أعضاء لطوائف أم مواطنون في دولة؟ منذ سنة 1971، تاريخ نشر «جمعية تنظيم الأسرة» لمعطيات الزواج والتزاوج في لبنان، التي استندنا إليها، إلى سنة 2011 - المرجعية لبيانات سجلّات النفوس التي منها استمدّت «الدولية للمعلومات» معطيات تحقيقها المنشور سنة 2013 -، تكون قد مرّت أربعون سنة كاملة. وخلال هذه الحقبة، يكون قد تَعاقَب على التزاوج أقلّه جيلان من اللبنانيين، كان يمكنهما أن يُحدثا فارقاً في الشأن الزواجي والعائلي المطروح على بساط البحث، لو كان السعي إلى تحقيق مثل هذه الغاية حقّاً في عِداد أولويات هؤلاء. ولكن، في المحصّلة النهائية، كان أن بقي المعدّل العام للتزاوج الإسلامي - المسيحي، في نهاية الحقبة، تماماً كما كان في بدايتها، في حدود 0.9% من المجموع الإجمالي للزيجات المسجّلة في البلد. كما بقيت معدّلاته ما بين الطوائف المذهبية داخل كلّ من الدائرتَين الدينيتَين على حدة، أي ما بين الكاثوليك والأرثوذكس والإنجيليين في الجهة المسيحية، وبين السنّة والشيعة في الجهة الإسلامية، تقريباً على حالها، إن لم تكن قد تدنّت بعض الشيء، وهي الضئيلة أصلاً إلى حدّ بعيد، وإنْ بفوارق نسبية غير قليلة بين جهة دينية وأخرى. وهذا يعني، بكلام مباشر، أن اللبناني بقي، بوجه العموم، لا يقترن إلّا بمسيحية متى كان مسيحيّاً، وبمسلمة متى كان مسلماً، لا بل حتى، في نطاق أضيق، بسنّية، متى كان سنيّاً، وبشيعية متى كان شيعياً، فيما يقترن الدرزي، من جهته، بدرزية، وكذلك الماروني بمارونية، والأرثوذكسي بأرثوذكسية، والأرمني بأرمنية، وهكذا دواليك، بعيداً عن كل اختلاط عابر للطوائف، إلّا في حدود هوامش تكاد لا تُذكَر ما بين عموم المسلمين والمسيحيين، ومن ثم، على مستوى الانتماءات المذهبية، محدودة قليلاً (كما بين الطوائف المسيحية) أو كثيراً (كما بين الطوائف الإسلامية).
وفي هذه الظاهرة، إضافةً إلى ما تقدَّم، ما يؤشّر إلى أمور عدّة، ليس أقلّها، على ما يبدو، أن اللبناني اليوم ما زال في الإجمال، وفي ما خلا استثناءات محدودة، تماماً كما كان سنة 1971، كيلا نذهب إلى أبعد في الماضي. عنينا: لا مجرّد مواطن في دولة كانت لتتحدّد هويّته الأساسية بالانتساب إليها بمعزل عن انتمائه إلى طائفة، بل في المنطلق عضواً في طائفة هي، بالنسبة إليه، الكيان الاجتماعي الوسيط الذي إليه ينتسب لزوماً في الأساس، والذي من خلاله فقط يتحقّق انتماؤه إلى الكيان الوطني الجامع، المتمثّل بالدولة. أمّا البرهان على صحة هذه الفرضية، فليس ثمّة ما يبدو أدلَّ عليه، في مقاربة أولية للظاهرة، من الخلفيات الاجتماعية القانونية الكامنة وراء معدّلات التزاوج الآنفة الذكر. فماذا بالتالي، بدايةً، عن الخلفيات هذه؟
بالعودة إلى عقد الزواج بين رجل وامرأة في أيّ بلد من العالم، حينما يُبرَم، إنّما يبرَم عادةً لا كيفما كان، من دون ضوابط، بل تبعاً لأحكام التشريع المعتمَدة من قِبَل الدولة لرعاية الأحوال الشخصية للناس في البلد المعنيّ. فلو كان هذا المجال في لبنان خاضعاً لقانون موحّد يطبَّق على الجميع من دون تمييز، لكان الجميع، طبعاً، يتزاوجون وفقاً لأحكامه، ولكانوا، استطراداً، ليخضعوا لأحكامه أيضاً في تنظيم عائلاتهم العتيدة، المفترَض تكوّنها على امتداد زيجاتهم المعقودة من هنا. ولكن مثل هذا القانون الموحّد غير موجود عندنا. وفي غيابه، يبقى لدى كل طائفة من الطوائف الثماني عشرة التي يتوزّع عليها أهل البلد، قانونها المذهبي الخاص للأحوال الشخصية. وهي، بطبيعة الحال، إذ تقوم بذلك، إنّما تفعل، غير عابئة بما قد تنطوي عليه عموماً أحكام قانونها هذا من اختلافات قد تتّسع أو تضيق، لا بل قد تصل حتى إلى حدّ التعارض التامّ مع أحكام القوانين الموازية لها عند سائر الطوائف، على حدّ ما اتّضح أعلاه من قراءتنا للجدول 1.
