كان اغتيال الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، برصاصة في الرأس، جريمة بشعة متكاملة الأركان استهدفت حرية الصحافة والقضية الفلسطينية معاً. بقوة الوقائع المصوّرة، كان القتل متعمّداً وإطلاق النيران على الصحافيّين مقصوداً. انتُهكت القوانين الدولية وديست بالأقدام الغليظة لمنع إجلاء الحقيقة دون أن ترتقي الإدانات المتواترة إلى مستوى بشاعة الجريمة، وجرت أحاديث مراوغة عن تحقيق مشترك في الوقائع بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية!لخّصت جريمة الاغتيال كل معاني الاستباحة التي تمارسها قوات الاحتلال في فلسطين المحتلة على مرأى من العالم دون خشية عقاب. ما جرى استخفاف لا مثيل له بأية مواثيق وأعراف دولية تصون حياة الصحافيّين أثناء أداء واجبهم المهني في تغطية الأحداث. مثل تلك الجرائم لا ترتكب أمام الكاميرات، لكنه توحّش القوة. من ناحية سياسية، لا يستطيع أحد الآن، بأية ذريعة، التدليس على الحقيقة؛ حقيقة الاحتلال وسياسات البطش والتنكيل والتهجير القسري والفصل العنصري التي ينتهجها في الأراضي المحتلة كافة. ومن ناحية رمزية، فإنّ الحدث بأجوائه وسياقه يكاد يلخّص بعض جوانب المأساة الفلسطينية الممتدة منذ نكبة 1948 حتى الآن ويؤكّد في الوقت نفسه على إرادة الحياة والمقاومة حتى النفس الأخير.
لم تكن الهزيمة التي لحقت بالعرب في حرب فلسطين عادلة ولا مستحقة بقدر ما كانت تعبيراً عن عشوائية في إدارتها. كان دخول الجيوش العربية حرب فلسطين، في مثل هذه الأيام قبل 74 عاماً، بالطريقة التي جرت بها مقدمة هزيمة محقّقة. لم يكن رئيس الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي موافقاً على التدخل العسكري مثل أغلب النخب الحاكمة. كان رأي الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبها، أن تُسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوّعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهبة ومستعدة.
في المشهد العسكري، نُسبت إلى رجلين، أكثر من غيرهما، مسؤولية النكبة. الأول، اللواء المصري أحمد المواوي، قائد حملة فلسطين. بعد الحرب حاول أن يبرّئ ساحته، كاشفاً عن مخاطبات كتبها لقياداته يحتج فيها على إرسال القوات دون تدريب كافٍ، أو أسلحة لازمة.
والثاني، الجنرال الإنكليزي جون باجوب غالوب، الذي أُسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وكانت إدارته للحرب من عَمان، التزاماً كاملاً بالاستراتيجية البريطانية، لم يتجاوز خطوط التقسيم المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة، حين كان متاحاً التقدّم وكسب الأرض، فيما كانت الدولة العبرية الوليدة تتوغل في ما تستطيع أن تصل إليه دون اعتبار لأية قرارات دولية. كان وجوده على رأس القوات العربية نذير هزيمة مؤكدة.
وقد طُرد من منصبه باحتجاجات شعبية في الأردن عند ذروة صعود التيار القومي عام 1956.
لمئات المرات تأكدت تلك الحقيقة في مسار الصراع الطويل، الوجودي في حقيقته، منذ النكبة حتى اغتيال أبو عاقلة


في مذكرات خطية كتبها الضابط الشاب جمال عبدالناصر، تحت وهج النيران في فلسطين، نشرتها كاملة عام 2009 بعد أن أودع لديّ الأستاذ محمد حسنين هيكل نسخة كاملة منها، كشف فيها مدى حنقه على مستوى الأداء العسكري. «الحقيقة أنه لا توجد قيادة للجيش المصري في فلسطين». «لقد كوّن اليهود جيشاً به دبابات وقوة دافعة في أربعة أشهر. واستطاعوا أن يقطعوا أوصال الجيش المصري. ويعزلوه في جيوب متفرقة، ويقطعوا خطوط مواصلاته في عملية استغرقت ثلاثة أيام». «أما قياداتنا فعاجزة كلّ العجز». «لا يوجد عسكري واحد احتياطي ليستعيدوا به الموقف». «كان المواوي عاجزاً... فإنه قائد من دون جنود، ومن دون جيش.. اللواء الثاني منعزل في أسدود.. واللواء الرابع منعزل في النقب.. واللواء الجديد في مصر منذ خمسة أشهر لم يكمل تدريبه».
