المجازر لا تدخل التاريخ والوقائع السياسية عبر استحضار أهوالها وفظائعها فحسب، بل عبر ارتفاع صوت الضحية ومعاقبة المجرم أولاً. ومن هنا بادر المحاميان البلجيكيان Luc Walleyn و Michael Verhaege والمحامي اللبناني شبلي الملاط إلى رفع دعوى ضد شارون ومن يطاوله التحقيق أمام المحاكم البلجيكية (18/6/2001) بموجب القانون البلجيكي لعام (1993) وتعديلاته لعام (1999). ويتمتع هذا القانون بما يسمى مبدأ «الاختصاص العالمي» أو مبدأ «الصلاحيات الشاملة» Universal Jurisdiction، ما يعني إمكانية ملاحقة ومحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة، بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة وجنسية الضحية أو المتهم. شكّل رفع الدعوى أول حضور فعلي وقوي لضحايا المجزرة منذ العام 1982، وأثار جدلاً واسعاً في الأوساط القانونية البلجيكية والدولية. وتسبب رفع الدعوى في مخاوف إسرائيلية أميركية من عواقب وخيمة على مجرمي الحرب الإسرائيليين والأميركيين السابقين والمحتملين في غير زمان ومكان. وفي هذا السياق ليس من دون مغزى أن تكون الدعوى قد رفعت في اليوم نفسه الذي سيق فيه سلوبودان ميلوسيفيتش إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة.
وتلازم رفع الدعوى منذ البداية مع قدر كبير من الابتزاز السياسي والأخلاقي الإسرائيلي، لدفع الحكومة البلجيكية إلى إبطال مفعول قانون الصلاحيات الشاملة، وذلك من خلال تذكير بلجيكا بماضيها في الكونغو، فضلاً عن اتهامها بالتعاون مع النازية والعداء للسامية.

المسار القانوني والسياسي: أبرز المحطات
بعد إتمام البحث الميداني وإعداد شهادات الموكلين وإنجاز الملف القضائي كانت قد أنشئت لجنة أهلية فلسطينية لبنانية، هي «اللجنة التأسيسية لمساندة الدعوى ضد شارون في المحاكم البلجيكية»، برئاسة الراحل رفعت النمر وعضوية نخبة من الشخصيات القانونية والسياسية الفلسطينية واللبنانية، وذلك من أجل إيجاد مسار إعلامي وعلاقات عامة داعم ومكمل للمسار القانوني. وقد تشرفت بأن أكون منسقاً لنشاطات هذه اللجنة طوال ثلاث سنوات.
بعد أربع جلسات استماع مرّت الدعوى في دهاليز المحاكم البلجيكية (محكمة الاستئناف، ومحكمة النقض والمحكمة العليا) بمسار قانوني وسياسي متعرج بين صعود وهبوط، لكنا في هذه المقالة القصيرة سنتوقف عند أبرز المحطات الفاصلة التي مرّ بها هذا المسار:
I- قرار محكمة الاستئناف (26/6/2202)
قضت المحكمة بأن الدعوى المرفوعة ضدّ شارون غير مقبولة. وبنت المحكمة قرارها على أساس أنه لا يجوز فتح تحقيق في بلجيكا بخصوص جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، ما لم يكن المشتبه فيه موجوداً على الأراضي البلجيكية، اعتماداً على قانون العقوبات البلجيكي الذي يعود في شقه هذا إلى القرن التاسع عشر.
وعلى الأثر تقدّم محامو الضحايا بمذكرة طعن أمام محكمة النقض البلجيكية في (3/7/2002) على أساس أن السبب الذي رفضت بموجبه الدعوى ليس متضمناً في قانون الصلاحيات الشاملة لعام 1993.
وبناءً على ذلك تقدّم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ البلجيكي في تموز من العام نفسه بمشروع قانون تفسيري أمام المجلس لحماية القانون الأصلي (1993) وتعديلاته عام (1999). كما توافق عدد من الأحزاب السياسية البلجيكية على ضرورة حماية جوهر القانون البلجيكي المذكور.
