد الاستعماري، في هايتي مثلاً كان استيراد «عبد» جديد من أفريقيا كل أربع سنوات أقل تكلفة من العناية به وعدم استغلاله حتى الموت. هنا في السياق المعاصر أيضاً تتبدى تفاهة التباينات بين عنصرية الأبيض المحافظ الكاره للمهاجرين والملونين عموماً مقارنةً بانتهازية أولئك الذين يريدون دمجهم لحرقهم كوقود لآلة الحرب الاستعمارية. للأسف، قلة داخل جموع هذه «الأقليات» تمتلك وعي محمد علي كلاي الذي رفض الخدمة في الجيش وقال «لماذا عليهم أن يطلبوا مني أن أرتدي زيّاً وأسافر 10 آلاف ميل لرمي قنابل ورصاص على أناس سمر البشرة، بينما من يدعونهم بالزنوج في لويس-فيل يعاملون مثل الكلاب». موقف علي كلاي من الحرب يتمايز أيضاً عن مجايليه من الطبقة الميسورة البيضاء من طلاب الجامعات الرافضين للخدمة في فييتنام من منطلق الرفاه والأنانية الذاتية، وفي النهاية رضخت نخبة المجلس خوفاً من خسارة الرأي العام لدى هذه الطبقة دوناً عن غيرها.
الفشل في الإجابة عن سؤال «لماذا نقاتل» لا يضر القدرة على ملء خزان الجيش فحسب، بل يؤثر في نوعية من يدخلونه أيضاً، هناك العديد من الكتابات التي تتحدث عن دوافع الانضمام للجيش الأميركي وتركزها تحت عنوانين رئيسيين، الأول كمخرج اقتصادي (وهو آخذ بالتآكل منذ حرب العراق وتدني القيمة الاجتماعية الاقتصادية للجنود). والآخر كمنفذ لاكتساب الجنسية الأميركية. وفي صفوف الجيش (خصوصاً المشاة) هناك الكثير من التململ من فساد البنتاغون وسيطرة المجمع الصناعي العسكري والاوليغارشية التي تقف وراءه على قرار السلم والحرب، كل هذا يعني ن حل مشكلة الجيش أكبر من الفشل في التجنيد عددياً ويبشرنا بالمزيد من الفشل في الصراعات المستقبية.

تضخم اقتصاد آلة الحرب
لإبعاد الرأي العام أيضاً عن قرار الحرب والسلم كان من الضروري إخفاء أثرها الاقتصادي المباشر على المواطن الأميركي، فقد تسبّبت حربا كوريا وفييتنام بنضوب احتياطي الذهب الأميركي، الأمر الذي قاد المجلس لتحريك رجاله ودفع الإدارة الأميركية لإعلان فك ارتباط الذهب عن الدولار، وباتت تبعات ذلك اليوم معروفة لنا خصوصاً في ما يتعلق بظهور البترودولار (علاقة المجلس بهذه المسائل وبحرب 73 وحظر النفط العربي حينها قضية تحتاج لمقال على حدة ولكنها مهمة لإعادة قراءة تلك المفاصل التاريخية). من التبعات الجوهرية الأخرى تضخم اقتصاد آلة الحرب بعدما أصبحت طباعة الدولارات متفلتة من أي قيد بشري أو مادي.
خوض الحروب لأجل تشغيل هذه الآلة أصبح مسألة بديهية، وتلاها ضرورة خوض الحروب ضد أضعف الخصوم (كما نظر ماكس بووت أحد منظري CFR) لأن سمعة هذه الآلة في الأسواق والأسهم لا يحتمل الخسارة، حتمية الربح (للحد الأقصى) لهذه الآلة أيضاً قادت إلى المزيد من الخصخصة وشرذمة سلاسل التوريد، الأمر الذي قاد بدوره إلى بطء عملية الإنتاج وتضخم الكلفة وتراجع كفاءة الأسلحة وتفشي الفساد في المنظومة ككل... مصاديق كل ذلك تبدت في الحرب الأوكرانية حيث تحدث عدد من الخبراء عن الفشل البنيوي لمنظومة تصنيع السلاح الغربي مقابل نظيراتها الشرقية والجنوبية لناحية سرعة التصنيع وخفض الكلفة وارتفاع الفعالية بشكل خاص.
