ارتبط المشروع الصهيوني منذ نشأته بمحاولة إخضاع المنطقة العربية وإيصال شعوبها إلى مرحلة الاستسلام. ولكن نتيجة ممانعة ومقاومة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، والهزائم العسكرية التي تلقّاها العدو الإسرائيلي، وخاصةً من قبل المقاومة في لبنان وغزة، فإن العدو بدأ يبحث عن وسائل أخرى للوصول إلى إخراج القضية الفلسطينية من العقل العربي، وتغيير المفاهيم العربية من العداء والرفض لوجود العدو الصهيوني، إلى القبول بوجوده والتعامل معه. لا يسعى الكيان الصهيوني إلى إقامة علاقات مع الأنظمة العربية فقط، إنما إلى محاولة إسقاط مفهوم الكيان الصهيوني والعداء له من قاموس الدول العربية، وجعل هذا القاموس العربي يتقبّل وجود كيان دخيل مصطنع ومحتل في فلسطين.
ولا شك أن ما يسعى إليه العدو الصهيوني، من خلف ما يصطلح عليه بالتطبيع، يؤشر إلى وجود نهج يعمد إلى إسقاط مفهوم العداء، والتطبيع على كل المستويات (العسكرية، السياسية، الاقتصادية، السياحية، الدينية والإعلامية)، إلا أن أخطر ما في التطبيع هو التطبيع الذي يمكن أن يحصل على المستوى الثقافي التربوي، مع ما يعني ذلك من انتقال للرضوخ والاستسلام في وجدان الشعوب العربية.
هذا التطبيع التربوي، الذي بدأ يطبّق في بعض الدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني، لا ينفصل عن الرؤية الصهيونية للسيطرة على المنطقة، وبالتالي تحضير البيئات العربية، لكي تتلاءم مع ما تريده الصهيونية، وخططها في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، وهو ما يشكّل تهديداً خطيراً جدّاً لتغيير هوية الأمة العربية والإسلامية.

أولاً: المؤتمر الإسلامي العربي لمناهضة التطبيع التربوي
وأمام خطورة التطبيع التربوي التي تنطلق مـن كونها تشمل الاستراتيجيات والبرامج والطرق والأساليب والمجالات التربوية التي يحاول أن ينفذ من خلالها الكيان الصهيوني محاولاً جعل نفسه كياناً طبيعياً في جسد الأمة الإسلامية والعربية، كان المؤتمر الأكاديمي، الذي عقده مركز الدراسات والأبحاث التربوية، واتحاد المعلمين العرب، في بيروت، تحت مسمّى «المؤتمر الإسلامي العربي لمناهضة التطبيع التربوي»، برعاية وزير الثقافة محمد وسام مرتضى، وبحضور المنسّق العام للمؤتمر والمدير العام لمركز الدراسات والأبحاث التربوية الدكتور عبد الله قصير، والأمين العام لاتحاد المعلّمين العرب هشام نمر المكحل.
وقد شارك في المؤتمر باحثون من: لبنان وسوريا وإيران والبحرين وباكستان والجزائر ومصر والمغرب وتونس واليمن والعراق، حيث تناولوا إشكاليات تطرح خطورة هذا النوع من التطبيع.
وقد صدر عن المؤتمر توصيات عدة، أجمع فيها الباحثون على ضرورة العمل على وضع خطط ومشاريع وبرامج تعمل على توعية الرأي العام، كما تُسهم في تنشئة جيل يُدرك مخاطر التطبيع مع الكيان الصهيوني ضمن مسارات متعدّدة. ودعا المشاركون إلى إطلاق إطار تنسيقي تربوي إسلامي وعربي لمناهضة التطبيع التربوي بكل أشكاله ومستوياته مع الكيان الصهيوني الغاصب، لجعل مناهضة التطبيع التربوي قضية تربوية وطنية وعربية وإسلامية مشتركة، وكذلك تعزيز التواصل بين تنسيقيات مُناهضة للتطبيع في كل بلد عربي وإسلامي وبين الهيئات الرسمية والنقابية والتربوية والبحثية وتنشيط الاهتمام بهذه القضية التربوية المهمة.
ولا شك أن من أهم التوصيات دعم واحتضان الحركات الطلابية والمبادرات الشبابية المتصدّية لمختلف أشكال التطبيع التربوي مع العدو من خلال المؤسسات الفاعلة على المستوى التربوي والتعليمي، وضرورة العمل على تعيين الثغرات التي يمكن أن ينفذ التطبيع التربوي من خلالها، والسعي لإعداد دليل تعليمي خاص بمصمّمي البرامج والمناهج التعليمية والتربوية لتضمين كل مادة تربوية المفاهيم والمصطلحات اللازمة لمناهضة التطبيع التربوي بأشكاله كافة.
كذلك، فإن من أهم التوصيات كان التشجيع على إعداد كتاب تعليمي مبسّط، يصلح للناشئين، ويتحدّث عن تطور قضية الصراع العربي الصهيوني من وجهة نظر مناهضي التطبيع، كذلك التشجيع على تصميم مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية والوطنية والأدب والمسرح المدرسي والرسم والتربية على الصورة والموسيقى، وفق بوصلة تجعل من فلسطين والقدس الشريف وكرامة الأمة وعزّتها قبلة لهذه المناهج، إضافة إلى بناء منهج تعليميّ خاص بمقاربة مسألة مقاومة التطبيع مقاومة شاملة.