فبالتالي، استناداً إلى ما تقدّم، إلامَ عساها تفضي في المحصّلة النهائية عمليات التزاوج الجارية من هنا، وهي المبنيّة أصلاً على الأُسس المعيارية السابقة الذكر، مع ما هي عليه من تعارضات واختلافات من طائفة إلى أخرى؟ هي، وللبداهة، تفضي، بفعل كل زيجة تحصل، إلى تكوين عائلة بمواصفات نمطيّة خاصّة بالطائفة التي إليها ينتمي الزوجان، وظيفتها الحكمية الإسهام لا في إحداث تغيير في البنية الطوائفية الموروثة للمجتمع اللبناني، بل في النقيض التامّ لهذا الأمر. عنينا به الإسهام في إعادة إنتاج البنية هذه، جيلاً بعد جيل، كما كانت في أساسها: بنيةً مكوَّنة، لا من مجرّد مواطنين أفراد ينتمون إلى دولة بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية، بل من طوائف متجاورة، مع ما هي عليه من تباينات في الثقافات الخاصّة والانتظام الداخلي على قاعدتها، ولكن دونما تناضح حميم ما بينها إلّا نادراً أو قليلاً.
بيدَ أن القوانين في حدّ ذاتها ليست هي ما يصنع الظواهر المجتمعية الصلبة. وفي ما يتعلّق بالظاهرة التي تعنينا الآن، ليس تعدُّد قوانين الأحوال الشخصية القائم عندنا، هو منبعها بالمعنى الدقيق للكلمة. وخير دليل على ذلك ما رأيناه، مثلاً، من ندرة الزيجات بين السنّة والشيعة، وقلّتها المفرطة بين الكاثوليك وغير الكاثوليك من المسيحيين، على رغم عدم تعارُض مثل هذه الزيجات مع أحكام القوانين المعمول بها في كلتا الجهتَين. ما يعني تالياً أن ما تقوم به القوانين يبقى كناية عن تأطير وشرعنة لظاهرة اجتماعية ثقافية منبتها، في الواقع، آخر. وفي الحالة الحاضرة، ليس منبت الظاهرة التي تعنينا إلّا خيارات وجودية وثقافات طاعنة في القِدَم، لدى طوائفنا المتّحدات، تتولّى نقلها ومدّها بعوامل الاستمرار من جيل إلى آخر سيروراتٌ جارية على قدم وساق، لجمعنة الأفراد في إطار كل طائفة، تتولّى تفعيلها، في الأصل، العائلة كمؤسّسة، وبصورة أخصّ الأب والأم فيها. فماذا بالتالي، بدايةً، عن دور هذين الأخيرين؟ ما هي مقوّماته وكيف يتمّ تفعيله في حيِّز العمل؟
للإجابة عن هذا السؤال، نعود إلى العائلة في لحظة تأسيسها، لحظة عقْد قران ربَّيها العتيدَين. فما الذي نراه من أمرها حينذاك؟ نرى، وللبداهة، رجلاً وامرأة يعقدان قرانهما تبعاً لقانون الأحوال الشخصية الخاص بالطائفة، التي بوجه العموم، كما بتنا نعرف، إليها ينتمي الاثنان معاً، وليس أحدهما فقط من دون الآخر. ولأن كلا الاثنين من الطائفة نفسها، فبفعل انتمائهما المشترك، عادةً بالولادة، إلى هذه الأخيرة، ومن ثم، على امتداد هذا الانتماء، جمعنتهما هما أصلاً في كنفها، يكونان تلقائياً، في