بالمقابل، أدى تضخم آلة الحرب هذه، أو ما يعرف بالمجمع الصناعي العسكري، إلى توريط المواطن الأميركي بالحرب لا إرادياً على مستويات عدة، إذ إنه من أكبر المشغلين الصناعيين داخل أميركا ولذلك فله أثر مباشر في العملية الانتخابية لا تتوقف على تمويل الحملات فحسب، بل خوف المرشحين من خسارة قاعدة العمال في ولاياتهم وخطر تهديد الاستقرار الاجتماعي لها في حال انهار هذا المجمع أو حتى تراجع. هكذا يصبح المواطن الأميركي مستفيداً من الدرجة الثالثة أو الرابعة ولكنه في النهاية المتضرر الاقتصادي الأول، إلا أن هذه الحقيقة ليست على سلم أولوياته فهو يدفع ثمن الحرب كدين عام وفوائد وضرائب لا بد منها، وقليلون منهم ينظرون إلى العلاقة بين حروب الإمبراطورية والتدهور الاقتصادي الاجتماعي داخل الولايات المتحدة.

أمركة الجيش الصهيوني
قبل عامين، استطاع شاب نحيل هادئ هز أركان دولة العدو، بسلاح بسيط حوّل تل أبيب إلى ساحة حرب وأنزل الجيش إلى عاصمة الرفاه وتسبب بحالة ذعر كانت رعباً قائماً بحد ذاتها، حيث تساءل المحللون الصهاينة: ماذا حل بنا؟ في الانتفاضة الثانية كنا نتحمل ضربات أقسى بخسائر بشرية أعلى…فلماذا الانهيار المخزي للجيش والمجتمع أمام رعد خازم؟
الحقيقة أن المجتمع الصهيوني في انحدار دائم منذ حرب الأيام الستة، ولكن إذا ما انطلقنا من الانتفاضة الثانية، فنحن نتكلم عن مجتمع وجيش اعتمد على الجدران والحراسة والتكنولوجيا والتفوق العسكري لضمان أمنه. هذا التفوق الظاهري تسبب في فقدان المناعة والخبرة مع الحرب من قبل المجتمع وأفراده المقاتلين. الأمر يشبه تربية طفل مرفه في فقاعة فائقة الحماية بلا تماس مع واقع الحياة. إلا أن هشاشة مجتمع العدو وجنوده تعود إلى تحولات عديدة أحدها، للمفارقة، العلاقة المميزة لهذا العدو مع الولايات المتحدة الأميركية.
للمزيد من سخرية القدر كان مستشار الأمن القومي الأميركي قد أدلى بتصريحين لافتين قبيل عملية «طوفان الأقصى»، الأول كان يفيد بأن منطقتنا تشهد هدوءاً استثنائياً وذلك للتأكيد على صوابية الإستراتيجية الأميركية المتعلقة بالاستدارة شرقاً والخروج من غرب آسيا. التصريح الآخر، كان تغطية على تخلي «الأطلسي» عن أوكرانيا حيث طرح سوليفان فكرة سحب «النموذج الإسرائيلي» على أوكرانيا من خلال علاقة مميزة خارج «الأطلسي» تعزز دورها كمختبر للابتكارات العسكرية الإجرامية والأمنية للمجمع الصناعي العسكري الغربي والأميركي تحديداً، مستفيدة ممن تبقى من الأضاحي البيضاء الأوكرانية. جاء «طوفان الأقصى» ليضرب كل هذا بعرض الحائط لتؤكد لنا الأحداث بشكل متصاعد أن من تلقى الصفعة في الحقيقة هو أميركا وهيمنتها وتآكل ردعها على المستوى الدولي.
وما لا يستطيع الصهيوني لليوم فهمه من كل هذه الأحداث أن «أسرلة» أوكرانيا لا تعني في عمقها رفع مكانة الأخيرة، بل تأكيد على مكانة الصهيوني في آلة الاستعمار، فهو بدوره أضحية من نوع خاص في منطقة عدائية استثنائية.
هناك عدد من الدراسات ترصد أثر العلاقة الأميركية الخاصة بالعدو في التحولات الكبرى لدى جيش العدو. إذ شهدت نهاية التسعينيات موجة تنظير لما سمي بـ«الثورة الأمنية الإسرائيلية» وكانت تسعى لأمركة الجيش الصهيوني، وشملت التوجهات التالية:
- اعتماد قوات خاصة نظامية قليلة عالية الاختصاصية
- الاعتماد المتصاعد على القوة الجوية والقدرة على استهداف الخصوم الإقليميين لأميركا وعلى رأسهم إيران
- الاعتماد على الآليات والأسلحة المتفوقة تكنولوجيا
- فك الارتباط جزئياً بين المجتمع والجيش وتخفيف الاعتماد على التجنيد الإلزامي
- بناء برامج إعداد لضباط الجيش على النسق الأميركي
- إعادة بناء العقيدة القتالية لجيش العدو انطلاقاً من عمليات السلام ومستقبلها كعنصر مندمج في المنطقة يمتلك التفوق العسكري والمكانة المهيمنة التي ستؤدي إلى دفع الجوار للانضواء تحت قيادتها.
