«إنه فصل آخر من الفجيعة في وداع أمّتنا لجيل من الجنوب أفريقيّين الذين ورّثونا بلداً محرّراً».بهذه الكلمات المؤثّرة بقدر صدقها نعى الرئيس جنوب أفريقي، سيريل راما فوزا، رحيل القسّ ديزموند توتو، آخر القادة الكبار الذين حملوا مسؤولية تحرير بلدهم من ربقة الفصل العنصري.
لم يكن رجل سياسة ولا كانت دوافعه سياسية، فهو رجل دين دعته معاناة مواطنيه إلى مناهضة الفصل العنصري. كان قاطعاً بقدر نظرته الإنسانية في إدانة الفصل العنصري: «أرفض أن نعامل كممسحة أرجل تمسح الحكومة البيضاء أحذيتها عليها». أكسبته مواقفه الأخلاقية وروح الفكاهة عنده شعبيّة هائلة دعت إلى منحه جائزة نوبل للسلام عام 1984، فيما كان نيلسون مانديلا ما يزال في سجنه الطويل.
قبل أن يخطو مانديلا يوم 11 شباط/ فبراير 1990 خطوته الأولى إلى الحرية بعد نحو أكثر من ربع قرن من الحياة في عزلة شبه كاملة خلف السجون، ولا أحد يعرف الهيئة التي أصبح عليها، لخّصت صورة توتو قضية جنوب أفريقيا أمام الرأي العام العالمي.
لم يكن مانديلا وحده، ولا الخطوة الهائلة إلى المستقبل صنعها وحده. ربما لم يلتفت أحد بما يكفي من إجلال لرجال آخرين، امتلكوا نفس الصلابة النفسية، وقرروا بالاختيار الحر أن يتراجعوا للخلف ويتركوه يتقدّم وحده لاعتبارات مصلحة قضية منحوها أعمارهم سجناً ونفياً، دون أن يخطر على بالهم التنازع على سلطة حان وقت الصعود إليها.
بعض التفاصيل الإنسانية في خلفية الرواية التاريخية تُضفي عليها جمالاً استثنائياً لمعنى أن تكون هناك قضية شعب تلهم وتستحق أية تضحيات من أجلها. هكذا كانت علاقة نيلسون مانديلا بصديقَيه: أوليفر تامبو ووولتر سيسولو. الرجال الثلاثة تبنّوا الأفكار ذاتها وتبارَوا في بذل التضحيات، وتبادلوا الأسرار الشخصية، ومثّلوا معاً واحدة من أفضل التجارب الإنسانية والسياسية في التاريخ الحديث.
لم يكن توتو واحداً منهم، ولا ربطته صلات تنظيمية وإنسانية بهم، لكنه حذا السلوك نفسه وتبنّى المطالب نفسها دون نظر إلى حساسية موقعه الديني ككبير أساقفة جنوب أفريقيا.
أوليفر تامبو، تولّى لفترة طويلة رئاسة حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» وكان أقوى رجل فيه بلا منازع.
في كانون الأول/ ديسمبر 1990، عاد إلى جنوب أفريقيا لأوّل مرة بعد ثلاثين سنة في المنفى، ليحضر أوّل مؤتمر علني للحزب الذي يتزعّمه قبل إعلان تحرير بلاده. من على منصة المؤتمر وأمام العالم كلّه قال مانديلا: «ها هو أوليفر يقودنا نحو مستقبل مشرق مفعم بالأمل، إنه الرجل الذى أنقذ الحزب طوال السنوات السبع والعشرين التي قضيتها في السجن، وهو الذي انتقل به إلى منظمة عالمية لها حضورها ونفوذها... إنه بحق الجندي والديبلوماسي ورجل الدولة». كانت تلك الكلمات أقرب إلى مبايعة أوليفر تامبو بالاضطلاع بمهمة قيادة التحول.