تكوينهما الشخصي، حاملَين للمواريث الاجتماعية الثقافية نفسها الخاصّة بطائفتهما تلك، ومستبطنَين إيّاها. وهي (أي المواريث) المتمثّلة، كما سبقت الإشارة، بمنظومة متكاملة من أنماط الشعور والتفكير والتصرّف يجملها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا تحت اسم «ثقافة» الجماعة أو الطائفة، ومن ثمّ تجد تجسيدها في معتقدات وتقاليد ومنظومات قيم ومفاهيم ورموز مرجعية دينية وغير دينية، وما عداها جميعاً من محتويات الذاكرة التاريخية للطائفة المذكورة، بما فيها رواسب الصداقات كما العداوات والأحكام الجماعية المسبقة، المقرِّبة و/ أو المباعدة ما بين هذه الأخيرة وسائر الطوائف.
ولأن شأن الزوجين، ربَّي العائلة العتيدة، هو هذا، فهما، تماماً كما كانا قد أخذا عن ذويهما، وسواهم ممّن أسهموا في جمعنتهما، الثقافة الخاصة بطائفتهما، كذلك، بدورهما حيال الأولاد الذين سيُرزقانهم، سوف يؤدّيان الدور نفسه؛ وذلك سواء بالتوجيه المباشر لهم أو بالقدوة، بل ربّما خصوصاً بالقدوة التي يشكّلانها بالنسبة إليهم. عنينا دورهما كأهل، وفحواه قيامهما تقريباً لوحدهما بلا منازع، خلال السنوات الثلاث الأولى من حياة الأولاد هؤلاء، بجمعنتهم، وبالتالي قولبة شخصياتهم على النحو السابق توصيفه وتعيين مقوماته.
فهل هذا، تالياً، يعني أن جمعنة الفرد وبناء شخصيته يكونان قد اكتملا في الثالثة من عمره، أو أن الدور العائد إلى الأبوَين في هذه العملية يكون، عند هذا الحدّ الزمني، قد أعطى كل ما كان بوسعه أن يعطيه وانتهى؟ لا، بالتأكيد، لا هذا، ولا ذاك من الاحتمالَين. بل إن جلّ ما يعنيه - أقله، بدايةً، بالنظر إليه من زاوية نظريّة عامة - هو أنه، مع بلوغ الفرد هذه السنّ، أي الثالثة من العمر، تنتهي إجمالاً، كما سبقت الإشارة، المرحلة الأولية من جمعنته، وتبدأ في آن معاً مرحلتها الثانوية. عنينا بها المرحلة التي فيها، إلى جانب العائلة، تدخل على خطّ جمعنة الفرد وسائط اجتماعية أخرى تكون، في توجيه هذه العملية، حسب المجتمعات، كما الظروف المحيطة، إمّا على تناغم مع العائلة، وإمّا على تناقض معها. ففي حال التناقض ما بين التوجيهَين، ينفتح باب الجمعنة الجارية للفرد المعني أمام احتمالات شتّى لا يتّسع المجال هنا للتوسّع في شأنها. أمّا في حال تناغمهما، فمن الطبيعي ألّا تكون نتيجة دخول الوسائط الأخرى المعنية على الخطّ سوى تثبيت الفرد في احترام المواريث الاجتماعية الثقافية المكتسبة لديه بمحصلة جمعنته الأولية، وحثّه بمحفّزات شتى على البناء عليها. وفي ما يتعلّق بالنظرية الاجتماعية الأنثروبولوجية العامة، يكفينا هذا القدْر من التوسيع.
