عُرِفَ عن القمني مواجهته الدّائبة للجماعات الإسلامية. لكنّها مواجهة لم تراعِ في الخصومة قياساً مُختلفاً بقدر ما تمثّلتْ أخلاق وادّعاءات ما تنقده؛ بذا نحتَ القمني هيكلاً علمانيّاً في نقد التّراث وتقديم قراءة مختلفة لنصوصه بعيداً عن السّائد، بخاصّة في مواجهته المريرة لا مع الأصوات السّلفية فحسب، بل مع مؤسسة «الأزهر» مباشرةً. بيد أنّ المؤدّى النّهائي لمنهج القمني لم يكن سوى نسخة متطرّفة تتوخّى التّهكم والفكاهة على التّاريخ، وتُحمِّل المجتمعات «المُتخلّفة» عبءَ ما ترزح تحت وطأتِهِ، وتمالئ خطابات القوّة سواء كانت في الدّاخل بالضّد من خصوم سياسيّين، أو في الخارج بالضدّ من الذّات الحضارية، والتّخلُّق بانحياز للإمبراطوريّة.

النّصوص في عالم القمني هي من تحكم، وتتغلغل في حياة البشر المحكومين بها، والمرافعة عنده تنصبّ على الدّعوة إلى فكّ ارتباط هذه المحكوميّة والانتقال بالمجتمع إلى وضعية تنويريّة. ولكنّ هذه الدعوة الثقافوية سرعان ما تُشيحُ النّظر عن الأحوال الاقتصادية لطبقات المجتمع، طالما أنّ القسمة بين «متديّن» و«تنويري» مريحة أكثر. أمّا التّمعن في بُنية الخطابات السياسيّة من باب الظّروف التاريخيّة التي تخلقُ النّصوص وتطوّعُها، فهذا مجلبة لتداعي الهيكل. هذه الفكرة ليست مفوّتة عند الراحل القمني عن عبث، بل هي نتيجة تحوّلات كونيّة لشريحة من المثقفين العرب تأثّروا في بداياتِهم بما للماركسية من ضوابط في هذا السياق، وحاولوا جاهدين مع التّراث بالانتساب له، فعرّفوا عن أنفسهم كمعتزلة جُدُد أو متصوّفة أو غير ذلك من فِرق إسلاميّة، قبل أن تتكثّفَ باشتغالاتهم وتصريحاتِهم في مراحل لاحقة بعد انهيار منظومة القطبين في مطالع التسعينيات، كلُّ إشكاليّات التيار العلماني التنويري على امتداد العالم العربي، فتقزّمت الأيديولوجيا وقزّمت معها حتّى «الإلحاد» الذي هو أحد أهم شروط التّقدم بلا شكّ.
جاءت انطلاقة القمني أكاديميّة حيثُ حازَ على بكالوريوس في الفلسفة من عين شمس، في حين شكّلت نكسة 1967 رضّة في وعيه جعلتهُ يُفتّش في التراث عن إجابات، وهذا ما يؤكّدُ احتكامَه لعالم النّصوص، النّصوص التي ينقدها! وفي رحلته تلك اكتشفَ ما قاده صوبَ أن يجأرَ بصرخة أعلى، فلم يكتفِ بما وقع عليه من سحر الإجابة لنفسه؛ عليه صار مولعاً بالكتابة عن مرحلة بواكير الإسلام بوصفها نُقطةَ مُراكَمةٍ لكلّ مُخلّفات الهزائم التالية، وفي هذا أيضاً نزوعٌ ميتافيزيقي يشتطّ عن أدوات التّاريخ العلميّة، ولا تختلف كبير اختلاف عن الماهيّات الاستشراقية في النّظر إلى المُدوّنات العربية والإسلامية وتحليلِها. أمّا مشوارُه في الدراسات العليا فلم يخلُ من مشاكل هو الآخر، حيثُ تحصّلَ على الماستر من الجامعة اليسوعيّة في بيروت، لتبقى رسالة الدكتوراه مثار جدلٍ بين مؤيديه وخصومه الذين شكّكوا بحيازته لها من جامعة جنوب كاليفورنيا.
هذه الدعوة الثقافوية سرعان ما تُشيحُ النّظر عن الأحوال الاقتصادية لطبقات المجتمع، طالما أنّ القسمة بين «متديّن» و«تنويري» مريحة أكثر


