كانت حرب حزيران كارثة حقيقية منيت فيها الجيوش العربية بهزيمة نكراء قلّ مثيلها بين الجيوش، فكانت نهاية مرحلة سادت فيها أفكار وتصرّفات كان من الطبيعي ألا تؤدّي إلا إلى الهزيمة، وإن يكن ليس بالشكل الفضائحي الذي اتخذته. وكانت بداية لمرحلة بدأ فيها التفكير العقلاني والدراسة الموضوعية لدى من كانوا معنيّين بها.ولمّا كنت من الشهود على تلك الحرب والمتفاعلين معها، ومن الدارسين لتفاصيلها عن طريق تقارير الشهود الذين كانوا يتابعون المعارك على الجانبين، ثم الكتابات العسكرية ومذكرات الضباط، رأيت ضرورة شرحها بما يمكنني من الموضوعية. من هنا عمدت، كي تُفهم الأمور بشكل أوضح، إلى وضع الحدث في إطاره وشرحه، عن طريق إلقاء نظرة مختصرة على الوضع العربي المادي والمعنوي، وعلى واقع الجيوش العربية التي شاركت في الحرب، من جهة، وعلى الواقع العسكري الصهيوني، لجهة عقله وإمكاناته، والقوة الداعمة له، من جهة أخرى.

الواقع السياسي/ الاجتماعي العربي
كانت الأنظمة العربية منقسمة على غرار ما هي عليه اليوم، وكان معسكر منها يتعامل مع الاتحاد السوفياتي في مجال التسلح والتكنولوجيا، وكان المعسكر الآخر يتعامل مع الغرب الذي برزت أميركا قائدة له، بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا على الصعيد الشعبي، فكان المدّ القومي العربي والاشتراكي طاغياً، لا سيّما بعد انتصار عبد الناصر والقيادة المصرية في تأميم قناة السويس والصمود في وجه العدوان الثلاثي لعام 1956 وإقامة السد العالي. وكانت الجماهير العربية توّاقة إلى تحرير فلسطين وتنتظر ساعة مهاجمة العدوّ وطرده.

الجيوش العربية
عانت الجيوش من حصار تسليحي مارسه الغرب عليها، فبقي الكيان الصهيوني متفوّقاً في هذا المجال، لما كانت تمدّه به الدول الاستعمارية من أسلحة غاية في التطور، وصولاً إلى تمكين فرنسا له من صناعة القنبلة الذرية. انفتحت الدول التي كانت تعدّ تقدّمية، وعلى رأسها مصر، على المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، بعد أن كان الأمر يعدّ من المحرّمات، وحظيت بصفقات أسلحة، بداية من تشيكوسلوفاكيا، ثم من الاتحاد السوفياتي نفسه.

الجيش المصري
عام 1956، أبلى الجيش المصري والمقاومون المصريون بلاء حسناً في مواجهة العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الصهيوني على مصر إثر تأميم قناة السويس، إلا أن ضباطه ما لبثوا أن خلدوا إلى الدعة بعدها، خصوصاً بعد حلول القوات الدولية في سيناء للفصل بين القوات المصرية والقوات الصهيونية المنسحبة من سيناء، حتى كان يقال إن بعض هؤلاء الضباط بدأت تظهر لهم «الكروش».
وكان قائد الجيش المصري حينذاك المشير عبد الحكيم عامر، الذي رقّي من رتبة صاغ (رائد) إلى رتبة لواء عام 1953، وعيّن قائداً عامّاً للقوات المسلحة، ثم حاز رتبة مشير عام 1958، وكل ذلك من دون أي استحقاق من جهة الأهلية العسكرية، فكان مشيراً بإمكانيات رائد، كما يقول المغفور له محمد حسنين هيكل. وكان يعتمد الاستعراضات الإعلامية فيما كان العدو يدرس التفاصيل كافة التي تمكنه من كسب الحرب. بعد انفصال سوريا، التي كان حاكمها المشير عامر، عن مصر في خريف 1961، راح المشير عبد الحكيم عامر وبعض أعوانه (شمس بدران، عباس رضوان) يتحكم بالوضع في مصر بعد أن أبعد عبد الناصر عملياً عن التأثير الفعلي في مصيرها وأصبح مكتب المشير هو الآمر الناهي، ولم يترك لعبد الناصر إلا إلقاء الخطابات.
كان الجيش الصهيوني جيشاً حديثاً تسنده قوّات احتياطية حقيقية جاهزة للالتحاق بسرعة، وكان يسعى إلى السلاح الضروري لمعركته لا إلى السلاح ذي السمعة الإعلامية