أما في ما يتعلّق خصوصاً بلبنان، كميدان تطبيقي يعنينا الآن، فالساحة فيه ذات الصلة، داخلَ كل طائفة من طوائفه، تعجّ، كما اتّضح أعلاه، بوفرة من المؤسّسات والأجهزة الخاصّة من مختلف الأنواع، عليها تُعَوِّل الطائفة المعنية لربط مصائر أعضائها جميعاً بمصيرها هي كمتَّحَد اجتماعي ثقافي، وهي تقريباً كلّها قابلة للتصنيف كوسائط للجمعنة الثانوية. وقد ظهر في طليعتها، للتذكير، إلى المؤسّسات والمرجعيات الدينية البحتة، التي من اختصاصها تحديداً الوعظ والكرازة والتوجيه المباشر بمقتضى عقيدتها، مجمل ما ينتشر حولها، كما في ظلالها، من كيانات ذات طابع طائفي معلن أو مموّه، وفي عدادها مدارس وجامعات وجمعيات تبشيرية وخيرية وثقافية، وأندية وحركات شبيبة، وحتى أحزاب سياسية، ووسائل إعلام جماهيري، وما شاكلها جميعاً.
فغنيّ عن البيان، والحال هذه، كم يمكن أن يكون متناغماً مع دور العائلة المعني، في كل طائفة، الدور الذي تقوم به، مباشرةً أو مداورةً، المؤسّسات والأجهزة المذكورة في ترسيخ محصّلات الجمعنة الأولية لأولاد هذه الأخيرة، ومن ثم الإسهام في جعل انتمائهم إليها وولائهم لها، بعيداً عن هموم المواطنة وثقافتها الجامعتَين، صلة وصلهم الحكمية بالدولة.
يتّضح بما لا لَبس فيه أن الطوائفية في لبنان ليست ظاهرة جزئية محصورة المفاعيل في النطاق السياسي الرسمي، أو حتى على نحو أضيق داخل هذا النطاق، بل هي ظاهرة كلّية في مجتمعنا


وصحيح أن في لبنان أيضاً، في مقابل المؤسّسات والأجهزة الخاصّة الطائفية الصبغة هذه، الكثير من أمثالها العائد بنسبته إمّا إلى بعثات أجنبية غير معنية بالاصطفافات الطائفية للبنانيين، وإمّا إلى جهات لبنانية تجاهر بتطلّعها إلى تخطّي هذه الاصطفافات. ونمتنع، للمناسبة، عمداً عن الأخذ في الحسبان لجملة من المؤسّسات الرسمية القابلة، هي أيضاً، للتصنيف كوسائط للجمعنة الثانوية، وأخصّها المؤسسات التعليمية العامّة، المتمثّلة بالمدارس الرسمية والجامعة اللبنانية بفروعها المنتشرة في مختلف المناطق، فضلاً عن وسائل الإعلام الرسمية، المكتوبة والمرئية والمسموعة؛ وذلك باعتبار أن شأنها، في الواقع، شأن آخر. بيدَ أن الصحيح أيضاً، في ما يعني المؤسّسات والأجهزة الخاصّة الأخرى المشار إليها - وهي أصلاً على ما هي عليه من تفاوت ما بينها في الموقف من الطوائفية، يتراوح، وللبداهة، بين المناهَضَة الصريحة والحياد - أنها تبقى، على ما يبدو، عاجزة عن إحداث تحوّل في المشهد الاجتماعي الثقافي القائم، من النوع المعني هنا، تكون وجهته تغليب ثقافة المواطنة العابرة للطوائف على ثقافة التقوقع الطوائفي المتوارثة والولاء للطائفة. وذلك ليس فقط لعجزٍ (مفهومٍ) لديها عن محو الآثار المجتمعة لدور العائلة - العَصِيّ على المحو - في جمعنة الفرد وقولبة شخصيته، وإسهامات وسائط التبنين المتحدّي للطوائف في تثبيت مفاعيل هذه القولبة، بل أيضاً لعلّة إضافية لا تقلّ رسوخاً عن الآنفتَين، مردّها إلى الصيغة المعروفة التي، منذ أن كان لبنان الكبير، ما زالت هي المحدّد الأساس لهوية الدولة اللبنانية.