II- قرار المحكمة العليا التاريخي (12/2/2003):
قررت المحكمة العليا (محكمة التمييز البلجيكية) إبطال قرار محكمة الاستئناف (26/6/2002) الذي يقول إن «مجرد عدم وجود المدعى عليه على الأراضي البلجيكية يكفي قانونياً لمنع اتخاذ أي إجراء قضائي بحقه أمام المحاكم البلجيكية». وبهذا سمحت المحكمة بالمضي قدماً في التحقيق والمحاكمة، لكنها ميّزت بين أرييل شارون وبقية المشتبه فيهم (عاموس يارون وغيره)، ما دام شارون يتمتع بحصانة وفق القانون العرفي الدولي International Customary، كونه رئيساً للوزراء حينها.
وأثار قرار المحكمة العليا عاصفة سياسية في إسرائيل دفعت الرئيس الإسرائيلي حينها، موشيه كاتساف، إلى إرسال رسالة وقحة إلى ملك بلجيكا ألبير الثاني جاء فيها: «لا يجوز لأي شخص في العالم التشكيك في الضمير الإسرائيلي... إن بلجيكا لا تملك الصلاحية الضميرية لتقديم زعماء إسرائيل وضباطها إلى المحكمة». وكان بهذا يشير إلى ماضي بلجيكا الاستعماري في الكونغو.
وعلى الأثر، سلّم وزير الخارجية الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للسفير البلجيكي في إسرائيل مذكرة احتجاج، وقال للصحافة: «إن قرار المحكمة البلجيكية كذبة ملفقة ضد الحقيقة والعدالة والأخلاق (...) ولا يضر فقط بإسرائيل وإنما بالعالم الحر أيضاً». وأضاف: «دولة إسرائيل والشعب اليهودي غير مستعدين لقبول أي اتهامات جديدة ضدهما في أوروبا».
شكّل رفع الدعوى أول حضور فعلي وقوي لضحايا المجزرة منذ العام 1982


وفي السياق ذاته أعلنت وزارة العدل الإسرائيلية في (27/5/2003) مقاطعة الدعوى، وذلك قبيل تحديد تاريخ جلسة الاستماع أمام المحكمة في (10/6/2003). وبهذا انسحب شارون ويارون من المعركة القضائية وتراجعا كلياً إلى الميدان السياسي والديبلوماسي.
III- النكسة الكبرى: إبطال الحكومة البلجيكية لقانون «الصلاحيات الشاملة» (12/7/2003)
كانت الانتكاسة الكبرى عندما مررت الحكومة البلجيكية، بعد ساعات قليلة من أدائها اليمين الدستورية أمام الملك ألبرت الثاني، مشروع قانون جديد يبطل مبدأ «الصلاحيات الشاملة». وحصر القانون الجديد القضايا التي يمكن عرضها أمام المحاكم البلجيكية بالحالات التي «يكون فيها المتهم أو الضحية مواطناً بلجيكياً أو مقيماً بشكل دائم في بلجيكا وقت ارتكاب الجريمة». كما تضمن القانون الجديد الحصانة الديبلوماسية لرؤساء الدول والمسؤولين الحكوميين الذين يزورون بلجيكا.
وبدوره أقرّ البرلمان البلجيكي بمجلسيه مشروع القانون الجديد في جلسته بتاريخ (30/7/2003). وبناء على ذلك، أمرت المحكمة البلجيكية العليا في 24 أيلول 2003 بوقف جميع القضايا المرفوعة بشأن المجازر التي ارتكبت في مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982. وأعلن محامو الضحايا، في بيان صدر في اليوم نفسه، أن القانون الجديد ألغى مبدأ الصلاحيات الشاملة تحت ضغط كبير من حكومة الولايات المتحدة الأميركية. وإن هذا الانقلاب البلجيكي هو خدعة وقحة. وأعلنوا إنهم سوف يدرسون إمكانية اللجوء إلى الهيئات القضائية المعنية على المستويين الوطني والدولي لمعارضة هذا القرار.
