أمام الأبواب الموصدة تتفاقم الأزمة السودانية دون أن تتبدّى حتى الآن أيّة فرص تمنع احتمالات الانجراف إلى فوضى ضاربة تأخذ من البلد سلامته وتحجب عن شعبه حقّه في التحوّل بالكامل إلى دولة مدنية.كانت استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أقرب إلى حالة طلاق بائن بين المكوّنَين المدني والعسكري. العودة إلى الشراكة بين المكوّنين شبه مستحيلة، فقد تقوّضت ركائزها بالتدخّل العسكري الذي أطاح حمدوك أكتوبر الماضي، وحُلّت بمقتضى إجراءاته مؤسّسات المرحلة الانتقالية وفرغت الوثيقة الدستورية بالتلاعب من أية قيمة، أو معنى.
أخذت أزمة الشرعية مداها وتقوّضت الثّقة بالكامل في نقل السلطة إلى المكوّن المدني، رمزياً برئاسة المجلس السيادي كما كانت تقضي الوثيقة الدستورية، وفعلياً بهندسة أية انتخابات عامة وفق إرادة القوة.
كانت إطاحة حكومة حمدوك تعبيراً عن صراع محتدم على صورة المستقبل وموازين وحسابات القوى السياسية فيه. وكانت عودته في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي باتفاق سياسي مثير للتساؤلات والاحتجاجات مع قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان تعبيراً آخر عن قوة الغضب الشعبي ونفاذ الضغوط الخارجية. ثم كانت استقالته أخيراً تعبيراً ثالثاً عن تصدّع أية جسور سياسية قابلة للحياة بين المكوّنين المدني والعسكري.
فشل رهانه على ترميم أزمة الثقة وإعادة الحياة إلى الوثيقة الدستورية لاستكمال مهام المرحلة الانتقالية بأقل أضرار ممكنة. بتعريف الدور، الذي لعبه منذ اختياره رئيساً للحكومة في آب/ أغسطس 2019، فهو نقطة توازن بين مصالح وحسابات متعارضة.
دفعت به إلى ذلك المنصب «قوى الحرية والتغيير»، الرافعة السياسية لثورة كانون الأول/ ديسمبر، تقبّلته القيادات العسكرية، وزكّت اختياره قوى إقليمية ودولية عديدة، الأهم أنه حاز شعبية كبيرة بالنظر إلى رفضه قبول أية مناصب وزارية في عهد الرئيس السابق عمر البشير.
لم يكن هو المقصود بالتدخّل العسكري الذي أطاح الحكومة بقدر ما كانت «قوى الحرية والتغيير» هي المقصودة بالإبعاد والإقصاء وتحميلها مسؤولية ما أطلق عليه فشل الأداء التنفيذي.
في لحظة الإطاحة تلخّصت فيه حركة الاحتجاجات الشعبية والضغوط الدولية. اكتسب شعبيّة مضافة، لكنه سرعان ما خسرها بالاتفاق السياسي مع البرهان دون تشاور مسبق مع القوى السياسية التي صعدت به إلى منصبه. كان ذلك خطأ فادحاً في حسابات القوّة والنفوذ، وفي قراءة الشارع الغاضب الذي نظر إلى التطور الجديد باعتباره نوعاً من التسليم بنتائج التدخل العسكري.
في لحظة النهاية بدا حمدوك شبه معزول سياسياً وشعبياً، ولم يكن أمامه غير أن يستقيل ويغادر منصبه. المأساوي في قصته أنه يُحمّل الآن من الأطراف المتنازعة كلها تقريباً مسؤوليةَ إخفاق المرحلة الانتقالية، بتُهم أقلّها «الضعف» و«عدم الحسم»، كل طرف أراده أن يحسم لصالحه فيما هو يحاول أن يوازن بين الحسابات المعقّدة، حتى اختلّت حركته وكانت الاستقالة محتّمة.
في خطاب استقالته أعفى حمدوك نفسه من أية مسؤولية، لم يشرح أو يوضح أسباب الأزمة مكتفياً بإرجاعها إلى «التباعد بين شريكَي الحكم انعكس على مجمل مكوّنات الحكومة والمجتمع»، كان ذلك رغم صحّته تحليقاً في العموميات!
بخروج حمدوك من المشهد السياسي، نهائياً أو مؤقتاً، فإن مستقبل الرجل الآخر في صيغة الحكم الانتقالي الهشة البرهان مسألة تحوطها تساؤلات وألغام. انفراد العسكريّين بالسلطة شبه مستحيل بقوة الاحتجاج الشعبي وتسليم السلطة للمدنيّين ومحاكمة المسؤولين عن إراقة دماء المتظاهرين، كما تطالب الاحتجاجات الشعبية، شبه مستحيل آخر بأيّ مدى منظور.