أبرز من نظّر لهذه الثورة باحثان في معهد واشنطن (وهو جزء من اللوبي الصهيوني في أميركا) في تقرير صدر عام 1998 بعنوان «سكاكين دبابات وصواريخ: ثورة إسرائيل الأمنية». يستفيض التقرير في ربط هذه العناصر ببعضها، وينصح بفصل الجيش عن مهمة القتال ضد المقاومة الفلسطينية وأنه سيعتمد أكثر وأكثر على استيراد الأسلحة الأميركية المتطورة المكلفة الأمر الذي سيتطلب التركيز على قوات نظامية عالية الكفاءة والتخلي تدريجياً عن التجنيد الإلزامي عالي التكلفة.
جاءت التوصيات الأميركية بالوبال على الجيش الصهيوني وإن لم يتبناها بشكل كامل، من جهة فإنّ فك الارتباط التاريخي بين المجتمع الصهيوني أدّى مع الوقت إلى هشاشة المقاتل، والحقيقة أن فك الارتباط هذا لم يأت بقرارات واعية، بشكل عام ومنذ حرب أكتوبر والنموذج الاجتماعي الاشتراكي للعدو يتفكك والتبني شبه الكامل للنموذج الرأسمالي الأميركي أنتج مجتمعاً استهلاكياً فردانياً رافض للتضحية، وأدى أيضاً الى صعود جيل من الجنرالات المتقاعدين رواد الأعمال الذين يعملون على رأسملة خبراتهم في القتل كنجاح وهمي في وجه الفلسطينيين العزل في الضفة تحديداً وبيعها كسلعة لأنظمة القمع حول العالم. وهكذا أصبح التطوير والابتكار لدى جيش العدو يلحق السوق العالمي والبورصة مبتعداً عن الحاجات المباشرة على الأرض، وأصبح أقرب إلى الخصخصة والعولمة على النسق الأميركي.
أمّا في ما يخص برامج الإعداد والعقيدة القتالية، فتلك قصة أخرى لا تخلو من سخرية القدر، إنها قصة صعود «الجنرالات الفلاسفة» وباختصار شديد: عانى قادة جيش العدو من شح في الثقافة العسكرية في جيل الثمانينيات حتى أن المؤرخ العسكري الصهيوني مارتن فون كليفلاند وصفهم بعد أحد اللقاءات بأنه لم يقابل رجالاً أكثر جهلاً منهم في حياته، وأنه لا يوجد منظمة أو دولة في العالم يجهل رؤساؤها أساسيات تخصصهم للناحية التاريخية والنظرية وحتى لناحية عقيدة منظمتهم نفسها - جيش العدو الصهيوني. استغل الأميركيون هذه الحالة للتنظير على العدو الصهيوني، والنتيجة كانت إنشاء Operational Theory Research Institute (OTRI) بهدف بناء عقيدة قتالية، والأهم منظومة تحليلية عملياتية عسكرية لجيش العدو، على رأسها الجنرال شيمون نافيه، حيث تمخّض المركز عن ما سمي التصميم العملياتي المنهجي، وفي رسالة جامعية بعنوان systemic Operational Design – a study in failed concept صدرت هذا العام يستغرب الباحث من التقدير الأكاديمي التي تحظى به، فهي على نسق يمزج بين موجة التنمية البشرية الأمريكية ولغة فلسفية مضنية كلغة فوكو في إطار نظري مبهم، وبعيدة عن المضمون العلمي والتحليلي مستلهمة من نماذج عالم الأعمال لحل المعضلات.
قد يكون تكتيك قائد الأركان السابق أفيف كوخافي -وهو أيضاً من الجنرالات الفلاسفة الذين حاولوا الاعتماد على القوات الخاصة لتجنب الفشل الذريع في ترميم دافعية المقاتل الصهيوني- العبور عبر الجدران الذي اعتمده جيش العدو في نابلس خلال الانتفاضة الثانية هو النقطة المضيئة في تاريخ هذه المنظومة، إلا أنها ليست بالاختراع المستجد فتقنيات مثل هذه استخدمت في معارك حضرية عدة خلال الحرب العالمية الثانية. الفشل الأكبر لهذه المنظومة جاء خلال حرب تموز كما أكد تقرير فينوغراد. إلا أن الخطأ والتجربة لم يعلما جيش العدو العبر الحقيقية.
