اعتُمِد النظام الجمهوري في تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 برعاية الانتداب الفرنسي بعد تعهّد زعامات الطوائف الأكبر التشارك في إدارة الدولة في ظل الانتداب. وكان تقدير حجم الطائفة المارونية هو الذي أعطاها دور رئاسة الدولة. وهي التي كانت أكثر تهيّؤاً لمثل هذا الدور الذي كان واستمر عقوداً رهين التعارضات بين مراجع زعامات الطوائف.جدير بالتذكير أن التركيبة السكانية للأرياف شكّلت مطلع خمسينيات القرن الماضي نحو 40% من إجمالي السكان، وأخذت تتحوّل، مع غلبة التوسّع في قطاعات التجارة والخدمات، باتجاه العاصمة خاصة، ومدن المحافظات، ليصل حجم السكان في مدينة بيروت إلى حوالي ثلث إجمالي سكان البلاد. وتراجعت فيها لاحقاً قطاعات التصنيع الوسيط لتتوسّع التجارة والخدمات ومراكز التعليم العالي والخاص ولتتوسّع في ضواحيها بيئات متعددة الثقافات. ويبرز في الأرياف والمدن المتوسطة اختلاف البيئات والثقافات الدينية والسياسية المحلية واضطرار النازحين إلى المدن للإبقاء على موالاتهم لمراجعهم في دوائر نفوسهم الريفية حماية لولاءاتهم المتوارثة. وجدير بالذكر أن موالي المراجع في عائلات الأرياف يحرصون على الوفاء بالتصويت لمراجعهم الذين يعطون لأنفسهم حق تغيير ولاءاتهم للمرشحين.
غير أن هذا الحق للمرجع المحلي يبقى في قرى الأرياف محكوماً لجهة التصويت، سواء بالوفاء العائلي أو للمرشح الذي يوصي به مرجع له المونة على الناس هناك. وحرص زعماء الأرياف على عدم نقل عملية التصويت من تحت رقابة مراجع العائلات في القرى، رغم الأكلاف العالية لإبقائها تحت رقابتهم في الأرياف، علماً بأن «البيك» الذي يضبط ناخبي محيطه أصبح أكثر حرصاً في ضمان حصول مرشحيه على أصوات تابعيه، من جهة، وأكثر حذراً في تعامله المعلن مع مرشحين يغرون بإغراءاتهم أو بتحركهم التغييري فيأخذون من أصوات الناخبين تقليدياً لمن يرشحهم.
كما تبرز المقدرات المتفاوتة بين المرشحين في اللائحة نفسها في الحصول على العدد الأكبر من التأييد أو في تفاوت الحصول على «مباركات» خاصة من رجال دين، أو في الحصول على «هدية» تقدّم للمرشح في موقع انتخابه من غير طائفته يقدّمها له مرشح كبير من غير دائرة يملك القدرة على «رفد» مرشح صديق له في غير دائرته مهدّد بالمنافسة، ليحوّل إليه «بلوك أصوات هدية» تضمن نجاحه بأمر من المرشح الكبير الصديق.
حرص زعماء الأرياف على عدم نقل عملية التصويت من تحت رقابة مراجع العائلات في القرى


وتجدر الإشارة هنا إلى إغاثات الدعم الخارجي من دول عربية لمرشحين من المذهب السني يتطرّفون في مدن لبنانية ضد نفوذ حزب شيعي مدعوم هو أيضاً من دولة غير عربية متوسع التأثير في دعم مرشحين خارج طائفته ودائرته. كما يلاحظ في دوائر العاصمة مثلاً توجّه الدعم لمرشحي جمعيات سنيّة تحرص على معارضة الحزب المتوسع الحضور والتأثير أكثر من معارضتها لمرشحي تيار المستقبل الأكثر اختلافاً وتعاملاً مع هذا الحزب.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تكرار هذا النوع التوجيهي غير المُعلن من «هدايا» التأييد بين الحلفاء تموّل مُجريات «التفشيل» لدى أخصامهم.
لا مبالغة إذا قلنا إن عمليات التقليديين، من خلال تأمين «هدايا الدعم» لأقرانهم، أو عمليات تشجيعهم لبروز كتل جديدة للتغيير ضد أخصام تقليديين لهم، هي عمليات تناصر بَين التقليديين، ولكنها لا تضمن استمرارهم بالتحكم «بحِيَل الناخبين» في المواقف من أخصامهم ولا في التأثير على ميول خيارات الناخبين في ما يُسمى بالاختيار السرّي في حضور «مراقبي الصندوق» من قبل المرشحين. هؤلاء الذين يشهدون أمام هيئات محلية، ودولية أحياناً، لتُعلن غالباً عمّا يسمّونه صحة السرّية واحترام الاختيار الذي يضيق كتمانه لدى أغلب الناخبين في القرى والأرياف خاصة.
أوَليس هو كتماناً ضرورياً لا بدّ منه لإبراء ذمم المُتدخّلين وسرّية وصحة مسؤولي إدارات الانتخابات لتغطية أنواع الدعم المتوفرة من داخل لبنان وخارجه؟ وما هي حدود صحة وفاء الناخبين ممّن وضعوا أسماءهم في صناديق الانتخاب؟ وما هي حدود الديموقراطية في مبادلات الدعم بين الكتل السياسية المتباعدة جغرافياً، ولا سيما السرّية منها التي غالباً ما لا تحافظ على سرّيتها جوقات الشباب والأولاد الذين لا يألفون التقيّد بأسرار إدارة قلم الانتخابات.

* باحث في العلوم الاجتماعية