من أجل دراسة معمقة للظاهرة الطائفية، لا بد من معرفة الواقع بطريقة جذرية. الموضوعية هي شرط للتمييز الواضح بين ما هو طبيعيّ حياتيّ حضاريّ تاريخيّ وما هو سياسيّ كيانيّ عابر ومؤقت. أمّا محاولة الخلط بين ما هو سياسيّ (مصطنع) وما هو طبيعيّ (متجذر)، سيؤدي إلى نظرةٍ مثاليةٍ لا واقعية تقفز من فوق الحقائق الاجتماعية إلى المجهول. لذلك، سنتوقف عند بعض الحالات، منها:
أوّلاً- حضارة واحدة قبل الطوائف
إن المجتمع، الذي نحن جزءٌ من حضارته، ليس مجموع طوائف، لأن الطوائف تكوّنت خلال مجرى دورة حياته، ولم تكن هي أساس هذه الحياة. تعود حياتنا الاجتماعية إلى آلاف السنين المتواصلة على هذه الأرض، فإن الطوائف وتبدّلَها وتبدّل موازينها تصبح شأناً عرضياً ظرفياً إزاء استمرارية هذا المجتمع الحضاري الذي نفاخر بأنه أعطى الأبجدية للعالم، وأنه أوّل من مخر عباب البحر، وحمل بذور الحضارة إلى أوروبا، وأعطى العالم الشرائع من حمورابي إلى مدرسة بيروت الحقوقية.
كل ذلك حصل قبل الطوائف ومشكلاتها وقبل المتصرفية والإمارة من قبلها. وقبل الانتداب وإعلان دولة لبنان الكبير، وقبل الاستقلال وميثاق 1943، وقبل الطائف والطوائف بآلاف السنين. ونحن بحاجة إلى هذه المشاهدة التاريخية وتواصلها حتى تستقيم الرؤية وتخلص من كوابيس الخوف والغبن والإحباط والتخلف، وكلها أعراض مرحلة الانحطاط عن الحضارة المشعّة لهذا المجتمع، إنها المرحلة العثمانية ثم الانتدابية وما أورثتانا من فساد في الحالة والذهنية في غياب أو تغييب «الذاكرة الجماعية الواحدة»، أو كما يقول الدكتور جورج قرم: «إن مفهوم العيش المشترك لا يزال أسير الثقافة الطائفية المنبثقة من فتنة الماضي والمتواصلة في فتنة هذا القرن».
الهوية الحضارية الواحدة المستمرة لمجتمعنا تكشف، عبر الوعي التاريخي للذات، وحدةَ حياة هذا المجتمع التي هي أمتن في دورة حياتها من «العيش المشترك» بين الطوائف. على قدر الاتّساع التاريخيّ يكون الاتساع الجغرافيّ الطبيعيّ لمجتمعنا الحضاريّ ودورة حياته، فندرك أن فينيقيا التي شعّت من جبيل وصيدون وصور منائرَ حضارية، هي ذاتها في أمريت وأرواد ورأس شمرا وأوغاريت مصدر الأبجدية وأنها امتدّت حتى سيناء، وكانت فلسطين أرض كنعان.
وأن آرام، الذي وحّد الهلال الخصيب، حضارياً وبشرياً، وجعل لغته لغةَ الديبلوماسية العالمية في العالم المتمدّن القديم، امتدّت حواضره في المرحلة السريانية إلى نصيبين والرها، وأن السريانية هي لغتنا القديمة التي تعطر ليتورجيا الكنيسة المارونية الأنطاكية.
كما أن الإسلام، في عميق فهمه، تلاقح مع هذه المسيحية المشرقية وصانها ولم يستأصلها. في هذا المجتمع الحضاريّ، الذي كان الآراميون السريان هم أعمدة الكتابة فيه، بنى الإسلام دولته مؤسِّساً على هذا التراث وانطلق إلى العالم. المشاهدة التاريخية المتواصلة هي التي تصالح حقب تاريخنا موضوعياً وعلمياً بدل أن نصطاد منها حقبةً لنواجه بها أخرى، فتحوّل حاضرنا إلى حالات تناقض وتَفكّك. انسجامُ حضارتنا وتواصلُ تاريخنا ووحدة حياة مجتمعنا أكدت أن واقعنا ليس حجارة مسلوخة عن البناء الجميل، نتراشق بالانقسامات والفتن، مع العلم أن مجرى الحضارة شكِّل على قاعدة وحدة الحياة والأرض والتاريخ مراحلَ متكاملةً لا متناقضةً.

