لا نعرف الحرب ونعيش أجواءها إلا حين تشتعل، بينما يقضي المقاومون سنوات يعملون بصمت في إعداد عدّتها من تسلّح واستعلام وحفر أنفاق ورسم خطط وتكتيكات وتلقّي تدريبات وإجراء مناورات. في سنوات التهدئة هذه، التي نسمّيها استراحة بين حربَين – بينما تحفل بحروب سياسية واقتصادية وثقافية - يجد بعضنا الوقت كي ينتقد «قعود» المجاهدين عن الجهاد وتحوّلهم إلى «حرس حدود» للعدوّ! يرى هؤلاء، من مقاعدهم الوثيرة أمام المدافئ أو تحت أجهزة التكييف أنّ الحرب تُخاضُ مرّة واحدة بلا انقطاعٍ أو توقف، فلا وقت لديهم لانتظار نصر يتحقّق بالصبر ومراكمة القدرات والإنجازات وانتظار اللحظة المؤاتية للانقضاض!وحين تبدأ الحرب، يتحمّل المقاوِمون، ومعهم أهلهم في المناطق الواقعة عند خطوط النار، في غزّة وجنوب لبنان بشكل أساسي، كلفتها الكبيرة والثقيلة، فيتخلّصون أخيراً من تهمة «حراسة حدود العدوّ» ولكنهم لا يُترَكون وشأنهم، بل تلاحقهم تنظيرات وخطط ونصائح حول الطريقة الأفضل لخوض الحرب التي يدفعون ثمنها وحدهم من دمائهم ودماء أطفالهم!
والحقيقة أنه لو انشغل بعضنا عن التنظير على أهل الميدان، بالبحث عن الطريقة الأفضل لخوض حربه الإعلامية المسانِدة، بعد أن حوّلت التكنولوجيا الحديثة كل فرد منا إلى منصة إعلامية قائمة بذاتها، ولو استعدّ هذا البعض لحربه كما استعدّوا، لتلافى ما شاب أداءه – على إخلاصه وصدقه غير المشكوك بهما في أحيان كثيرة - من ارتجال واندفاع عاطفي كانا بمثابة «نيران صديقة» وأهداف عكسيّة حقّقت للعدوّ بعض ما عجز عن تحقيقه بنفسه!

■ ■ ■


يقطع العدوّ الاتصالات عن قطاع غزّة في محاولة لإخفاء جرائمه، وطمعاً في أن يتيح له ذلك تحقيق نصر يعوّض به هزيمته المدوّية، فينهار الناشط العربي المناصر للقضية. يقرّر من عنده أن غزاويّاً واحداً لن يبقى ليشهد صباح التالي! يعلن على الملأ أنه خائف من «المشهد الأول» بعد عودة الكاميرات من اعتكافها القسري، لأنه سيحمل إلينا الكارثة! يجزم بأن الاتصالات حين ستعود لن يكون هناك من يجيب عليها! يتجاهل كل التحليلات والتوقّعات بمعركة طويلة (لا أحد بيننا يتمنّاها كذلك طبعاً، أو يغفل عن آلام الضحايا الحقيقيين، أو يستهين بها) تحتاج إلى «نفس طويل» (على الأقل بالنسبة إلى الجالسين على مقاعد المتفرّجين)، وينهي المعركة بنقرات سريعة على «كيبورده» ناعياً غزّة!
يسفر الصبح عن ضربات مؤلمة سدّدتها المقاومة المظفّرة لعدوها، وأيضاً عن جرائم لا تختلف كثيراً عما انتهجه العدوّ منذ اليوم الأول للعدوان. يدفن الناشط المتحمّس رأسه في وسادته لينام بهدوء بعد أن سجّل هدفاً غالياً في مرمى فريقه المفترض في وقت حسّاس!
غزّة لم تمت يا «عاشق المراثي»، ولكن حالها كانت أفضل حتماً لو لم تبدّد وقتاً ثميناً كان يكفي لنجدتها، في نصب خيمة عزائها!