عنيت بها الصيغة الطوائفية المعتمَدة لتشكيل جهاز الحكم والإدارة وتدبير الشؤون العامة للناس عندنا، التي بحكمها تتحدّد دولتنا كما هي في العمق، وبقطع النظر عن صفة «المؤقتة» التي - ويا للسخرية! - لازمتها أبداً، منذ ولادتها، قبل قرن من اليوم: لا دولة مواطنين، بل دولة طوائف. وهي القاضية بتوزيع مناصب الحكم بسلطتَيه التشريعية والتنفيذية، وعلى رأسهما رئاسات الجمهورية ومجلسَي النواب والوزراء، ونيابتا الرئاستَين الثانية والثالثة، ومعها جميعاً المقاعد النيابية والحقائب الوزارية، فضلاً عن المواقع الوظيفية القيادية، المتمثّلة بوظائف الفئة الأولى وما يعادلها في مختلف الأسلاك والهرميات القضائية، والإدارية، والعسكرية والأمنية، والمالية، والتعليمية، وما إليها، حصصاً متوازنة رمزيّاً كما عدديّاً، ومحدّدة، من حيث الكمّ، على قاعدة مزدوجة، مبدأُها المناصفة ما بين المسيحيين والمسلمين، وفي آن معاً، النسبية ما بين الطوائف المذهبية في كلتا الجهتَين.
أفيُطرَح، والحال هذه، السؤال: ما العلاقة المفترضة لهذه الصيغة الطوائفية بإعاقة تحوّل اللبناني من مجرّد عضو في طائفة إلى مواطن بالمعنى الدقيق للكلمة؟ طبعاً؛ بل لا بدّ من طرحه. أمّا الجواب عنه، فمفاده بأن مَن مِن اللبنانيين يطمح إلى المشاركة في تحمّل المسؤوليات العامة، على هذا المستوى أو ذاك من المستويات القيادية - وتالياً، بقطع النظر عن وظائف المستويات الأدنى، التي لا نرى حاجة الآن للتطرّق إليها أيضاً - لا يجد، وللبداهة، أمامه من المناصب المعنية سوى حصص محجوزة، جميعاً بلا استثناء، بعيداً عن هاجسَي المواطن والمواطنة، لطوائف تتمثّل فيها، كلاً، بمن قد ينوب عنها من أعضائها.
فأمام هذا الواقع، بإمكان صاحب الطموح طبعاً اختيار أن يكون مواطناً فحسب، غير معدود على أيّ طائفة، وفي مثل هذه الحال، إذاً اختيار التخلّي عن طموحه المذكور، ومن ثم إخراج نفسه من دائرة الحسبان في معادلة الوظائف العامّة. أمّا إذا ما أصرّ على الاستجابة لطموحه هذا، فدونه عند ذاك سلوك أحد السبل الثلاثة الآتية:
ـ إنْ كان طموحه الحصول على مقعد نيابي، الترشّح لمقعد محجوز لطائفته في إحدى الدوائر الانتخابية التي لها فيها حضور سكاني وانتخابي وازن، ومن هنا بالتالي، في سعيه وراء تأييد الناخبين، الاضطرار إلى تبنّي الانتظارات الفئوية لقاعدته الناخبة، التي ليست بالضرورة على تقاطع مع الانتظارات والمصالح المشتركة لسائر اللبنانيين؛
ـ وإنْ كان طموحه الحصول على وظيفة من وظائف الفئة الأولى المخصّصة لطائفته في الدولة، وضع نفسه حكماً، في مقابل الدعم لنيل المبتغى، تحت عباءة هذه أو تلك من المرجعيات الكبرى - السياسية أو الدينية أو الاقتصادية - لطائفته، التي تتنازع الزعامة عليها؛
ـ أمّا إذا كان طموحه الارتقاء إلى إحدى الرئاسات العليا أو نياباتها، أو الحصول على مقعد وزاري، فسبيله يكون إذ ذاك، لا محالة، سبيلاً مزدوجاً، قوامه: من جهة، سعي إلى الحصول على برَكة من بيدهم الحلّ والربط في داخل طائفته، ومن جهة أخرى، العمل على إحراز صفقات لا غنى عنها للفوز بالمنصب الرئاسي، أو الوزاري، مع القوى الأكثر تأثيراً عند سائر الطوائف، في صياغة التوافقات العامّة.