لا يعرف التاريخ أن سلطة سلمت بالتراضي الطوعي. إننا في مقدمة الأزمة المتفاقمة، لا في آخرها.
بالنسبة للعسكريّين فسوف يحاولون ملء الفراغ الحكومي بإسناد رئاستها إلى شخصية تكنوقراطية مشهود لها بالكفاءة، غير أن هذه الفكرة تصطدم برأي عام غاضب يدعو ويلحّ على الحكم المدني الكامل وغير مستعد على أي وجه لتقبّل «عرائس ماريونيت» تحرّكها خيوط من خلف ستار.
لفترة طويلة نسبياً عجز حمدوك أن يشكل حكومة جديدة بعد عودته إلى منصبه، لم يكن العسكريّون مستعدون لتقبّل عودة وجوه بذاتها إلى التشكيل الحكومي، ولا من يماثلها من داخل «قوى الحرية والتغيير».
الأمر نفسه سوف يتكرّر مع أية حكومة كفاءات يجري التحدث عنها الآن دون أن تكون هناك أدنى فرصة لتقبلها شعبياً، الفشل سوف يكون ذريعاً.
لدرء احتمالات الفشل المسبق قرّر المجلس السيادي، برئاسة البرهان، تشكيل لجنة للتواصل والحوار مع مكوّنات الحياة السياسيّة، وهذه مهمّة شبه مستحيلة في الظروف والتعقيدات الحالية.
في محاولة أخرى لخفض التصعيد أطلق البرهان تعهداً لافتاً بأنه «سوف يحافظ على الفترة الانتقالية حتى إجراء انتخابات حرة ونزيهة ترضي كل السودانيّين»، وهو تعهّد من المستحيل تقبّله في الشارع الغاضب. إنّها أزمة المصداقيّة وقد استحكمت. أسوأ ما يحدث الآن أنه لا يوجد طريق واحد سالك إلى حلحلة الأزمة المتفاقمة، لا عند المكوّن العسكري ولا لدى المكوّن المدني.
تسليم السلطة للمدنيّين شعار تعبوي يفتقر إلى أية آلية متماسكة تجعله ممكناً. بصيغة أخرى فهو شعار يعبر عن إرادة عامة سوف تكسب معركتها في النهاية دون أن يتوفر له حتى الآن جسم سياسي قادر على ترجمته في خطط عملية للإمساك بمقاليد الأمور.
مشكلة القوى السياسية في التنازع بين مكوّناتها وتراجع نفوذها في الشارع الغاضب. رفض العودة للحكم العسكري المحرّك الرئيسي للاحتجاجات الشعبية المتصاعدة بأكثر من أيّة جهة على قدر من التنظيم.
كان مستلفتاً أن بعض الاقتراحات ذهبت بعيداً في التخيّلات المحلّقة مثل نقل السلطة بالكامل إلى حكومة مدنية تتولى قيادة المرحلة الانتقالية الثانية لأربع سنوات أخرى!
فكرة مماثلة تردّدت بقوة في الأيام الأولى للثورة السودانية داعية إلى تأجيل الاستحقاق الانتخابي لأطول فترة ممكنة بذريعة أن القوى الحديثة التي قادت التغيير غير مستعدة لدخول أية انتخابات في مدى منظور.
إذا افترضنا أن الجيش قرّر تسليم السلطة كاملة لحكومة مدنية، وهو سيناريو غير وارد حالياً، فمن يتسلّمها؟ بأي شرعية وبأي تفويض؟ بالنظر إلى التناقضات الداخلية، التي كانت من بين أسباب إجهاض المرحلة الانتقالية، فإنه يستحيل التوصّل لأية إجابة.
بصورة أو أخرى قد يخرج البرهان من السلطة، غير أن الأزمة في جوهرها لن تتغيّر حقائقها الأساسية، التي تعود إلى الأيام الأولى للاستقلال عام 1956 في تتابع الانقلابات العسكرية بعد فترات قصيرة من الحكم المدني، كأننا نذهب ونجيء من «الباب الدوار» - كما يقول السودانيون.
لا العسكريون اخترقوا مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية المستحكمة وحافظوا على وحدة أراضيه، ولا المدنيون نجحوا في تأسيس قواعد للحكم الرشيد. لا يوجد مدخل آمن لحلحة الأزمة السودانية سوى الحوار، لكن الطريق إليه ملغم بالاحتمالات الخطرة على السودان وأهله.
* كاتب وصحافي مصري