■ ■ ■


منذ اللحظة الأولى لإعلان خبر استشهاد المراسِلة فرح عُمر والمصوّر ربيع المعماري، يعلم متابع النقل المباشر لـ«الميادين» أن رفيق الشهيدَين حسين عقيل، المرافق والدليل الإعلامي، شاركهما رحلتهما الأخيرة أيضاً. يتكرّر اسم ابن بلدة الجبَّين في كلام المحاورين والضيوف، في تغطيات المراسلين، في حسابات القناة على منصات التواصل، في تصريح رئيس مجلس إدارتها الذي يعلن حسين عقيل «شهيد الميادين» مع كل ما يترتّب على هذا الإعلان من مفاعيل، وتتبلّغ العائلة بالقرار لاحقاً من قبل وفد من القناة. صورة حسين إلى جانب صورة رفيقيه الشهيدين في مقر القناة، المتابعون الذين تداولوا الخبر بأغلبهم على هذه الموجة ذاتها، الأسماء الثلاثة متلازمة معظم الوقت ولا تنفصل إلا نادراً حيث يفرض السياق ذلك. ولكنّ «الناشط» لا بد أن يضع بصمته الخاصة فلا يكتفي كغيره بالنسخ واللصق. يقرّر أن يلفت الانتباه عبر الحديث عن تمييز بين الشهداء، عن «مشاهير» و«مغمورين» بينهم! عن مظلومية مفترضة لحسين «الآدمي» و«الفقير» وعن «تغييب» لذكره وسيرته! ومن دون تدقيق كافٍ تلاقي هذه الرواية انتشاراً ورواجاً يتناسبان مع صياغتها العاطفية.
هذه معركة مفتعلة تحرف الأنظار عن المعركة الحقيقية. «نيران صديقة» أخرى تنحرف عن وجهتها المفترضة لتصيب الإعلام المقاوم هذه المرّة. لا ينفع حسن نوايا أصحابها في تغيير هذا الواقع. في الوقت الذي يعلن العدوّ انزعاجه البالغ من «الميادين»، مرّة عبر حجبها في فلسطين المحتلة ومرّة عبر الاستهداف المباشر لفرقها. وفي الوقت الذي تغدو فيه «الميادين» لسان المقاومة الوحيد تقريباً في الفضاء العربي في ظل التضييق على «المنار» ووقف بثّها، وسط غابة من القنوات العربية المتموضعة علناً في الخندق الإسرائيلي أو التي تدّعي كذباً نصرة القضية وتخفي الخبر المقاوم إن لم يتناسب مع أجندات مموّليها المطبّعين. وفي الوقت الذي تحتاج فيه «الميادين» إلى التفافنا حولها كما المقاومة تماماً، يقرّر الناشط المتحمّس أن يسجّل هدفاً ثانياً في مرمى فريقه المفترض!

■ ■ ■


يرتقي خمسة من رجال المقاومة فيحدث استشهادهم صدى استثنائيّاً عند أهل المقاومة، لأسباب مختلفة يتداخل فيها مكان الاستهداف البعيد نسبياً عن الحدود وطبيعة الاستهداف وعدد الشهداء وما حكي عن انتمائهم إلى «قوة الرضوان». يتوقف البعض بشكل خاص عند دلالات وجود نجل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة بين الشهداء، فينتفض الناشط مجدّداً منتقداً ما يعدّه تفضيلاً لشهيد على آخر تبعاً لموقع أبيه!
طبعاً ليس استشهاد أصحاب المواقع وأبنائهم حدثاً طارئاً على هذه المسيرة. هذا حزب اختبر قادته وأبناء قادته القتال والشهادة منذ زمن، لكنّ استشهاد ابن أحد مسؤوليه السياسيين لا العسكريين اليوم تحديداً بعد حملة مسعورة سعت على مدار سنوات لضم هؤلاء عنوةً إلى قائمة الزعماء السياسيين الغارقين في الفساد والتوريث وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة الوطنية، لا يصحّ أن يمر مرور الكرام، وأن لا يكون محطة لتصويب الأمور دفاعاً عن المقاومة نفسها لا عن أشخاص، إذ لم يكن أحد ليصوّب على هؤلاء الأشخاص لولا انتسابهم إلى هذه المقاومة، وليس هذا أيضاً استثماراً للدم في السياسة بل هو دفاع مشروع وواجب عن فكرة نبيلة ومقدّسة. وقد شهدنا مثل هذا النقاش قبل سنوات إثر التفاعل الشعبي مع الوصية العفوية للشهيد مهدي ياغي؛ لم يزعم أحد يومها أن وسامة مهدي وخفّة ظله تضعانه في مرتبة أرفع من بقية الشهداء كما توهّم البعض، ولكنّ مهدي، الذي كان صورة جميلة عن مقاومة جميلة، استطاع في دقائق معدودة أن يقول ما كنّا نحاول قوله في مطوّلات لا يستمع إليها أحد تقريباً، في ظل حصار إعلامي كامل وحملة هدفت إلى شيطنة المقاومة عربيّاً ونجحت إلى حد بعيد في تحقيق هدفها، وكان من السذاجة ألا نجعل ابتسامة مهدي في خدمة المقاومة التي بذل روحه تحت لوائها.