توسّعت اشتغالات القمني في عقد التسعينيّات، وفيه طرحَ أجرأ كتبه وأكثرها صداماً مثل «حروب دولة الرّسول» الذي قرأ فيه أشهر الغزوات في التاريخ الإسلامي، بدر وأُحد، ثمّ كتابه الأبرز «الحزب الهاشمي وتأسيس الدّولة الإسلامية» وفيه يوضّح التّشكل التاريخي لدولة الإسلام بعيداً من المنظور الغيبي، إنّما في الحواضن السّياسيّة التي اعتملت في جسد تلك الدّولة، وما تخلل ذلك من انقسامات وحروب أهليّة قَبليّة، فقدَ فيها الدّينُ سطوته المُحرّكة لصالح الغنيمة والظَّفَر.
وعكس الانطلاقة الستينيّة التي انبنَت على ثنائية الحُلم الناصري فالهزيمة والرّضة، كانت التسعينيّات فترة المواجهة مع المارد الإسلامي الذي اكتسحَ المُدن العربية بما عُرِفَ بالصّحوة، التي سخرَ منها القمني بعنوانِه اللاذع: «صحوتنا لا بارك الله بها» فمن اغتيال فرج فودة، إلى محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّضَ لها نجيب محفوظ، وصولاً إلى دعاوى التّفريق التي نالت من زواج المفكّر نصر حامد أبو زيد من زوجته ابتهال يونس بحجّة ارتداده عن الإسلام، كلّ تلك العوامل خلقت نزعة صِداميّة تبنّاها القمني في مواجهة «هُويّاتية» لم يبقَ فيها للنقد الماركسي أيّ ملمح. مواجهة لم تقتصر مفاعيلها على الفضاء العربي الإسلامي، بل تغذّت وانتعشت مع صعود الراديكالية النيوليبرالية على مستوى مُعولَم.
العقد التالي، الألفينيات، لم يكن أهدأ هو الآخر. فمع مفتتحه وقعت أحداث 11 أيلول، وبدأت حروب الرّجل الأبيض تفتك بالكوكب والدّول الطّرفيّة، وانقلبت تنظيمات «مقاتلي الحرّية» على داعميها، واجتاحَ العالم خطاب «الحرب على الإرهاب». في هذه المرحلة تنامت حدّة الخطاب العلماني التنويري وباتَ صوتُ القمني يصلُ إلى أركان قصيّة، فنالَهُ ما نالَ الكثيرين من تهديدات بالاغتيال من قبل تنظيمات قاعدية الهوى، وانهال عليه التكفير، ما دفعه لإعلان اعتزال الكتابة في مقال له نُشِر في «روز اليوسف»، قبلَ أن يعودَ عن قراره ذلك ويستمرّ في رحلة المواجهة.
في العقد الأخير، بدا أنّ عالم الثنائيات اللامرئية (ولو أنّها بالنسبة له شديدة الصلابة) التي أُغرمَ بها القمني راحَ يتزعزع. الإسلاميون صعدوا وهبطوا وتشظّوا، وتبيّنَ أنّ قوى أُخرى تمتلك صوتاً مختلفاً في وعي حركة التّاريخ والمواجهة، ومنظومات الحُكم بدورها تآكلتْ ولم يعد ظهورها بدور النّاظم التنويري أمراً مُقنعاً لقطاعات واسعة من الشعوب. وبالمقابل الإمبراطورية فعّلت أدوات جديدة في بثّ الهيمنة وتشتيت الانتباه مع بداية عقد الانتفاضات والحروب الأهلية، ولم تقف مُطوّلاً عند الصّلابة الكاريزمية للمثقف المُتمرد وآثرت عليه مجاميع «النّاشطين» الأكثر سيولة والأخف حركة. لتأتي آخر مواجهات القمني مع المؤسسة الدينية بُعيد اجتماع لمنظّمة «آدهوك» في بروكسل - بلجيكا دُعيَ إليه وأثار كلامُه المُنبتّ زوبعةً كالعادة، بيد أنّها زوبعة في وقتٍ ضائع.

* كاتب سوري