فإذا بالدروب المستعارة من هنا لبلوغ الهدف، وإنْ تباينت في تفاصيلها الإجرائية، تعود باللبناني الفرد، في المحصّلة النهائية، وتلتقي عند نقطة الانطلاق. وهي تثبيت محورية انتمائه إلى طائفة - وربّما أيضاً تبعيّته لزعامتها - على حساب مواطنته المفترضة، سواء في تكوين الإطار الخاص بحياته الحميمة، المتمثّل في تكوين أسرته بالذات، أو في تشكيل أطر حياته العامّة.
فعليه، تالياً، إلى أين بنا من هنا؟ بالطبع، إلى الخلاصة العامة لمسك الختام.

الخاتمة
في المحصّلة النهائية لهذه الدراسة، يتّضح بما لا لَبس فيه أن الطوائفية في لبنان ليست ظاهرة جزئية محصورة المفاعيل - كما يطيب للبعض تصوير الأمر - في النطاق السياسي الرسمي، أو حتى على نحو أضيق داخل هذا النطاق، في كيفية توزيع المناصب داخل جهاز الحكم وأدواته المؤسّساتية في مختلف القطاعات، بل هي ظاهرة كلّية في مجتمعنا. إنها، بعبارات أوضح، منظومة تشمل مختلف جوانب الحياة في هذا المجتمع، الاجتماعية والثقافية منها، كما السياسية، إنْ لم يكن حتى، على ما يتّضح من بعض الدراسات، الجانب الاقتصادي - الاجتماعي أيضاً.
وهي، إلى ذلك، إذ تضرب جذورها عميقاً في تكوين العائلة بالذات كنواة للمجتمع، ومن ثمّ في تربية أطفالها، وقولبة شخصياتهم وفقاً للقواعد النمطية والمواريث الثقافية لطائفة الانتماء في كل حالة، إنّما تمضي صعداً لتشمل، أولاً، مستوى التبنين المتحدّي لكلّ طائفة بمعزل عن سواها - وذلك تحت عنوان خدمة المصالح الدينية لهذه الأخيرة في مختلف نواحي الحياة - وتبلغ، من ثم، ذروة الإحاطة، بشمولها أيضاً أعلى الهرم الدولتي الآنف الذكر.

هناك ضرورة لتجهيز الدولة بقانون مدني - اختياري - للأحوال الشخصية، يكون مجرّد إقراره تسليماً في حقّ المواطن اللبناني في أن يختار بينه وبين القانون المعتمد من قِبَل طائفة ولادته، لتكوين رابطته الزوجية وعائلته على أساسه


ولكنّ ما يتّضح من أمرها، فيما هي تتمدّد على هذا النحو، عمودياً كما أفقياً، هو أنه، خصوصاً على المستويَين الأدنى والأعلى، أي العائلي والدولتي، من بين المستويات الثلاثة الآنف تمييزها، على علاقةٍ - هي في الحدّ الأدنى - إشكالية مع حرية الفرد اللبناني وحقّه في الاختيار . فهي، على هذين المستويَين، بما يتعارض صراحة مع بعض أحكام الدستور، تقيِّد تقييداً تامّاً حرية الفرد هذا في الاختيار بين أن يكون مجرّد مواطن - مواطن بلا نعوت تعرّف عنه - أو يكون عضواً حكمياً في طائفة. وهي من ثم تلزمه إلزاماً الانصياع للخيار الثاني ولو عن غير اقتناع، كشرط للحصول على حقوقه ذات الصلة، تحت طائلة حرمانه إيّاها عملياً، إن تمنَّع عن الامتثال.