ثانياً- أسباب نشوء الكيان اللبناني
في هذه المشاهدة لما هو شأنٌ تاريخيٌّ وحضاريٌّ وحياتيٌّ واحد، نستطيع أن نتفهّم العوامل والظروف التي دعت إلى إنشاء الكيان اللبنانيّ، فقد كانت العلة الرئيسة الأولى لقيامه، كما يُجمع الباحثون والحقائق، أنه شكّل ملاذاً أو ملجأً للأقليات الدينية المضطهدة في مرحلة الدولة الدينية. الكيان اللبناني كيان اقتضته ضرورة قيام الدولة على أساس الدين. إنه حلٌّ سياسيٌّ لمشكلةٍ اجتماعية. ولا يختلف فيليب حتّي ولا كمال صليبي، ولا غيرهم من المؤرخين الموضوعيين، حول حقيقة هذه النشأة السياسية للكيان اللبنانيّ.
إن الموارنة، وهم كما يدّعي بعض المؤرخين الطائفة الأكثر تميّزاً في تكوين هذا الكيان، لم يكونوا وحدهم، بل إن الكيان اللبنانيّ نشأ من مجموعة أقلياتٍ نشدت الحرية والمساواة، فتكوّن كيانٌ - ملجأٌ للأقليات الملهوفة.
والقانون الرئيس في هذا الشأن هو أنّ كل أقليةٍ مرشحةٌ لأن تصبح أكثريةً، وكلّ أكثريةٍ مرشحةٌ أن تصبح أقليةً في سياق النظام الطائفيّ، فلا ثبات فيه بل تحوّلٌ مستمر. فالتعددية الطائفية هي الحقيقة الأولى التي يجب التسليم بها في نشأة الكيان، وفي فهم أسباب هذه النشأة من دون إلباسها أقنعةً أو محاولة سحب المشكلة الطائفية على التاريخ والحضارة لتلوينها بألوان معينة. كما أن الطوائف نفسها متعددة إلى جماعات وانقسامات وفق الظروف الاقتصادية الاجتماعية السياسية التي عايشتها.
الخطر الأكبر هو سحب التعددية الطائفية كحقيقة اجتماعية-سياسية لاصطناع تعدّدية حضاريةٍ أو إثنية لشعبٍ واحدٍ هو جزءٌ من دورة حياةٍ حضاريةٍ واحدة. ذلك أنّ جميع هذه الطوائف لها امتدادها في العمق الحضاريّ والجغرافيّ، والشعب متزاوج ومتفاعل على امتداد المشرق أو سوريا الطبيعية أو سوراقيا - أسماء متعددة لمكان واحد - كما أنّ الدورة الاقتصادية ومصالحها واحدة عابرة للجماعات موحدة للاتجاهات. كما أن التناقضات والخلافات والصراعات الموجودة داخل الطوائف أعنف أحياناً من التباينات مع الطوائف الأخرى.
الخروج من كهف الطائفية لا يمكن أن يتحقق في فراغٍ أو في مشادة بين الطوائف حول إلغاء الطائفية لمصلحة طائفية أو التذرّع بالعلمنة لمصلحة طائفية معاكسة


وليست الهجرة الواسعة إلى القارّات دليلَ عافيةٍ بالمطلق، بل هي دليل نزيفٍ بشريّ جعل ملايين اللبنانيين موزّعين على القارّات بسبب تقطيع دورة الحياة والاقتصاد الواحد في محيطهم. التحدّي الكبير لهذا الكيان هو أن يعيَ سبب نشوئه أو علة نشوئه بموضوعيةٍ وجرأة ويعمل على تجاوزها بدل أن يعمل على ترسيخها.
ومعضلة المعضلات أنه منذ عام 1926 والكيان يعمل على ترسيخ العلّة، فيقع في التناقض المتبدّل في معادلاته والواحد في معاناته. حين يقال العلّة في الطائف فهذا لا يعني أنّ العلّة لم تكن في ميثاق 1943، ولا أنّ العلّة لم تكن في 1926، ولا أنّ العلّة لم تكن من قبل في المتصرّفية، فالعلّة في كلّ هذه الصيغ، وهي الطائفية في المحيط وفي أسباب نشوء الكيان-الملجأ الذي لم يتطوّر إلى ما دعا إليه المطران كيرلس بسترس وهو «نقلة نوعية»، «من التفكير الطائفيّ والقبليّ إلى التفكير الوطنيّ»، «والتخلّي النهائيّ عن فكرة الوطن الدينيّ».
كما دعا أنطون سعادة إلى أن تحدث هذه النقلةُ النوعية من الكيان-الملجأ الطائفي إلى الكيان «نطاق ضمانٍ للفكر الحر» لحمل رسالة النهضة الجامعة إلى المحيط بدل الانغلاق في الملجأ الطائفيّ الملهوف، الموزّع الولاء، وتالياً، الموزَّع السلطات، المتضعضع الأداء.