لم يستسلم تامبو لرغبة مانديلا في أن يخلي له ما يستحق من أدوار في المستقبل، معتقداً أن القضية تستحق التضحية بأية إغواءات سلطة. كان تقديره أن الرجل الذي خرج للتو من السجن هو الآن رمز القضية، وأنه من مصلحتها أن تستخدم رمزيّته وكفاءته في قيادة المفاوضات الصعبة لتفكيك النظام العنصري في جنوب أفريقيا.
من موقعه في رئاسة «المؤتمر الوطني الأفريقي» تبنّى تامبو حملة دولية لشرح قضية مواطنيه الأفارقة ضد سياسة الفصل العنصري والتنديد بها، والدعوة إلى الانعتاق منها، وأن يكون شعارها إطلاق سراح مانديلا.
كانت هناك اعتراضات وحساسيّات. لم يكن نيلسون مانديلا هو السجين الوحيد، الذي تقادمت عليه السنون في السجن، ولا هو وحده الذي صمد في مواجهة عنت وعسف السلطات البيضاء ضد كل ما هو أفريقي أسود.
امتدت الاعتراضات والحساسيات إلى داخل السجون، وتردّد على نطاق واسع أن الحملة ومنطقها أقرب إلى «شخصنة القضية» على حساب طبيعتها العامة لشعب يرزح تحت الفصل العنصري. دافع تامبو باستماتة عن فكرته، ونجح في تذليل الاعتراضات عليها. مالت نظرته إلى أن العالم يتفهم القضايا الكبرى عندما تطرح عليه بوضوح وإقناع بعدالتها، لكنها قد تلهم خياله عندما تجسّد أمامه في طلب الحرية لإنسان يرمز إلى أمّة مقهورة، صمد وقاوم عذابات السجون، مؤمناً بحق شعبه في منع التمييز العنصري ضده.
وقد كان توتو أحد أبرز الوجوه التي شاركت في تظاهرات دولية تحت الشعار نفسه «أطلقوا سراح مانديلا». في اللحظة التي خطا فيها مانديلا خطوته الأولى إلى الحرية، في ظروف دولية أعقبت سقوط حائط برلين دعت تفاعلاتها إلى ضغوط واسعة لتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لم يتردّد تامبو أن يُفسح المجال أمام صديقه القديم لقيادة التحوّل الكبير، فقد أصبح رمزاً للقضية، وأثبت جدارة في الحديث باسمها. كان اعتقاده أن لكلّ مرحلة رجلها، ومانديلا هو رجل الساعة دون غيره، وأن قضيته فوق شخصه وانتصارها صلب طموحاته.
لم تكن الأحوال الصحيّة لتامبو مطمئنة، ولعلّه أراد أن يضع المستقبل في يدٍ أمينة عليه.
وصفه مانديلا في مذكّراته بأنه رجل «ذكاؤه عميق وقدراته استثنائية في الحوار والنقاش وتفنيد أفكار خصومه بأسلوب منطقي ومقنع»، وأن «أفضل ما تعلّمته منه نظرته الموضوعية التي خفّفت من اندفاعاتي العاطفية المتسرّعة».
اتّسقت الحقائق الجديدة مع رؤية تامبو، وآلت قيادة الحزب والدولة إلى مانديلا. الرؤية ذاتها تبنّاها رجل قويّ آخر هو وولتر سيسولو، الذي عانى عذابات السجون الطويلة مع مانديلا بذات التّهم. كانت شخصية سيسولو ملهمة لكثيرين أوّلهم مانديلا نفسه. بنص مذكّراته: «لقد خضت مع وولتر النضال حلوه ومرّه.. وهو رجل عنده حكمة وعقله راجح، ولا يوجد في الدنيا كلّها من يعرفني أكثر منه ولا أطمئن لرأي وأقدّره أكثر ممّا أطمئن لرأي سيسولو وأقدّره». بلا ضجيج أو ادّعاء تراجع سيسولو خطوات إلى الخلف، وهو رجل وراءه أسطورة صمود كتلك التي لدى نيلسون بالضبط. لم يتململ أو يتضايق من مساحة الضوء الكبيرة التي حازها صديقه القديم وحده تقريباً.
