لم يعد في البلد كآبة كما كان في الفترة الاولى بعد الأزمة. ليس التكيف وحده مسؤولاً عن ذلك بل حفلة تهريج على مدار الساعة. البروزاك أيضاً لمن استطاع اليه سبيلاً. كان يمكن وضع حبوب البروزاك في مياه الشفة وكان سيكون لها المفعول ذاته، لكن هذه المياه لا تصل الى المنازل، فاستعيض عن ذلك بملهاة متواصلة على شكل مواضيع جذابة للنقاش. وكأن لدينا هيئة ترفيه تسهر على رفدنا بالموضوعات وتحديد أحاديثنا اليومية وتحديثها كلما دعت الحاجة.هناك من هو مقتنع بأننا نعيش في ظل دولة بوليسية أمنية. لكن ذلك كان سيكون وضعاً متقدماً عن الواقع الذي نعيشه اليوم. هذا يحتاج وجود دولة أولاً ووجود أمن ثانياً، وهما ركنان أساسيان للدولة الأمنية والاثنان مفقودان هنا. لا ليست معركة حريات. في بلد تحتل فيه المؤسسات الدينية موقعاً سلطوياً متقدماً وتقوم إحدى هذه المؤسسات برفع دعوى ضد شخص فيتم توقيفه لبضع ساعات، هذه ليست آلة قمعية، هذه آلة تجهد لإرضاء أضداد في نظام بلا قضاء ولا قانون. فيأتي التوقيف إرضاءً لدار الفتوى، وإسكاتها وحفظ ماء وجهها، ثم يأتي الافراج إرضاءً لـ«الناشطين»، فنحافظ بذلك على «لبنان الرسالة»، وهذه هي النكتة الوحيدة التي لا تضحك أحداً في هذا العرض السيء.
لم يعد في البلد انهيار اقتصادي. فكما كان ذات يوم حصار، جاء اليوم الغزو الثقافي! لكن هذه المرة، ما من داعٍ لقظم الغيظ وما من دعوات للصبر أمام ذل الطوابير ولا استثارة للانسانية. لا سكوت هذه المرة، هذه تستحق غضبة شعبية. إنه غزو استعماري يزرع الانحلال الأخلاقي داخل مجتمعاتنا! تظن لوهلة أن عرضاً كويرياً أقيم في حارة حريك. ألم يكن «الانحلال» مقبولاً في بلد الرسالة طالما هو بعيد عن مناطقنا؟ الأخطار الكونية ملعبنا وساحتنا ونعرف سبر أغوار النقاش فيها. أدبياتنا في هذا المضمار متفوقة على جهل من ينفي المؤامرات وطريقة عمل القوة الناعمة في تطويع الشعوب. وأمام أخطار بهذا الحجم من يكترث لمطمر أو ماء ملوّث أو كهرباء!
هذه نقاشات مشروعة طبعاً. المشكلة ليست هنا. المشكلة أن هذه النقاشات ترف نحن لا نملكه في هذه البقعة المشؤومة من الجغرافيا. إنها نقاشات طبيعية في بلد آخر لا تذهب فيه الى الضمان الاجتماعي لتدفع اشتراكات فتقول لك موظفة الضمان أن تعود في يوم آخر بسبب عدم وجود الورق! دولة لا ورق لديها لكي تقبض الايرادات ولا ايرادات لديها لشراء الورق. فلنحل هذا اللغز أولاً ثم نناقش الغزو الثقافي. أما المكننة التي لم تصل الينا يوماً فقد صار غيابها نعمة في بلد ليس فيه كهرباء. وكل ما تمت مكننته في السابق في القطاع الخاص خضع لعملية de-automation تماشياً مع مسير البلد في وجهة عكسية لمسار التطور البشري.