ثالثاً- وعي الهوية الحضارية الواحدة سابق للحوار السياسي
إن لبنان النهضويّ لا الطائفيّ يحمل رسالة التقدّم إلى محيطه. إن نهضتنا الحضارية المدنية تدرك أن أهمّ ميزةٍ هي وحدة تراثنا الروحيّ وبخاصة الديني المشترك بين المسيحيين والمسلمين رغم تمايز الظروف المجتمعية لنُزول الرسالات وهي أكثر وأهمّ بكثير من الأمور التي نختلف فيها. رغم أهمية هذا التراث، لا نرهن وحدة حياة اللبنانيين بالحوار المسيحيّ-الإسلاميّ، لأن وحدة حياتهم هي وحدة مصالح الحياة المستمرة والمصير الواحد الذي يتعزّز بِوَعي وحدة التراث الروحيّ الممتد من ما قبل المسيحية إلى ما بعد الإسلام ويشمل الأديان والمدارس الدنيوية الأخلاقية والفلسفية والمناقبية.
إننا إذ نتمسك بمبادئ فصل الدين عن الدولة فإننا نقصد تحصين المجتمع ضد التمزّق الطائفيّ والتبعية للنفوذ الأجنبيّ بِاسم روابط الدين، ونؤكد في الوقت ذاته رفضنا أية علمانية تسلخنا عن تراثنا الروحيّ وخصوصيّته كجزء عامٍّ وأساسيٍّ من تراثنا الوطني. كما نؤكد أهمية القيم الروحية في بناء تربيتنا الوطنية على ما يكون المشترك منها للتوحيد بدل اعتماد التعدّد المتناقض للتمزيق.
والخروج من كهف الطائفية لا يمكن أن يتحقق في فراغٍ أو في مشادة بين الطوائف حول إلغاء الطائفية لمصلحة طائفية أو التذرّع بالعلمنة لمصلحة طائفية معاكسة. والخروج من كهف الطائفية، أو تالياً من العصبيات الجزئية، يكون بالعودة إلى العصبية الشاملة، عصبية الهوية الحضارية الجامعة. إن هذا الوعي بهذه الهوية هو أساس الخروج من الكهف الطائفيّ والطوائفيّ ولا طريق سواه.
نحترم كثيراً صياغة المشروع العلمانيّ الذي يدعو إلى تحرير القوانين من الطائفية، قانون الانتخاب، قانون الوظيفة، الأحوال الشخصية تدريجاً، لنصل إلى التربية الموحّدة، وهي الأساس... ولكن ما هي أصول هذه التنشئة الوطنية إذا لم نتفق على الهوية الحضارية الواحدة؟
إن حقوق الإنسان ووثائقه الدولية دليل رقيّ للدولة التي تعتمدها ونحن مع هذا كلّه، ولكن نعتقد أنه يفتقد إلى المضمون الذاتيّ الأعمق، لأنّ كلّ الأمم لو اعتمدت مبادئ حقوق الإنسان فذلك لا يحلّ محلَ وعيها لذاتها وحضارتها الذي لا تتقدم الأمم من دونه ولا تنهض.
«فإذا كان قولاً سليماً أنّ الطائفية أيديولوجيةٌ شاملة ولا تُلغى إلا بأيديولوجية شاملة بديلة منها كالعلمانية» (نبيل خليفة)، فإن العلمية في المشاهدة التاريخية لمجتمعنا الواحد في تواصل حقبةٍ وانصهار جماعاته وإتنياته في بوتقة الحياة الواحدة لتكوين شخصيّتنا الحضارية الاجتماعية الواحدة هي أساسُ العلمنة التي تقوم على أنّ ما يجمعنا ليس حوار الطوائف وعقدها التوافقي المعرَّض للانهيار إذا ما اختصمت، بل هو حياتنا وتاريخنا ومصيرنا الواحد في وعي هويّتنا الواحدة الموحّدة المستمدّة من ذلك كلّه.
لكل ذلك المدخل لحل مشاكلنا اليوم ورسم معالم الزمن الآتي يبدأ بوعي حضارتنا الواحدة. المنطلق وحدة الهوية الحضارية الروحية المدنية التي توحد الانتماء وتضمن سقف الخلافات التي بدأت تتخذ أشكالاً من التقسيم والفتنة بسبب تناقضات ثقافية عابرة يتمسك بها البعض مغالياً في انحيازه إلى الغرب ومتمادياً في تنكره للانتماء إلى حضارتنا المشرقية العريقة والجامعة.
وعي وحدة حضارتنا المادية الروحية هي شرط أساسي لإنجاح الحوار السياسي حول صيغة الحكم وإلا نذهب حكماً إلى الفوضى والفتنة والتقسيم.

* كاتب وناشر لبناني