سوريا عقدة الشرق الأوسط والعالم العربي، بدونها لا طعم ولا رائحة ولا لون لأية سياسات واستراتيجيات تُرسم في الإقليم. منها تبدأ الحكاية وفيها تنتهي.في عز حرب تموز 2006، زفت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس «بشرى» ولادة شرق أوسط جديد، لكن ذلك لم يحصل. وبعد مخاض ثورات/ حروب «الربيع العربي» على مدار عقد ونيف، وأخيراً، مع بدء اتفاق القوى الإقليمية على كلمة سواء. يتبادر إلى ذهننا فوراً، جملة أسئلة، جلّها: هل ثمة أمل بتلاقي مختلف القوى الإقليمية الفاعلة والواعدة في الإقليم؟ وهل سنشهد طاولة مربعة الأضلاع تتسع لكل من تركيا وإيران والسعودية ومصر؟ وهل نعيش هذه المرّة ولادة شرق أوسط جديد، مُغاير طبعاً لما كانت تطمح إليه الإدارة الأميركية؟
منذ مطلع عام 2021، بدأت تبرز على السطح مساعٍ جديّة لتضميد الندوب والجراح التي خلّفتها حروب «الربيع العربي»، بدءاً من ليبيا وسوريا، وصولاً إلى اليمن غير السعيد. وراحت تتقلد مختلف الدول الإقليمية سياسة تصفير المشاكل، التي أطلقها لأول مرة، رئيس ديبلوماسية الدولة التركية في مطلع القرن الحالي أحمد داود أوغلو. وكانت، بالمناسبة، الأخيرة هي أُولى الدول التي أقلعت عن هذه السياسة منذ اندلاع الشرارة الأولى لثورات «الربيع العربي»، حيث دغدغت أحلامها «العثمانية الجديدة» آنذاك، أو حسب وصف الرئيس السوري بشار الأسد، المعبّر فعلاً عن واقع الحال التركي، في كلمته في قمّة جامعة الدول العربية في جدة في 19 أيار الماضي: «الفكر العثماني التوسعي المُطعّم بنكهة إخوانية منحرفة».
بعد تونس ومصر وليبيا، اتجهت كل الأنظار إلى سوريا، مربط الخيل المنشود لكل دولة، إقليمية كانت أو عالمية، تريد نفوذاً في الشرق الأوسط، «يقول درس الجغرافيا والتاريخ الرقم واحد في الشرق الأوسط إنّه لا دور إقليمياً ممكناً دون الهيمنة على، أو التحالف مع، سوريا» حسب رأي الباحث المصري الراحل مصطفى اللباد.
وعلى هذه القاعدة، بنت الجمهورية الإسلامية في إيران نفوذها في الشرق الأوسط، لكنها اختارت طريق التحالف مع سوريا سبيلاً لذلك. فمنذ نعومة أظفار الثورة الإسلامية، استقرأ فيها الرئيس حافظ الأسد مشروعاً مقاوماً وداعماً لقضايا العرب في مواجهة إسرائيل. ولاقاه الإمام الخميني في أول الطريق، وبنيا معاً علاقة استراتيجية مشتركة ما زال الطرفان حتى الآن يقطفان من ثمارها. هذا فضلاً عن أن الأسد وجد ضالّته في هذا التحالف لإحداث توازن مع غريمه البعثي الرئيس العراقي صدام حسين.
وهنا، ثمة من يتساءل، بعدما امتد نفوذ طهران من أفغانستان شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً، ماذا تريد طهران بعد؟ وهل يكتمل حلمها بزوال إسرائيل؟ أم أنّ مشروعها يتخطّى الإقليم؟
وتركيا، لم تَحِدْ عن هذه القاعدة، لكن تقلّبت سياساتها تجاه سوريا، مرّة أخذت طريق التحالف، ومرّات عدة طريق الهيمنة والصراع، وصولاً إلى الحرب. وعليه، لم يتسنّ لها خطب ودّها. عملت على تصحيرها عن طريق بناء السدود على الأنهر المؤدية إليها من تركيا، وتلاعبت في الحدود بهدف قضم أراضٍ منها، حتى كادت أن تُشعل حرباً معها في تسعينيات القرن الماضي. وانتهت باتفاقية أضنة التي كان لمصر دور رئيس فيها عام 1998. ومن ثم عمدت أنقرة إلى فتح صفحة جديدة مع دمشق، في العقد الأول من القرن الحالي، لكن سرعان ما طوتها حينما تسنّت لها فرصة السيطرة والهيمنة بطعم الاحتلال، إذ لم تتورّع في أن تكون رأس حربة في الحرب التي قامت على سوريا طوال العقد الماضي. وحَلِمَ رئيسها رجب طيب إردوغان بالصلاة في المسجد الأموي الكبير في دمشق بعد إطاحة الرئيس بشار الأسد.