وهذا ما، في الحقيقة، كان من ترجمات المنظومة الطوائفية العملية له، على المستوى الأول، أي العائلي من جهته، أن أبقت الجمهورية أبداً، منذ إعلانها، غير مجهزة بقانون مدني - ولو، في الحدّ الأدنى، اختياري - للأحوال الشخصية. فكان من جرّاء ذلك أن بقي على الراغب في الزواج لزاماً الخضوع، في عقْد قرانه وتكوين عائلته، لقانون الأحوال الشخصية الخاص بالطائفة التي إليها ينتمي. وهذا ما، في نهاية المطاف، على امتداده إنّما يتمّ كل ما بتنا لا نجهله من كثافة التزاوج الداخلي لدى كل طائفة، مع كل ما يترتّب على هذا التزاوج الداخلي من عواقب بتنا لا نجهلها، سواء لجهة تثبيت «الأسوار» الفاصلة تقليديّاً ما بين الطوائف - وهي التي في غيابها كانت عمليات التبنين المتحدّي لهذه الأخيرات، بكل بساطة، لتفقُّد مرتكزها الأساسي المتمثّل بالديموغرافيا - أو لجهة الجمعنة الطائفية للأجيال الجديدة المتحدّرة منه.
أمّا في ما يتعلّق بثالث المستويات المعني، أي المستوى الدولتي، فإن ما نراه فيه من وقف حصري لجميع المناصب القيادية الملحوظة لحكم البلد والناس وتدبير شؤونهم على أعضاء لطوائف يُنتَدَبون لتمثيلها، لا مرد، تحديداً، له إلّا إلى التجاهل نفسه من قِبَل المنظومة الطوائفية لحرية الفرد، التي كفلها له الدستور، في اختيار أن يكون - هنا أيضاً - مجرّد مواطن، وليس بالضرورة عضواً في طائفة أو ممثّلاً لها في موقع عام.
وهنا، في هذا المحور بالذات، محور تنكُّر المنظومة الطوائفية المهيمنة على الدولة والبلد لحرية الفرد بمستويَيه الأدنى والأعلى، إنّما تكمن واحدة، بنيوية ومركزية، من المعضلات المستحكمة بديموقراطيتنا المأزومة. وهي، للمناسبة، المأزومة إلى حدّ عجز بات قاتلاً، عن إنجاز الاستحقاقات الدورية الكبرى، كانتخاب رئيس للجمهورية في موعده، أو تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات في مهلة معقولة، أو تجديد انتخاب المجلس النيابي أو المجالس البلدية عند استحقاقها، أو حتى الذهاب إلى النهاية في تحقيق محاسبي جنائي يهدف إلى تحديد المسؤوليات عن جرائم مالية رهيبة ارتُكِبَت في حقّ شعب بأكمله، وما إليها جميعاً، فيما البلد المسيَّب والمنهوب ينهار ويخرب كل يوم أكثر.
فإن شئنا، والحال هذه، إصلاحاً لهذه الديموقراطية، كان بالطبع لزاماً علينا البدء من هنا بالذات في إصلاحها الذي بات لا يَحتمل التسويف. فمن أين بالتالي تكون البداية؟ بالتأكيد لا من مقاربة للظاهرة الطوائفية لا ترى منها إلّا وجهها السياسي المعروف باسم «الطائفية السياسية»، وتترك جانباً ما كان وما زال في الأساس هو مبرّر اعتمادها؛ عنيت سائر أبعادها المجتمعية.