واستأثر المشير وأعوانه بالجيش المصري، وقادوا بناء الجيش وتدريبه بطريقة بعيدة من العلمية، بل تعتمد الشعبوية (الديماغوجيا) و«البهورة»، وتركن إلى الإعلام والدعاية، دونما انتباه إلى طبيعة المعركة التي يفترض أن يعد الجيش لخوضها، فكان يشتري الأسلحة ذات الشهرة في المعسكر الشرقي. وكان يجري مناورات وهمية، بحيث تسحق تشكيلاته العدو باستمرار!
وكان الضابط المصري مطمئناً إلى تفوّقه الوهمي، على أساس أن الجيش المصري هو أهمّ جيش في الشرق الأوسط، إذ هو الذي استطاع أن يجتاز مسافة طويلة نسبياً إلى اليمن ويدعم ثورتها، رغم أنه غرق إلى حدّ ما في وحولها. ولم تكن القيادة المصرية أساساً مستعدة للحرب مع العدو الصهيوني، بدليل أن عبد الناصر نفسه كان صرّح منذ حوالي سنتين بقوله: «مش حنحارب». ولما توتّر الوضع، كانت قطعات هامة من الجيش المصري ما زالت في اليمن، ما اضطرّ القيادة المصرية أن توفد نائب الرئيس، أنور السادات، ليفاوض السعودية كي تخفف عنه الضغط في اليمن، ما سمح بسحبه من هناك. عندما استنفر الجيش للحرب، انكشف التقصير، إذ أتت أعداد من الاحتياطيين بالجلابيب من الصعيد، ولم يتمكّن قسم كبير منهم من الحصول حتى على البنادق، كما يقول الفريق محمد فوزي في مذكراته.

الجيش السوري
كان الجيش السوري تعرّض لحملة تطهير بدءاً من عام 1963، طاولت أعداداً كبيرة جداً من الضباط غير البعثيين، وقد حلّ محلّهم معلمو مدارس من دون أن يخضعوا للإعداد في الكليات الحربية أو للدورات التدريبية الضرورية، فانكشف العجز إبان الحرب بشكل فاضح.

الجيش الأردني
لم يكن الجيش الأردني جيشاً معدّاً للحرب بشكل فعليّ، بل لحماية النظام، وهذا ما تكشّف بسهولة عندما جرت مهاجمته من قبل العدو الصهيوني. وكانت ترابط في الأردن وحدات من جيش التحرير الفلسطيني، إلا أنها كانت ضعيفة التسلح.

الجيش الصهيوني
كان الجيش الصهيوني جيشاً حديثاً تسنده قوّات احتياطية حقيقية جاهزة للالتحاق بسرعة، وكان يسعى إلى السلاح الضروري لمعركته ضدّ الجيوش العربية، لا إلى السلاح ذي السمعة الإعلامية. درس جيش العدو طرق شنّ الحرب على الجيوش العربية:
اختار الجيش الصهيوني طائرة الميراج-4 لأنها كانت الملائمة للمعركة ضدّ الجيش المصري، إذ تستطيع التخفي عن الرادار بطيرانها المنخفض، وهي تستطيع الإفلات من المضادات الأرضية إذا هاجمت صباحاً بحيث تأتي من جهة شروق الشمس فلا يستطيع الرامي أن يصوب عليها بسهولة، إضافة إلى سوء الرؤية في وادي النيل عند الصباح.
من جهة أخرى، كان السوفيات قد أقاموا مدرجات المطارات في مصر بحيث لا تخرقها القذائف المعروفة. إلا أن العدوّ استطاع أن يكتشف بواسطة التجسّس الصناعي تركيب الخرسانة التي تشكلت منها المدرجات، فأقام مثلها في النقب، وراح يجرّب أنواع القذائف ويطوّرها حتى استطاعت أن «تفلح» المدرّجات، وهذا ما حصل فعلاً في الحرب.
وكان العدوّ، في النهاية، يعوّل على المساعدة اللوجستية الأميركية، وحتى على التدخل عندما يحتاج.