لم يعد في البلد بطالة. فأنت إن لم تجد عملاً لك في الجمعيات ذات التوجهات الليبرالية والتمويل الغربي، يتلقفك جنود الرب. لكن ليس جنود الرب هم الخطر بل رجل بربطة عنق كول يتحدث لغات ويزور المتاحف وينتج أفلاماً في مهرجانات كان السينيمائية. أتخيل أن أماً «يصيع» ابنها مع جنود الرب طوال النهار ويعود الى البيت بعد منتصف الليل ستصرخ في وجهه أن يترك رفقة السوء ويجد له عملاً لكنها ستصمت اذا ما جاءها ببضعة مئات الدولارات في نهاية الشهر. لكن هذه الجمعيات تصوِّب حصراً على جنود الرب أما راعيهم أنطون الصحناوي فيذكرونه بخجل ربما لأنه «يشبههم». أليست مفارقة أن من يستخدمون تعبير «ما بيشبهونا» هم أنفسهم يتهمون الناس المعارضة للمثلية الجنسية بأنها متخلِّفة لأنها لا تتقبل الآخر (المثلي) الذي لا يشبهها؟
لا بطالة لمن لديه صيرفة. هنا يمكن أن تسأل أحدهم ماذا تعمل؟ ويقول لك «صيرفة» وهي غير وظيفة الصِرافة أو الصرّاف. لا، هذا مسمى وظيفي جديد لا يوجد في أي مكان آخر في العالم, بل يدر عليك المال المجاني. لو لم تتوقف صيرفة (وقد تعود) مع الوقت يمكن أن يؤسس هؤلاء نقابة خاصة بهم. هناك من لا ينفك يطالب بعدم المس بأموال المودعين وفي ذات الوقت بعودة صيرفة!
لم يعد في البلد أزمة معيشية. سمعت سيدة من ذوي الدخل المحدود، تقول لأخرى «دفعت فقط مليون على الفحوصات الطبية». صحيح لم تعد المليون تساوي أكثر من ١١ دولاراً لكن كيف لا تلحظ هذه السيدة أنها اذا ما أرفقت كلمة «مليون» بكلمة «فقط» تصبح أشبه بنكتة؟ لماذا لم يلقَ شعار «التغطية الصحية الشاملة» أي صدى لدى الناس؟ حتى الاحزاب التي تسرق الشعارات لم تتبنَّ هذا الشعار وإن زيفاً. أنا على قناعة أن هناك أناس بيننا تفضل أن تدفع ثمن «الصحة» على أن تحظى برعاية صحية متساوية مع جار أو مع ناطور البناية. ألذلك يردِّد كثيرون هنا «بيضل وضعنا أحسن من غيرنا»؟ أي أننا بخير طالما هناك من هو وضعه أسوأ. المساواة تجرِّدنا من هذا المقياس لتفوقنا.
لم يعد في البلد منطق. هناك طبقة من الناس تعيش في قصور ومنازل فخمة وشقق بملايين الدولارات عيشة فقراء يقننون مأكلهم ويحسبون ألف حساب لعداد الطاقة الشمسية. شقق بأربعة وخمسة غرف نوم يعيش فيها شخص أو شخصان على الأكثر بعدما هاجر كل الأولاد، يحافظون على ما تبقى من مظاهر تدلل على المستوى الاجتماعي السابق. لا هم يبيعون الشقة (التي للمفارقة أيضاً لم يتأثر سعرها رغم الانهيار) ولا هم بمقدورهم مالياً أو نفسياً من استخدام التبريد أو تكبد كلفة الاشتراك. لا يرون أولادهم ويتمنون تهجير من تبقى منهم.
