جاء رجل إلى سقراط، الذي رفض أن يكون ملكاً على اليونان رغم الضغوط الشديدة عليه، وقال له: «طالما أنت رفضت أن تكون ملكاً، هل توافق على أن أتولّى هذا المنصب، وخاصة أن الملك الحالي غير جدير بهذه المسؤولية»، فأجابه سقراط: «يا عزيزي، الأفكار لا تقاس بالأفراد بل بالمهمات الماثلة أمامك. ففي البحر لا تنظر إلى قدرة البحار الجسدية، بل انظر إلى مهارته في قيادة السفينة».تعود بي الذكرى إلى نهاية الحرب الأهلية في لبنان، حيث احتشد عشرات الآلاف على طرفَي بيروت المقسّمة آنذاك فاعتلوا السواتر الترابية الفاصلة بين شرقها وغربها معلنين أن بيروت بوحدتها تستطيع أن تنهي هذه الحرب اللعينة.
في المسيرة البحرية التي انطلقت من كل لبنان نحو بلدة الناقورة تكرر المشهد، وتأكدت المعاني وترسخت مفاهيم الوحدة بين اللبنانيين.
على مدى ستين يوماً، والناشطون في عمل يومي دؤوب وقد أفرحهم شعار «نفط لبنان للبنان»، وأقلقتهم فكرة عدم إنجاز هذه الرحلة الصعبة، بل المضنية، في البحر مروراً بكل الموانئ اللبنانية.
من أين تمويل هذه الرحلة؟ «والناس ما معها تاكل»، لكن «ربّ همّة أحيت أمة».
تأجل انطلاق الرحلة، مرة بسبب عدم اكتمال الاستعدادات، ومرة بسبب حركة البحر المعيقة لانطلاق السفن، ونحن اليوم عشية «استقبال» هوكشتين اللاعب على وتر الوضع اللبناني المأزوم لنقول له: لبنان الواحد القوي عصيّ على التهديد والمماطلة والتحايل والتذاكي، ولنقول له، واجهنا الغطرسة الإسرائيلية باللحم الحيّ ومن ثم بالزيت المغلي، ثم الرصاصة بالرصاصة والمدفع بالمدفع. واليوم، مقابل سفينة كاريش سنواجهكم بأسطول بحري.
الانطلاق هو يوم الأحد 4 أيلول، وقبل يومين «وقع الفأس بالرأس»، فاختفى المازوت من السوق، فكيف تسير البواخر؟ وبدأ حبس الأنفاس.
هل نلغي الرحلة لمرة ثالثة بعد الإعلان عنها بمؤتمر صحافي غطّته وسائل الإعلام على اختلافها؟ الكابتن علي نعمة، الآتي من اليونان على يخته في البحر يقطع رحلته البحرية ويعود بالطائرة ليصل يوم السبت ظهراً، وتبدأ المداولات. هل نلغي الرحلة بكاملها ونصبح عرضة للسخرية والشماتة والاتهام بالارتجال ومن ثم التقصير.
هل نلغي رحلة السفن الآتية من طرابلس والتي ستستقبلها زوارق وسفن عمشيت، ومن ثم زوارق وسفن جبيل والتي تنتظرها زوارق ضبية وبيروت؟ وما هو مصير شعار «من شمال لبنان إلى جنوبه، مروراً بكل الموانئ»، وخاصة أن تدخلات مشبوهة جهدت لمنع إطلاق البواخر من طرابلس. وبدأت الاتصالات بأصحاب محطات المازوت لتأمين هذه المادة (النعمة – النقمة).
الكابتن علي نعمة يسأل، والمجيب على الهاتف يقول المازوت متوفر لكن بالسوق السوداء. والدكتورة هبة قبيسي تقول أنا أدفع الفرق.
- من وين يا هبة بدك تجيبي المصاري؟
- عندي سيارة رح بيعها اليوم؟
هواتف ترن من كل حدب وصوب، منها من يسأل عن الطعام والماء وأدوية دوار البحر على السفن والمراكب، ومنها من يسأل عن إمكانية اصطحاب عائلته معه، ومنها من يستفسر عن مكان تجمع الباصات الذاهبة براً إلى الناقورة.
ووسائل الإعلام تسأل عن السفن التي يمكن استخدامها للبث المباشر، فيكون الجواب بعد ساعتين منجاوبكن. أنفاس محبوسة وأعصاب مشدودة. وتبدأ الابتسامات على وجه علي نعمة، نجحنا في تأمين ثلاثة يخوت. ومع كل ابتسامة تبدو على محياه، كانت ملامح باخرة مزدانة بالأعلام اللبنانية تلوح في الأفق. وقف ذلك الرجل وقال: «الحمد لله، اليخوت على عدد أشهر السنة».