مقدمات الحرب
انطلقت المقاومة الفلسطينية (فتح) في 1/1/1965، وكان ذلك موضع انتقاد من قبل بعض القادة الفلسطينيين، كما صرّح القائد أحمد جبريل في إحدى المقابلات، نظراً لكون الجيش السوري غير جاهز لحمايتها ومواجهة إسرائيل، بسبب ما كان تعرّض له من إفراغ من الضباط، كما رأينا. استخدمت المقاومة الفلسطينية الساحات الأردنية والسورية واللبنانية، وأخذت تشكل إزعاجاً شديداً للعدو على مدى سنتين. قرّر العدوّ المهاجمة، ولمّا كانت الجبهة الشرقية الأقوى هي الجبهة السورية، فحشد تجاهها أحد عشر لواءً. أمّا الجبهتان اللبنانية والأردنية، فترك أمرهما لما بعد.
اتصل السوريون بالقيادة المصرية وأبلغوها بالأمر، لكنّ المصريين لم يطمئنوا إلى أخبار السوريين الذين كانوا على خلاف معهم، بسبب تصفيتهم الضباط الناصريين في الجيش السوري. فاتصل المصريون بالجانب اللبناني الذي أكد لهم حقيقة الحشد الصهيوني. لم يكن الجيش المصري موجوداً في سيناء منذ عام 1956، كما أشرنا، بل كانت فيها قوات تابعة للأمم المتحدة، فطلبت القيادة المصريّة من الأمم المتحدة سحبها، فاستجيب لطلبها بسرعة تلفت النظر، ما يطرح علامات الاستفهام حول دور لأميركا كان يريد توريط الجيش المصري في حرب أُعِدّ لها مسبقاً. وأُرسِل الجيش المصري إلى سيناء، في محاولة للضغط على العدوّ كي يقلع عن فكرة مهاجمة سوريا.

التنسيق المصري السوري الأردني
جرى التنسيق بين القيادتين المصرية والسورية ووضعت الخطط، ثم دخل الأردن على الخطّ رغم الخلاف القائم أساساً بين الملك حسين وعبد الناصر، وهكذا أصبحت الجبهة الشرقية شاملة سوريا والأردن، بينما تقتصر الجبهة الغربية على مصر. بالمقابل كان هناك تنسيق بين العدو الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية.