رغم ذلك كله لم تكن الكتيبة السادسة المحاصرة في الفالوجا ــ وقد كان رئيس أركانها ــ مستعدة أن تستسلم. «سنقاوم إلى آخر رجل... لقد فقدنا الإيمان في قيادة الجيش وقيادة البلاد». في هذه اللحظة وُلدت الثورة في قلب رجل واستقر عزمه على إعادة تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار». تكاد تكون تلك العبارات الصريحة لضابط في ميدان قتال - بدواعي غضبها - البداية الحقيقية لقصته كلها، كأنها نقطة تنوير مبكرة في نص روائي طويل. كانت حرب فلسطين ببطولاتها وتضحياتها وأوجاعها وما كشفته من أوضاع مختلة في قيادة الجيش وقيادة البلاد المحرك الأول لما جرى في مصر بعد أقل من أربع سنوات بإطاحة النظام كله.
في مثل هذه الأجواء المحبطة كان آلاف العسكريين اليهود من مختلف الرتب يتدفّقون على فلسطين وبلغ ما استطاعت حشده الوكالة اليهودية 81 ألف مقاتل معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أعداد الجيوش العربية مجتمعة 37 ألف ضابط وجندي.
وكانت أعداد الطائرات التي في حوزة القوات اليهودية 78 طائرة عند بداية الحرب فيما لم تتجاوز الـ30 طائرة على الجانب العربي، حسب ما أورده الأستاذ هيكل في «العروش والجيوش»، وهو كتاب مرجعي من جزأين أهميته في قدر توثيقه، حيث يتضمن سجلاً كاملاً للبرقيات العسكرية المصرية أثناء الحرب، حصل على نسخة مصورة منه عام 1955 من العميد حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي أثناء حرب أكتوبر فيما بعد. «إنّ يومية الحرب هي في العادة أكمل مستند تاريخي لصورة ميدان القتال والخلفيات السياسية الواصلة إليه، ثم الاعتبارات الشخصية والإنسانية المتسربة بالضرورة إلى المواقف والتصرفات» - كما كتب شارحاً وموضحاً القيمة التاريخية لتلك الوثائق. «كانت الحرب في جوهرها صداماً بين مشروعين، مشروع صهيوني استكمل عناصر قوته يعمل على إعادة رسم خرائط المنطقة ومشروع قومي عربي تائه في كواليس الحكم وفوق مسارح الأحداث يبحث عمن يجسده لمواجهة طوارئ الأحداث المشتعلة بالنيران والمخاوف».
لمئات المرات تأكدت تلك الحقيقة في مسار الصراع الطويل، الوجودي في حقيقته، منذ النكبة حتى اغتيال أبو عاقلة. في تجربة حرب 1948 تبدت بطولات وتضحيات لرجال دفعوا حياتهم ثمناً لأن ترفع مصر رأسها في عالمها العربي وتصون بالوقت نفسه أمنها القومي المهدد على حدودها الشرقية. كانت مصر تحارب معركة أمنها القومي قبل وبعد أي شيء آخر. تحت اختبار النار اقتنع عبدالناصر بصحة ما ذهب إليه قائد الفدائيين أحمد عبدالعزيز من أن التغيير يبدأ من القاهرة.
اكتسبت القضية الفلسطينية منذ حرب 1948 مركزيتها في العالم العربي، نشأت ثورات وانقلابات وانتفاضات وحروب، جرت انتصارات وهزائم ومراجعات باسمها، دون أن تسقط رايتها أو تهتز عدالتها في عيون شعبها، الذي يواصل في ظروف شبه مستحيلة انتفاضاته لتقرير مصيره بنفسه. كانت ردة الفعل الشعبية المصرية حزناً وغضباً على شبكة التواصل الاجتماعي إثر اغتيال شيرين أبو عاقلة دليلاً دامغاً جديداً على وحدة الوجدان العربي ومركزية القضية الفلسطينية. بعد 74 عاماً على نكبة فلسطين يتأكد مرة بعد أخرى، رغم الخسائر الفادحة والتراجعات المخجلة، أن فعلها لم يصل إلى غاياته الإسرائيلية، فلا انكسرت إرادة المقاومة، ولا فقد الفلسطينيون إيمانهم بعدالة قضيتهم وحتمية انتصارهم في نهاية المطاف.

* كاتب وصحافي مصري