إن مدخل الحلّ تسوية ورد بعض عناصرها في دستورنا المعدّل نصّه في ضوء اتفاق الطائف، ولكن العصابة الحاكمة التي خربت الدولة ونهبت البلد والشعب اختارت حتى اليوم إهمال تنفيذها ليهون عليها التحكم بأقدارنا كما فعلت عبر السنوات الثلاث والثلاثين الماضية. وفي صلْب هذه التسوية أنها لا تتجاوز الطوائف، إذ الطوائف واقع مجتمعي قائم يصعب - أقلّه في المدى المنظور - تخطّيه، بل تطمئنها إلى احترام خصوصياتها وحقوقها كما التوازنات الرمزية القائمة ما بينها؛ ولكنها، في آن معاً، تعيد إلى الفرد اللبناني حقّه الطبيعي والدستوري المُصادَر عنوةً، في أن يكون مجرّد مواطن، بقطع النظر عن أيّ انتماء طائفي له، إن شاء ذلك. وفي مقدّمة عناوين هذه التسوية ستة متلازمة، نكتفي الآن بالإعلان عنها دونما استفاضة في شروح لا يتّسع المجال لها في هذه العجالة، وبرسم دراسات لاحقة. وهي الآتية:
- أولاً: تجهيز الدولة بقانون مدني - اختياري - للأحوال الشخصية، يكون مجرّد إقراره تسليماً في حقّ المواطن اللبناني في أن يختار بينه وبين القانون المعتمد من قِبَل طائفة ولادته، لتكوين رابطته الزوجية وعائلته على أساسه. ولئن صحّ للمناسبة أن القانون في حدّ ذاته لا يجترح واقعاً اجتماعياً من عدم، كما سبقت الإشارة، فالصحيح أيضاً أن انتفاء وجود مثل هذا القانون المدني المطالَب به، يحول دون شرعنة الزيجات المختلطة دينياً و/أو مذهبياً، مع احترام اختلاطها، ومن ثم البناء عليها لمدى عام غير منحاز طائفياً، فيما لو حصلت؛
- ثانياً: التحوّل بالنظام التمثيلي من نظام المجلس الواحد القائم، إلى نظام مجلسَين: مجلسٍ للشيوخ مفترَضٍ أن يكون المجلس الممثّل للطوائف، والساهر على مصالحها وحقوقها كما على التوازنات الرمزية القائمة ما بينها، ومجلسٍ للنواب يتمثّل فيه المواطنون كمواطنين، بصورة عابرة لانتماءاتهم الطائفية على اختلافها؛
- ثالثاً: تعديل قانون الأحزاب بما يتلاءم مع مقتضيات الفصل المستحدَث من هنا بين تمثيل الطوائف وتمثيل المواطنين، من لزوم للتمييز بين الشروط الخاصة بالترشُّح والفوز بالتمثيل لكل من المجلسَين، وبحيث يكون، من ثمّ، الحقّ في تقديم مرشّحين لانتخابات المجلس النيابي محصوراً بأحزاب و/أو تكتّلات سياسية عابرة - فعلاً، لا قولاً فحسب - للطوائف، فيما يبقى للأحزاب الطائفية الانتماء أن تقدّم مرشّحين لتمثيل طوائفها في مجلس الشيوخ؛
- رابعاً: تعديل قانون الانتخابات بما يتلاءم مع مقتضيات التمييز بين النوعَين الآنفَين من التمثيل الشعبي، مع اعتماد النسبية، وبحيث يكون نطاق انتخاب أعضاء مجلس النواب الدائرة الجغرافية الموسّعة، إنْ تعذّر اعتماد البلد كلّه دائرة واحدة، فيما يكون نطاق انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، بدلاً من النطاق الجغرافي، الطائفة كطائفة في مختلف مواقع انتشارها؛
- خامساً: تقييد المهل المعطاة لإصدار القوانين والمراسيم جميعها (وفي طليعتها مهلة تعيين موعد الاستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس الحكومة المكلف تشكيلها، ومهلة انتهاء الرئيس المكلف من تشكيل الحكومة) في حدود المقتضى لتجنب الإضرار بالمصلحة العامة للدولة والبلد؛
- سادساً: تحقيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، باعتبارها عاملاً فعالاً سواء في تسهيل المعاملات الروتينية للمواطنين وتيسير أمورهم المعيشية وتأمين الخدمات الأساسية لهم (لجهة الماء، والكهرباء، والتنظيفات ومعالجة النفايات، ورعاية البيئة، إلخ) أو في تحقيق المشاركة بين الإدارة المركزية والمناطق في استثمار موارد هذه الأخيرات وإنمائها بصورة عادلة ومتوازنة وطنياً.
* باحث وناشط سياسي