اندلاع الحرب
على الجانب المصري من خليج العقبة وضعت وحدات مصريّة، وكانت السفن الصهيونية مضطرّة في أماكن معيّنة إلى أن تمرّ في المياه الإقليمية المصريّة، فاتصل قائد الموقع في رأس محمد على الخليج بالمشير عامر يسأله ما العمل، فأمره بمنع السفن الحربية وبتفتيش السفن التجارية، فأخذ ينفذ الأمر. وكان من شأن ذلك أن يهدّد تواصل العدو التجاري مع الشرق الأقصى وشرق أفريقيا، لا سيما أنه كان ممنوعاً من المرور بقناة السويس. وكان العدوّ أمّن هذا التواصل بعد العدوان الثلاثي 1956، عندما انسحب من سيناء محتفظاً بقرية أم الرشراش المصرية على خليج العقبة، والتي سمّاها إيلات، ما فتح الخليج أمامه.
شعر العدوّ بقرب الاختناق الآتي من جهة الخليج، الذي كان يعدّه إحدى رئتيه (الأخرى البحر المتوسط)، ما منحه المبرّر الضروري لشنّ الحرب، التي كان يعدّ لها والتي كانت تستهوي أميركا التي تريد القضاء على عبد الناصر بسبب معاداته لسياستها، وإزعاجه لها على مدى الشرق الأوسط، وحتى على مستوى العالم بعد تشكيله مع قادة العالم الثالث كتلة دول عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ عام 1955.
صباح 5 حزيران 1967، شنّ الطيران الصهيوني غارة كاسحة على الطيران المصري ومطاراته، فدمّر سلاح الطيران وخرّب المدارج، كي لا يستطيع ما تبقى من طائرات، أو ما يمكن أن يقدم لمصر من أي جهة كانت، أن يستخدم تلك المطارات. كما هاجم في البرّ، بعد خداع الجيش المصري بالتظاهر بالحشد في مكان، بينما هاجم من مكان آخر. وهكذا فوجئ الجيش المصري بالهجوم، حيث كان والمشير عامر يحلّق في طوافة عسكرية في جو سيناء، بينما كان القائد الميداني الفريق عبد المحسن كامل مرتجي يتنزّه مع زوجته وابنته في الاسكندرية.
أعطي الأمر للجيش المصري بالانسحاب إلى غرب قناة السويس لإنقاذه بعد أن فقد الغطاء الجوّي، على غرار ما كان حصل عام 1956، عندما هاجمت القوّات البريطانية والفرنسية منطقة القناة وتقدّم الجيش الصهيوني في سيناء، فكان لا بد للقيادة المصرية حينها من سحب الجيش من شبه الجزيرة. وهكذا حسمت المعركة ضدّ مصر، واحتلّت سيناء التي انسحب منها الجيش تحت القصف الجوي وحتى من دون نظام في أغلب الأحيان.
تنبّه بعض الضباط المصريين للخطأ الجسيم الذي ارتكب بسحب الجيش من سيناء وتعريضه مكشوفاً للغارات الصهيونية، وفكّروا في إعادته، فأوفدوا اللواء أنور القاضي إلى عبد الناصر ليستشيره بالأمر، بعد أن كان عبد الناصر مستبعداً عن شؤون الجيش ويسمع الأخبار من الراديو، ولم يستشر في موضوع سحب الجيش من سيناء. فسأل عبد الناصر اللواء القاضي: «شمعنى دلوقت»، أي لماذا تستشيروني الآن؟ وكانت الفكرة غير واقعية.
توجّه الجيش الصهيوني بثقله ضدّ سوريا، وكان الجيش السوري متحصّناً في مرتفعات الجولان مع 300 دبّابة تقصف الجيش الصهيوني في سهل الحولة. وجد الجيش الصهيوني أن التصدّي الجبهوي للجيش السوري أمر صعب، فأخذ يعمل على الاختراق من أجل الالتفاف، واستطاع ذلك، خصوصاً وأن الضباط الصغار في الجيش السوري من قادة الفصائل والسرايا كانوا من معلمي المدارس، كما رأينا، وهكذا التفّ جيش العدو على الجيش السوري من الخلف وحسم المعركة واحتلّ الجولان.
أمّا الأردن، فجرت مهاجمته من دون تفريغ قوات إضافية إلى ما كان موجوداً قبالته من قوات بسيطة بانتظار حسم معركة سوريا ومصر، إلا أنّ قائد المنطقة الوسطى الصهيوني أصرّ على مهاجمة الضفة الغربية بالقوات المتوافرة لديه، وبعد إلحاحه سُمح له، فخاضت القوات الصهيونية معركة لمدّة نصف ساعة على سور القدس مع مدرسة الشرطة ودخلت القدس الشرقية، وتوجّهت إلى بقية الضفّة حيث جوبهت بقوات من جيش التحرير الفلسطيني فأبادتها تقريباً، واحتلت الضفّة الغربية. وهكذا انتصر العدوّ واحتل سيناء والضفة الغربية والجولان.
بعد الهزيمة تخلّص الجيش المصري من المشير الذي انتحر بالسمّ، ومن معاونيه، وخضع لقيادات ذات كفاءة، واستعاد عبد الناصر زمام القيادة، وراح يعدّ العدة لاسترجاع الأرض ويتابع التنفيذ ميدانياً ويحاسب على التقصير، ووضعت الخطط للحرب الوشيكة، لكنّه توفي في أيلول 1970.

الخلاصات
كانت هزيمة حزيران النتيجة الحتمية لأمرين:
- تخطيط العدوّ الدقيق والواقعيّ لمعركته بظروفها ومعطياتها من الأبسط إلى الأعقد، مع الجيش المصري وتهيئة ما تستلزمه أولاً، ومع الجيش السوري تالياً. تضاف إليها الضمانة الأميركية الجاهزة لمدّه بكل ما يحتاجه ليحرز النصر.
-الاستعداد العربي القاصر القائم من دون دراسة واقعية للمعطيات الحقيقية وللأرض والظروف، والمتغافل عن التهيّؤ للتدخلات الخارجية المساندة للعدوّ إذا انقلبت المعركة ضدّه.
وكانت النتيجة: انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب.
باختصار، كانت معركة بين الرائد/المشير عامر غير المؤهّل ومكتبه والجيش السوري الخارج من التطهير، وبين العقول الصهيونية العلميّة عالية الكفاءة والخبيرة بالظروف، والمدعومة من الإدارة الأميركيّة.

* أستاذ في كلية الحقوق، الجامعة اللبنانية