والدولة الإقليمية الثالثة، السعودية، التي، بدورها، لم تتفهم سوريا الأسد كفاية، لا في الأمس القريب ولا في الأمس البعيد. بداية اتبعت المملكة سياسة الترغيب لإبعاد سوريا عن إيران، ومن ثم فتحت صنبور الدعم اللامحدود للفصائل العسكرية المقاتلة في سوريا بقصد إسقاط النظام فيها. وبعد فشل مشروع الإسقاط عدلت الرياض أخيراً عن السياسة الصراعية، وتتطلّع اليوم إلى سياسة تحالفية وتعاونية مع سوريا وسائر الدول العربية وغير العربية، ولا سيما تركيا وإيران.
بدون شك، أن المملكة السعودية خلعت عنها ثوب الإسلام التقليدي، وباتت اليوم مع وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان (الحاكم الفعلي للمملكة) دولة متحررة إلى حد ما من الانضباط الديني لمصلحة الانفتاح ومجاراة العصر، فضلاً عن سياسة طموحة وتنويع في خياراتها الخارجية، ولا سيما بعد توجّهها شرقاً وبقوة. وباتت دولة واعدة وقادرة لأن تتبوأ مكانة ونفوذاً في الإقليم يليق بحجمها ومقدّراتها التي طالما طمستها علاقتها غير المتكافئة مع الولايات المتحدة الأميركية.
إذا ما قُدّر للدول الإقليمية الأربع الالتقاء على طاولة واحدة، مربعة الأضلاع، مع ما تملك هذه الدول من موقع جيوسياسي ومقوّمات ضخمة على مختلف الصعد، فسيجعلها نقطة توازن وارتكاز وتقرير


وسوف تكون عودة العلاقات السعودية السورية إحدى ركائز ابن سلمان للسير قُدماً في مشروعه العربي، والذي تجاوز صراعه مع سوريا على مدار 12 عاماً. وكان مستوى الترحيب الذي لاقاه الأسد في القمة العربية، وما سبقه من جهود سعودية لاستعادة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية، خير دليل على سياسة ابن سلمان الانفتاحية في مملكة تسمح مقدّراتها بقيادة اقتصادية على الأقل، للدول الإقليمية الفاعلة (السعودية، تركيا، إيران ومصر)، وربما نشهد إقامة تحالف في ما بينها تحت مسمى (G 4) على غرار تجمُّع الدول الصناعية السبع (G 7). بل أكثر من ذلك، يمكننا أن نذهب في التحليل، في ظل المتغيرات الدراماتيكية التي يشهدها العالم على وقع الحرب الأوكرانية، والصراع الاستراتيجي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين، والارتخاء الذي يصيب القبضة الأميركية في الإقليم والعالم، وتشابه الأوضاع التي يمر بها العالم اليوم إلى حد بعيد، بالأجواء التي سادت في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ذروة الحرب الباردة، والاستقطاب بين المعسكرين السوفياتي والأميركي وحلفَي وارسو و«الناتو» آنذاك، إلى أنّ ثمة إمكانية للمملكة العربية السعودية وبعض الدول، كالبرازيل والأرجنتين والهند وباكستان وإندونيسيا ومصر، وغيرها، للتأسيس لتحالف دولي يقف على مسافة متوازنة من الاصطفافات الدولية القائمة بين أميركا والغرب من جهة، وروسيا والصين وحلفائهما من جهة ثانية، على غرار حركة دول عدم الانحياز التي انبثقت عن مؤتمر باندونغ في نيسان عام 1955.
أمّا الدولة الإقليمية الرابعة، والتي اتسمت سياستها بالهدوء والرصانة، ولم تقطع علاقاتها مع أي دولة عربية، باستثناء القطيعة مع قطر (2017-2021) تضامناً مع السعودية والإمارات والبحرين، وظلّت حريصة على ضمان وحفظ سيادة تلك الدول، فهي جمهورية مصر العربية، التي يربطها مع سوريا تاريخ مشترك، بل دولة واحدة (1958-1962)، فوقفت في الوسط، ولا سيما في ما خص الحرب السورية، لكن تراجع دورها الريادي، وانشغالها بحالها، وظروفها الاقتصادية الصعبة، حالت دون أن تقوم بدور ما في منع تفاقم تلك الحرب وإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية. بخلاف الدور الذي أدّته كل من إيران وتركيا، سواء سلباً أو إيجاباً.
ففي السنوات الأخيرة، وبعد دخول روسيا في الحرب السورية عام 2015، شهدنا حراكاً إقليمياً واسعاً، بدأ بتناغم روسي وتركي وإيراني في منصتَي أستانا وسوتشي، بهدف إيقاف الحرب وتنظيم الوضع في سوريا، والذي قد يؤدي إلى مصالحة تركية سورية. والحدث الأبرز والمفاجئ أتى من بكين في العاشر من آذار الماضي، حيث أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ صفارة انطلاق المصالحة السعودية الإيرانية، التي تمّ الاشتغال عليها قبلاً في كل من بغداد ومسقط.