لم تكن مجرّد مسألة رفعة إنسانية بل اعتقاد راسخ أن مصلحة قضية جنوب أفريقيا تجبّ أي شيء آخر. كان مانديلا مهيّئاً أكثر من رفيقيه لقيادة التحوّل، فهو صاحب فكرة «الحوار مع العدو»، وهو الذي أخذ على عاتقه خلف جدران السجون اختبار جدّيتها والفرص المتاحة.
لم يبدِ سيسولو ارتياحاً للفكرة ولا اقتناعاً بجدواها عندما طرحها عليه مانديلا خلف أسوار السجن الذي كان يضمهما. لم يكن ضد المفاوضات من حيث المبدأ، لكنه كان يفضل أن تبادر الحكومة البيضاء بها لا أن تأتي «من صفوفنا». ولم يبدِ في الوقت نفسه تامبو ارتياحاً للفكرة نفسها وأرسل إلى مانديلا عبر محامين يسأل: «ما موضوع المحادثات السرّية بالضبط؟».
بصورة أو أخرى أقنع مانديلا رفيقيه بالمضي في المحادثات لاكتشاف فرص المستقبل في الظروف الدولية الجديدة، بعد انتهاء الحرب الباردة.
في لحظة خروجه من السجن بدا أنه الوحيد القادر على إدارة التفاوض الصعب من أجل الحرية، وقد أنجز مهمته بدرجة عالية من الكفاءة وحسن تقدير الأمور. وأنت تقرأ مذكرات مانديلا تجد نفسك أمام رجل يكاد يقول إن كل ما فعلت الفضل فيه لآخرين. قاد تجربة في «العدالة الانتقالية»، تعد مصدر إلهام لشعوب أخرى عانت من الظلم والتنكيل حاسبت وصالحت ووضعت جنوب أفريقيا على مسار جديد في التاريخ. كان توتو الأكثر تأهيلاً، بروحه وشخصيته، لترؤّس لجنة «المصالحة والحقيقة».
لم تكن التجربة الجنوب أفريقيّة مثالية، فقد بقيت ثروات البلاد تحت سيطرة الأقلية البيضاء، لكنها حرّرت الرجل الأسود من عبوديّته ومكّنته من السلطة السياسية. بنفس التوقيت الذي تحرّرت فيه جنوب أفريقيا من الفصل العنصري كانت هناك فرصة مماثلة إلى حد ما في مفاوضات مدريد، لإنهاء حالة عنصرية أخرى في فلسطين المحتلة.
كان من الصعب للغاية الوصول إلى أي اختراق في ظل تعهّد رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت إسحاق شامير بالتفاوض لعشر سنوات مع الفلسطينيّين، دون اتفاق يُعيد إليهم شيئاً من حقوقهم. لم تكن القضية الفلسطينية فوق الرجال ولا الفصائل. تبدّت خشية شبه معلنة في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن يسحب الوفد المفاوض في مدريد البساط من تحت أقدامها. ذهبت إلى التفاوض السري في العاصمة النرويجية أوسلو، وقدّمت تنازلات نالت من الحقوق الثابتة، كأنه اندفاع إلى الخسارة المجانية التي امتدت عقوداً.
رغم كلّ ما حلّ بالقضية الفلسطينية من تراجعات فادحة ظلّت جنوب أفريقيا على ذات درجة الالتزام بعدالتها، وظل توتو شأن كل رفاق مانديلا صديقاً موثوقاً لها: «لا أستطيع أن أستوعب أن يرتكب اليهود فظائع في فلسطين تضارع ما تعرضوا له في المعتقلات النازية».
في اليوم الأوّل من العام الجديد عندما تدقّ أجراس الكنائس بجنوب أفريقيا أثناء جنازة ديزموند توتو تذكّروا بكل امتنان واحترام صرخته الأخيرة من أجل القضية الفلسطينية: «أرجوكم ضعوا حدّاً لهذا الظلم».

* كاتب وصحافي مصري