وكان صوت الأستاذ معن بشور المتهدج بسبب «الكورونا» يعطينا كمية من الأوكسيجين من القنينة الرابضة بجانبه.
حتى السابعة مساء، كنا نتنفس تحت الماء، ومع كل دقيقة قادمة وكل ثانية كان القلب يعود إلى طبيعته، لتنتظم دقاته على وقع أنشودة الفرح المعلنة بدء انطلاق الرحلة البحرية صباح اليوم التالي.
في الواحدة ليلاً، أعلنت طرابلس الفيحاء كلمتها على لسان المناضل الكبير فيصل درنيقة: «سفننا انطلقت باتجاهكم، ومع ارتطام كل سفينة بموج البحر كان الفرح والشكر رائدنا. وما إن أنهيت صلاة الفجر حتى رنّ هاتف هبة قبيسي قائلة: اليخت المنطلق من بور الضبية أصبح مزداناً بالأعلام اللبنانية واللافتات المكتوبة باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والعبرية تؤكد على التمسك بحقوق لبنان بثروته وحدوده مع فلسطين العزيزة.
وتفتح هاتفك لتقرأ تغريدة للرئيس ميشال عون تحيّي شباب لبنان الذاهبين إلى الناقورة تمسكاً بالحقوق الوطنية.
ومن ثم يرنّ هاتفك، فإذا بالرئيس نجيب ميقاتي مؤكداً على معاني هذه الرحلة الجامعة لكل مناطق لبنان وأطيافه الاجتماعية والثقافية والتربوية.
هل انتهى الجهاد الأصغر وبدأ الجهاد الأكبر؟ كلا، فالمقولة الآن مقلوبة، فقد انتهى الجهاد الأكبر وابتدأ الجهاد الأصغر وهو الانطلاق من بيروت صباحاً مروراً بالجية وصيدا وصور لمواجهة البوارج الصهيونية. ويا للمفارقة، وعلى عدة أمتار بين بواخرنا المدججة بالإيمان والعزيمة والتمسك بالحقوق، كان بحرنا هادئاً ولطيفاً، وكان البحر الذي ترسو فيه بوارج العدو المدججة بالسلاح مضطرباً وقلقاً. راحت سفننا تتحرش به وهو مهيض الجناح بعدما سربت وسائل إعلامه أنه أبلغ «اليونيفيل» أنه سيطلق النار على أي سفينة أو شخص يقترب منه.
وقفز الشباب والصبايا في البحر حاملين العلم اللبناني. إنه منظر لا ينسى.
وعلى الجهة المقابلة للسفن، كانت بلدة الناقورة بكل فعالياتها تحتضن الآتين بالبر من طرابلس وبيروت ومن قرى الجنوب ومدنه كافةً ليكتمل المشهد المهيب تمسكاً بالحدود والحقوق والثوابت، محصّنة بقوة لبنان الواحد، وجهوزية مقاومته لصدّ أي اعتداء محتمل.
ولعل أعمق معاني هذه الرحلة/ المواجهة هو مشاركة الشاب اللبناني الأصيل شربل أبو ضاهر، ابن بلدة عاريا الأصيلة (برفقة عائلته). ذلك الشاب الذي حاز بطولة لبنان باللياقة البدنية ورفض المبارزة مع نظيره الإسرائيلي، فجمع بين البطولة الجسدية والبطولة الأخلاقية والوطنية الرافضة للتطبيع مع كيان صنّع في مختبرات الغرب ليجعل من نفسه كياناً طبيعياً.
فانطلقت من مرفأ بيروت باخرة عليها لافتة «باخرة شربل أبو ضاهر».
هذا إضافة إلى مشاركة الشابة الأصيلة ابنة بلدة شحيم الأبية (برفقة عائلتها)، تلك الشابة التي رفضت المبارزة بلعبة الشطرنج مع نظيرتها الإسرائيلية فجمعت بين التفوّق الذهني والبطولة الوطنية المحصّنة ضد التطبيع مع كيان هجين، فانطلقت من ميناء الجية باخرة تحمل اسم «باخرة ناديا قاسم فواز».
مع ما رافق هذه الرحلة من معوّقات وصعوبات وتحدّيات، وبالرغم من مشاركة العشرات من البواخر واليخوت والزوارق فقد شعر اللبنانيون بالأمس أنهم في زورق واحد يواجهون العواصف والتحديات، وأنهم باتحادهم يمكنهم الوصول إلى بر الأمان.

* منسّق الحملة الأهلية للحفاظ على الثروة الوطنية