■ ■ ■


تحلّ الهدنة المؤقتة حاملةً نصراً أوليّاً للمقاومة مع منعها العدوّ من تحقيق أهدافه وإجباره على الرضوخ لشروطها لإتمام الجزء الأول من عملية التبادل. يخرج من معتقلات العدو أطفال ونساء تحوّلوا إلى رموز وأيقونات في عيون أبناء شعبهم، ولم يكن العدو ليفكّر في إطلاق سراحهم لولا يد المقاومة العليا. يعود أهل قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان إلى بيوتهم التي نزحوا عنها، يثبّت المنتصرون انتصارهم ويحتفون بتحرير أسراهم بابتسامة وشارة نصر وقبضة مرفوعة وهتافات للضيف ولأبي عبيدة والسنوار، فتستيقظ روح النَّكَد في الناشط مجدداً: هذا رقص على الجراح! استخفاف بتضحيات الغزّيين وتجاهل لدمائهم ودموعهم! إساءة إلى أرواح الشهداء واعتداء على حزن أهلهم!
استحضار الحزن والحداد في لحظة النصر الأكيد هذه، بعيداً من الحيّز المنطقي والمفهوم الخاصّ بعوائل الشهداء، ومن قبل أفراد من خارج الدائرة الضيقة المرتبطة بالشهداء بِصِلات الدم والقربى، هو استسلام مبكر وتكريس لمشهد الهزيمة التي يريد العدوّ زرعها في عقولنا ووجداننا لخمسين عاماً جديدة. ولكن هذا كله لا يعني شيئاً للناشط الذي انشغل ربّما بقراءة الروايات الرومانسية دون غيرها فلم يتسنّ له الاطّلاع على تكتيكات الحرب النفسية التي أبدع فيها الغزّيون قبل غيرهم. كان يكفي أن نعرف إصرار العدوّ على منع مظاهر الفرح في بيوت الأسرى المحرّرين في الضفة الغربية كي لا نتماهى معه وننفّذ رغبته ونحن خارج دائرة نفوذه وسلطته، أو أن نعود إلى أجواء «مهرجان النصر» في أيلول 2006 الذي كان يوم حزن لكيان العدوّ ولم يكن حتماً رقصة للجنوبيين فوق دماء الجنوبيين!

■ ■ ■


«الناشط المندفع» في الحالات أعلاه ليس فرداً في الحقيقة، بل «أفراد» شاءت الصدفة أنهم يحظون بنسب متابعة مقبولة تضاعف من تأثيرهم السلبي. وهذه الحالات نهجٌ أكثر من كونها حوادث متفرّقة، نهج يطبع للأسف أداءنا العاطفي المرتجل في لحظات الاضطرام التي تحتاج منا إلى الحكمة والدقة ومعرفة الأهداف أكثر من أيّ لحظة أخرى، كي لا نحسب أننا نحسن صنعاً بينما يضلّ سعينا إذ نطلق رصاصنا، إلى جانب رصاصات عدوّنا، في قلوب من نحبّ!

* كاتب