صدر عدد من الدراسات والتوصيات منذ ذلك الوقت (كلها على يد جنرالات فلاسفة، إذ أصبحت التخصصات في العلوم الإنسانية والفلسفة من منافذ الترقية لدى جيش العدو) قد تكون خطة جيش العدو الصادرة عام 2020 من أبرزها والتي سماها بخطة الزخم متعدد الطبقات، إلا أنها كغيرها لا تسعى لحل مشكلة إرادة القتال لدى أفراد الجيش أو علاقة الجيش بالمجتمع الصهيوني أو حتى قدرته على تحمل الخسائر البشرية، وعلاقة كل ذلك بالنموذج الاقتصادي الاجتماعي لديه، بل توصي بالاستثمار أكثر وأكثر بقدرات الثورة الصناعية الرابعة والاعتماد عليها وما تتضمنه من فصل للعنصر البشري عن أرض المعركة. وتوصي أيضاً، كسابقاتها، بالتخلي عن فكرة السيطرة على الأرض وسحق العدو، والاكتفاء بالضربات النوعية واستهداف البيئة الحيوية والاجتماعية واللوجستية للخصم، مع تعزيز التوجه الوقائي عبر العزل بالجدران الواقية. كل هذه التوصيات، في هذه الخطة وغيرها، لا تفشل أو تتجنب معالجة الداء فحسب بل تؤدي في النهاية إلى تفاقمه، بينما تتنامى قدرات قوى محور المقاومة من حوله وداخله ليس فقط لناحية الخبرة والسلاح، بل قدرتها العالية وفائقة السرعة في التعلم وفهم العدو ومكامن ضعفه ونجاحها في توظيفها ضده.
لمعالجة هذه الأخيرة، كان الجنرال اران أورتال (رئيس معهد دادو The Dado Center for Interdisciplinary Military Studies) في معرض تقديمه لخطة الزخم عام 2022 قد أفصح عن مراجعة استراتيجية كبرى لتوجهات الجيش الصهيوني، وهي تتعلق بالتوجه نحو الحروب عالية الوتيرة وطويلة الأمد، وذلك نظراً لأن الحروب قصيرة الأمد بنظره تعطي الخصم جرعة مصغرة من قدراته تمكنها من فهمه ومعرفته وبالتالي بناء مناعة وحصانة ضد إجراءات وقدرات الجيش الصهيوني. قد تكون هذه المراجعة الأهم في الاستراتيجية العسكرية الصهيونية، وها نحن نشهد تطبيقها على أرض الواقع، ولكنها أيضاً، بالرغم من جذريتها، لم تجب عن السؤال الأكثر حرجاً لجيش العدو.
قبل عقود، راهن الحاج رضوان (وقد تكون كلمة رهان ضعيفة إذ إن الحاج تحدّث بلغة الخبير الموقن) أن مكمن قوتنا ومكمن ضعف العدو هو في الفرد الذي يختصر من خلال عقيدته القتالية وروحيته الفارق الحضاري بيننا وبين الغرب. وبالفعل، كما حاول هذا المقال إثباته عبر السرد التاريخي والأرقام، فإنّ الاقتصاد الرأسمالي الاستعماري يحوّل الفرد (في مجتمع العدو الصهيوني والغربي) إلى سلعة استهلاكية للحرب داخل آلة حرب غير بشرية وكمستهلك لها في آن وبالحالتين فهي تدمره. أمّا بالنسبة لنا نحن في «الحرب بين الآلة والإنسان» التي تخوضها قوى المنطقة بشكل جماعي، فصحيح أن لهذه الآلة قدرة هائلة على القتل والدمار للناحية الفيزيائية، إلا أنها على المستوى النفسي تبني لدينا الإنسان الأكثر حافزية على وجه الأرض لتدمير هذه الآلة. وهنا الآلة لا تعني الجيوش وأسلحتها فقط بل الكيان نفسه كآلة وظيفية. وأختم من منظور فلسفي وجودي؛ فالآلة (على عكس الإنسان الذي يسبق وجوده الماهية) شيء مصطنع تسبق ماهيته الوجود، وعندما تخسر وظيفتها فإنّ ماهيتها ووجودها يصبحان موضع شك وتهديد مثله مثل شريط الكاسيت أو التلغراف أو اختراع يفقد وظيفيته ويصبح وجوده محصوراً بالذكريات والتاريخ.

* كاتبة عربية