وقد ساهمت هذه الأجواء في حثّ كل من مصر وتركيا للعمل على تذليل العقبات بينهما، بعد مرور عقد على التوتر والقطيعة بين البلدين، حيث كان عام 2021 بداية تفعيل اللقاءات السياسية وغير السياسية بينهما، ووقوف أنقرة عند خاطر القاهرة، ولا سيما لجهة عدم إبقائها ملجأ أو منصة لـ«الإخوان المسلمين» في مهاجمة الدولة المصرية، وتوقفت أيضاً عن منح قادة التنظيم الجنسية التركية. وتوّجت اللقاءات السياسية بلقاء قمة دام 45 دقيقة بين رئيسَي البلدين إردوغان وعبد الفتاح السيسي على هامش فعاليات مونديال قطر 2022 في الدوحة في تشرين الثاني الماضي. تبع ذلك السيسي باتصال في الثامن من شباط الماضي، بنظيره التركي للتعزية في ضحايا الزلزال والإعراب عن استعداد مصر لتقديم جميع أوجه المساعدة المطلوبة في هذا الشأن، وسبق لمصر أن وقفت مع تركيا عندما ضربها زلزال عام 1999. ومن ثم أوفد وزير خارجيتها سامح شكري إلى تركيا. وفي 14 آذار الماضي كانت زيارة لوزير خارجية تركيا مولود تشاووش أوغلو إلى القاهرة، التي وصفت بأنها زيارة إعادة تدشين العلاقات بين البلدين، حيث اتفق مع نظيره المصري على رفع مستوى العلاقات الديبلوماسية من قائم بالأعمال إلى سفير. ونشير هنا إلى أن سفارتَي البلدين في أنقرة والقاهرة، وقنصليّتيهما في إسطنبول والإسكندرية لم تغلق أبوابها طوال الأزمة بينهما.
وبطبيعة الحال، سيستمر إردوغان بعد فوزه بولاية رئاسية خامسة، في سياسة تصفير المشاكل، وسوف يُكمل سياسة التوازن بالعلاقة مع المحاور الدولية أو حتى في علاقاته الثنائية مع الدول، على الرغم من عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يدعم بشكل واضح أوكرانيا في حربها المستمرّة مع روسيا.
وعليه، تبقى العقبة أمام اكتمال عقد المصالحات بين الدول الإقليمية الفاعلة، العلاقة «اللغز»، المقطوعة منذ أربعة عقود ونيف بين مصر وإيران، رغم تقارب الشعبين وتماهي ثقافتهما وتاريخهما الضارب في أعماق التاريخ، وعدم وجود خلافات بينهما، لا حدودية ولا تضارب مصالح، وإن كانت إيران تعدّ منافساً جدياً وصلباً لكل القوى الإقليمية في المنطقة، سواء عربية كانت أو غير عربية. وثمة معلومات رشحت أخيراً، تؤكد أن مسعى عُمانياً جدياً يعمل على عودة العلاقات المصرية الإيرانية، والتي كانت على جدول زيارة سلطان عمان هيثم بن طارق في زيارته الأخيرة لطهران.
هذا لا يعني أن المطلوب من مصر التصالح مع إيران وحسب، إنما على مصر أن تعي كيف تقوم بدورها في الإقليم، والذي يتجسد في القومية والعروبة اللتين برعت بهما. ونعود هنا إلى الباحث اللباد أيضاً، الذي رأى في «إعادة تعريف المنطقة العربية، باعتبارها جزءاً من منطقة إسلامية أكبر - أمراً يناسب المصالح التركية والإيرانية. وبالمناسبة يجب القول بأن العروبة مصلحة وطنية مصرية أساسية، ولو لم تكن موجودة، لكان لزاماً على مصر أن تخترعها تحقيقاً لمصالحها ونفوذها في منطقتها». بمعنى آخر، نموذج مصر الذي بمقدورها تقديمه، هو العروبة وإعادة إحياء القومية العربية بصيغة تعاونية لا صراعية مع القوميات الأخرى المحيطة بنا. وكان المفكر المصري جميل مطر قد اقترح في مقال له في موقع «180 بوست»، إمكانية إقامة علاقة تعاونية/ تحالفية بين مصر والسعودية تتصدران من خلالها العالم العربي، بحيث تشكلان معاً ثنائياً له ثقل في الإقليم والعالم.
في المحصلة، إذا ما قُدّر للدول الإقليمية الأربع الالتقاء على طاولة واحدة، مربعة الأضلاع، مع ما تملك هذه الدول من موقع جيوسياسي ومقومات ضخمة على مختلف الصعد، فسيجعلها نقطة توازن وارتكاز وتقرير في الشرق الأوسط في ظلّ ما يحدث من متغيّرات في الإقليم والعالم، ولا سيما تراجع الدور الأميركي في المنطقة.
* باحث لبناني