«لا يمكن للإنسان التخلّي عن حق مقاومة من يعتدون عليه بالقوة لأخذ حياته منه»(توماس هوبز)

يُثبت المقاومون الفلسطينيون تصميمهم وقدرتهم على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والرد على جرائمه المتمادية، من حيث لا يتوقع وفي عمق كيانه الغاصب. تأتي العمليات الفدائية، التي ينفّذها مقاومون منفردون، كأحد أهم الأساليب التي يردّ بها الفلسطينيون، لترهق كيان العدو، وتدخله في حالة فوضى عارمة، وتضعه في مأزق معقّد يظهر أحد أبرز التحدّيات والتصدّعات البنيوية الموجودة فيه.
تنطلق أهمية عمليات المشتبك المنفرد من أنها تظهر فشل العدو بالتعامل معها، وهي بدأت تستنزف الاحتلال بشكل حثيث ومتقدّم وفعّال أكثر ممّا سبق، نظراً إلى حصولها في فترات متقاربة، وإيقاعها قتلى وإصابات في صفوف المستوطنين، وفشل العدو في الكثير من الأحيان في إحباطها والتعامل معها بشكل سريع، ما يجعل الكيان يعيش حالة الفوضى والرعب. لذلك، أصبحت هذه العمليات رقماً صعباً وهاجساً يخيف قادة كيان الاحتلال، حيث إن أغلب العمليات ليس لها طابع تنظيمي أو مرتبطة بخلايا تابعة للفصائل، وبالتالي لا يستطيع الاحتلال التنبّه لها والتعامل معها مسبقاً.
وبدأت العمليات المنفردة تتحوّل كعمل مواز لعمليات المقاومة المنظمة، التي قد تصطدم أحياناً بصعوبة التنفيذ، بسبب الاعتقال والتجسُّس وكاميرات المراقبة، وجدار الفصل العنصري، وعمليات المطاردة. وبالتالي، فإن للعمليات المنفردة دوراً فعّالاً في إبقاء العدو قلقاً، حيث يعتبر معظم الإسرائيليين أن الكيان بات مكاناً غير آمن مع غياب الردع من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
ومهما يحاول الاحتلال منع هذه العمليات، ومهما قام بأعمال عسكرية مسبقة، كما في جنين التي تحوّلت إلى بؤرة صراع أمني كبير تؤرّق الأمن الإسرائيلي، فلن يتمكّن العدو من إحباط ومنع هذه العمليات. بل إن هذه العمليات ستتواصل وتتزايد، حيث يظهر أن هناك تصميماً فلسطينياً على تفعيل عمل المقاومة ضد الاحتلال. وقد وجد الفلسطينيون فيها أنها ترعب الكيان وتعرّي أجهزته الاستخبارية وتؤكّد فشلها، وتشكّل تهديداً لأمن الكيان برمّته. وبالتالي، فإن هذه العمليات تلاقي ترحيباً كبيراً من كل الفلسطينيين، وتؤثر في الشباب الفلسطيني، وتشجّعه على القيام بعمليات مشابهة.
ومن خلال تتبع العمليات الأخيرة التي حصلت في الخضيرة وبئر السبع وبني براك إلى شارع ديزينغوف، فإنها جميعها تعكس ضعف الكيان الصهيوني وهشاشته وإرباكه وتخبّط أجهزته العسكرية والأمنية وفشلها الذريع في مواجهة هذا النوع من العمل المقاوم. بل على العكس، فإن هذه العمليات تظهر قدرة الشعب الفلسطيني على نقل المعركة إلى عمق كيان العدو.
إلى ذلك، تظهر هذه العمليات الضعف الداخلي في الكيان، حيث إن كل الكيان يعيش حالة رعب من هذه العمليات، فهي تنعكس على الوعي لدى المستوطنين، الذين فقدوا الشعور بالأمان، ما قد يدفعهم إلى ترك الأراضي المحتلة. كذلك، تم اتخاذ قرارات بمنع السير المنفرد والتدريبات في المناطق العربية، وهذا يؤشّر إلى فقدان الشعور بالأمن، حتى بالنسبة إلى الجنود الذين يُفترض أنهم هم مَن يوفّرون الأمن للمستوطنين.
ويعدّ احتمال تحدّر المقاومين المنفّذين من الأراضي المحتلّة عام 1948 أحد أسباب الإرباك الإسرائيلي، وهذا ما لم يكن في الحسبان لدى قادة الكيان. فإعطاء جنسيات أو جوازات سفر إسرائيلية لفلسطينيي الداخل لم يفلح في سيطرة سلطات الكيان عليهم أو في أن يبعدهم عن القضية الفلسطينية. وتنفيذ عمليات بهذا الحجم هو تغيير في قواعد المواجهة، بحسب تصريح رئيس وزراء العدو نفتالي بينيت إثر مشاوراته الأمنيّة. كذلك، فإن العمليات الأخيرة عزَّزت مؤشّرات تكامل الساحات الثلاث، غزة والضفة والـ 48، وتلاقيها في مسار موحّد، وهو ما يرعب قيادة الكيان.
إن هذه العمليات جعلت جهاز الأمن العام (الشاباك) وكل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية محل انتقاد لدى غالبية الإسرائيليين، وخاصة أنه تبيّن أن «الشاباك» لا يعلم شيئاً عمّا يجري في الداخل المُحتل. كما أظهرت هذه العمليات أن هناك حالة من التراجع والترهّل التي يعيشها الاحتلال على صعيد منظومته الأمنية والعسكرية.
لا شك أن هذه العمليات تظهر أن الكيان يعاني من فشل استخباري في استشراف مجريات الأمور، والسبب في ذلك التغييرات المتسارعة في خريطة التهديدات في المنطقة التي من شأنها أن تؤدّي إلى أخطاء في التقديرات الاستخبارية، حيث تغيب الرؤية في التعامل مع هذه العمليات. لذلك، فإن هذه العمليات الفدائية ترقى من كونها مجرّد أحداث اعتيادية أو تصعيدية إلى كونها تهديداً أمنياً بامتياز، يرخي بظلاله على مجمل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الكيان، ويظهر أحد أبرز التصدّعات البنيوية فيه والمتأتّية من الجبهة الداخلية.

* باحث في العلاقات الدولية