وفي أعقاب تصويت البرلمان البلجيكي على القانون الجديد أعلن ريد برودي، الناطق باسم منظمة مراقبة حقوق الإنسان HRW، أنها «خطوة إلى الوراء في المعركة الكونية ضدّ انعدام المسؤولية عن ارتكاب الجرائم. إن قوانين الصلاحيات الشاملة يمكنها أن تهدم جدار انعدام المسؤولية هذا الذي يحمي الطغاة والحكام الدكتاتوريين في بلدانهم نفسها».
IV- اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (نيسان 2004):
إزاء ذلك، استأنف محامو أهالي الضحايا ضد قرار الحكومة البلجيكية أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، باعتبار أن ما حصل من إلغاء لقانون الصلاحيات الشاملة يعدّ تدخلاً سياسياً من قبل الحكومة في مجرى العدالة البلجيكية، وانتهاكاً صريحاً للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وللقواعد 45 ، 47 من قواعد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وللأسف رفضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذا الاستئناف واعتبرته «غير ذي صلة». وبذلك جمّدت الدعوى.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه ليس هناك أي علاقة سببية بين تجميد الدعوى وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، كما ورد على لسان فؤاد بكر في مقالة له («الأخبار»، 17 أيلول 2022)، جاء فيها: «أغلقت قضية مجزرة صبرا وشاتيلا بعد تعديل القانون البلجيكي عام 2003، بسبب تعديل نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية». وإنما يعود السبب كما أسلفنا للضغوط الأميركية/ الإسرائيلية على الحكومة البلجيكية التي أدت إلى إبطال قانون الصلاحيات الشاملة.

خلاصة
وهكذا توقف سير العدالة البلجيكية نتيجة للضغط السياسي الإسرائيلي والأميركي على بلجيكا الذي وصل إلى حدّ التهديد بنقل مقر حلف «الناتو» من بروكسل، إن لم يبطل قانون الصلاحيات الشاملة، أضف إلى ذلك التواطؤ الأوروبي مع الحكومة البلجيكية.
فقد أهالي ضحايا صبرا وشاتيلا الأمل، ولو مؤقتاً، في إحقاق العدالة، ولكن يمكن الجزم بأن هذه القضية لم تفقد زخمها المعنوي وقوتها الأخلاقية، ولن تفقدهما طالما أن الجزاء القانوني مبني على مفهوم الضرورة، كما يقول القانوني الهولندي الشهير Hugo Grotius الذي عاش في القرن السابع عشر: «الجزاء القانوني ضروري للاجتماع البشري أولاً، كي لا ينحدر إلى درك التوحش، وضروري للضحية ثانياً كي لا تتهور في سلم الآدمية». وما الإحياء السنوي لذكرى المجزرة وقدوم المتضامنين الدوليين للمشاركة في هذه الذكرى، إلا دليل ساطع على ذلك.
تكاد تكون هذه الدعوى أمام المحاكم البلجيكية الدعوى الوحيدة التي رفعت ضد مجرمي الحرب الصهاينة واتخذت مساراً قانونياً وقضائياً صاعداً وأزعجت إسرائيل والولايات المتحدة. ولولا التدخل السياسي، كان يمكن لها أن تصل إلى نتائج ملموسة على صعيد محاكمة هؤلاء المجرمين وعدم إفلاتهم من العقاب. وهذا ما يبرز ويعزز أهمية النضال القانوني على المستويين الرسمي والشعبي في مواجهة نظام الأبارتايد الكولنيالي الصهيوني، وبخاصة في هذه المرحلة الخطرة التي تمر بها الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي ظل انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية وتوقيعها لبعض المعاهدات الدولية ذات الصلة.

* باحث فلسطيني