لم يعد في البلد سياسة. هل من لا يزال فعلاً يتابع زيارات لو دريان وفرص سليمان فرنجية وحوار التيار والحزب ويعوّل على تغيير ما مع انتخاب رئيس أو تأليف حكومة؟ نؤمن وصول نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة ثم نلومه على مصائبنا. نؤمن وصول نواباً على لوائح مشتركة لأحزاب نتهمها بالفساد وعرقلة الاصلاح. ما معنى السياسة عندها؟
«لدي شعور أنه في غضون سنوات قليلة سوف يفعل الناس ما يفعلونه دائمًا عندما ينهار الاقتصاد: سيلقون باللائمة على المهاجرين والفقراء». الاقتباس من فيلم «ذا بيغ شورت»، والانهيار الذي يشير اليه هو الانهيار المصرفي والعقاري في الولايات المتحدة الاميركية عام ٢٠٠٨ لكنه اقتباس ينطبق أيضاً على انهيارنا المدوي المتواصل منذ أربع سنوات. فنحن لا نكتفي بلوم اللاجئين والفقراء، أزمتنا المتفلتة من كل عقال تحتاج أن نغذيها دوماً بخطر داهم لنبقى في حالة هروب متواصل الى الأمام.
يبدأ فيلم «ذا بيغ شورت» باقتباس لمارك توين يقول «ليس ما تجهله هو ما يوقعك بمأزق بل ما تعتقد انه يقين وهو ليس كذلك». البلد مليء بالحقائق المطلقة. لا أحد يسأل. الكل يجيب. ولماذا نبحث عن اجابات؟ فها هي نتائج التدقيق الجنائي الذي قالوا لنا يوماً أنه أساس الاصلاح قد ظهرت. وفيه من الإجابات على أسئلة لم يعد أحد يطرحها. قالوا لنا يوماً إن هذا التدقيق خطير لدرجة أن هناك جهات تحاول عرقلته. ولماذا تعرقله؟ نتائج التدقيق صارت علنية وعدد من قرؤوه يحسب على أصابع اليد. لكن تلك نغمة كانت تصلح لزمن مضى. اليوم لدينا نغمة جديدة اسمها «اللا-مركزية المالية الموسعة». انسوا التدقيق الجنائي، اللامركزية هي التي سوف تنقذنا.
يروي فيلم «ذا بيغ شورت» قصة ثلاث شخصيات حقيقية لرجال من عالم وول ستريت تنبؤوا بالأزمة قبل حدوثها وراهنوا على انهيار سندات الرهن العقاري وجنوا بسبب ذلك أرباحاً طائلة. يروي الفيلم كيف كان الجميع يقول إن هذه السندات لا خطورة عليها وأن «السوق العقاري صلبة للغاية» ما يذكرك بشعار الليرة بألف خير. ثم يتكرر في الفيلم التساؤل عما إذا كان المتسببون بالأزمة قاموا بذلك عن غباء أو عن مكر ويخلص الى أننا نغفل مدى غباء النظام حقاً ولكن المصارف الكبرى ومعهم هيئات الرقابة ووكالات التصنيف «كانوا يعلمون أنهم في النهاية سيتم انقاذهم من أموال دافعي الضرائب. ما كانوا أغبياء، هم فقط لم يكترثوا». بالفعل في مقابلته الأخيرة كان رياض سلامة يجاهر بالكثير من الأمور التي تدينه لكنه لم يكترث كما ذينك الوسيطين العقاريين في الفيلم، اللذين راحا يتبجحان بكمية القروض السكنية التي قاموا بتسهيلها لأفراد لن يتمكنوا من سدادها، فسأل مارك باوم (أحد الشخصيات ويلعب دوره الممثل ستيف كاريل): لماذا يُقدِّمان الاعترافات؟ فأجابه مساعده: لا، هما يتباهيان.
لكن ما دخلنا بـ «ذا بيغ شورت»؟ فليس من أزمة في البلد الذي لا قضاء فيه ولا مؤسسات ولا كهرباء ولا تعليم ولا تغطية صحية. لا أزمة في البلد الذي يحتل المرتبة الأولى عالمياً في نسبة تضخم أسعار الغذاء ونصف شعبه يعاني من انعدام الأمن الغذائي. البلد الذي تبخر منه مئة مليار دولار بألف خير، يناقش الآن فيلم باربي.

* كاتبة