ثانياً: أهمية البحث العلمي في مواجهة التطبيع
ولا شك أن للبحث العلمي أهمّية كبيرة في رصد ورفض ومحاربة التطبيع، ومن هنا كان التأكيد على التشجيع والحث على إطلاق العمل البحثي الهادف إلى تحجيم الصهيونية وردّها إلى أصولها التاريخية المحدودة، بالأدوات نفسها التي استخدمها المخيال الاستشراقي الاستعماري الذي تم توظيفه بخبث من أجل تهويد القدس.
وللمثقفين دورهم أيضاً في محاربة التطبيع، من هنا تأتي الدعوة إلى تصدّي المثقفين والمفكرين في إطار مشاريعهم البحثية وفي حواراتهم المباشرة مع المواطنين عبر مختلف الوسائل المتاحة، للقيام بحملات منظّمة يستدعى لها كبار المثقفين المؤثرين لمخاطبة الجماهير، لدحض أكاذيب الصهيونية وتزويرها للتاريخ.
وقد عرضت خلال المؤتمر عدة أوراق بحثية مهمة، تمكّنّا من الاطلاع على معظمها، وكان من أبرزها ما عرضه الدكتور جلال فيروز، النائب السابق في البرلمان البحريني، الذي أشار إلى أن التطبيع التربوي عبر المدارس ومراكز التعليم الأساسية هو من أكبر وأقوى وسائل وقنوات التطبيع التي يستهدفها المطبّعون والدوائر الصهيونية، لأن المدرسة هي المدخل الاجتماعي، والأكثر تأثيراً في المجتمع.
وتفيد تقارير صادرة عن مؤسسات إعلامية صهيونية بتنفيذ برامج مشتركة في مجال التعليم، ومنها إنشاء منتديات تربوية مشتركة بين الدول المطبعة والكيان الصهيوني، وذلك تارة عبر استخدام شعارات مخادعة تتغلغل من خلالها في المؤسسات التعليمية الأساسية، وبعناوين براقة، مثل ثقافة التسامح والتعايش الديني، وتارة أخرى عبر عمليات التوأمة وتبادل الزيارات للطلبة والهيئات المدرسية. ولفت الدكتور فيروز إلى نقطة مهمة تتمثل في أخذ التطبيع شكل تعاون بين الجامعات والمراكز التعليمية العليا ومراكز الأبحاث، فمن خلال ذلك يتم استقطاب بعض الشباب والجمعيات أو الجماعات لقبول حقيقة وجود الصهيونية، وإضعاف الشعور بالانتماء القومي، والهوية الإسلامية، ومقاومة الاحتلال، واسترجاع الحقوق المغتصبة.
وهنا يأتي دور الجامعات والمراكز التعليمية والبحثية في تعبئة هياكلها وبرامجها نحو الوعي بهذه المخططات، وعدم التعاطي مع المؤسسات الصهيونية على مستوى المعرفة المخادعة، والاهتمام بصياغة المفاهيم وأساليب التفكير لدى الطلبة والشباب على أسس الهوية العربية والإسلامية الأصيلة، لتكون درعاً ضد الاختراق والتهجين.
ومن أخطر ما يقوم به المطبعون بحسب ما أشار فيروز هو السعي إلى تحويل وزارات التربية والتعليم والهيئات التي تنضوي تحتها من مؤسسات دفاعية إلى مؤسسات تهدّد الهوية، وتعمل على خلق أجيال لا تعرف عدوها، بل تتعاون مع العدو وتسلبه ثقافته الفكرية والعلمية والتاريخية، كما يعملون على تغيير نمط تفكير المعلّمين والتربويّين لدينا ليتناسب مع مبتغيات التطبيع ولوازمه. وفي مقدمة ما يستهدفونه مراكز تدريب وتخريج المعلمين والتربويين.
الباحث التونسي في مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة، الدكتور مصدّق الجليدي، توقّف في بحثه تحت عنوان «دور البحث العلمي والتربوي في مناهضة التطبيع»، عند ظاهرة التطبيع الأكاديمي والثقافي في بلدان المغرب العربي، وقد أخذ مثالاً على ذلك الحالة التي تدلّ على وجود عيّنات من هذه الظاهرة في الجامعة وفي المجالين الفني والأدبي، رغم الدرجة العليا لمناهضة التطبيع شعبياً في تونس والتي تبلغ 93 في المئة، مشيراً إلى أن منهج المقاومة يكون بتحصين الشباب من الاختراق الصهيوني بالدجل المعرفي وتكوين مناعة علمية وثقافية لديهم ضد الصهينة.
تجدر الإشارة إلى أنه كانت هناك أبحاث عدة عرضت، ومنها بحث الدكتور كمال مغيث من المركز القومي للبحوث التربوية في مصر، والذي لفت إلى محاولات التطبيع من خلال التعليم باعتبار أن التعليم هو أهم مؤسسة للتنشئة السياسية والوطنية.
أمّا مظاهر المقاومة وسبلها فقد ناقشها الباحث الجزائري الدكتور هزرشي بن جلول، في دراسة تحت عنوان «التطبيع في مناهج التعليم العربية: المظاهر وسبل المقاومة»، معرّجاً فيها على أهداف التطبيع المرتبطة بمحاولة تزييف وعي الناشئة، وكسر الحاجز النفسي مع الكيان الصهيوني في وجدان الطلبة وعقولهم، وترسيخ الهزيمة الحضارية.
وتأتي محاربة التطبيع التربوي في أولويات الباحثين والأكاديميين العرب، الذين يعملون في المجال الأكاديمي. وقد قدّمت الباحثة المغربية الدكتورة خديجة صبار مجموعة مقترحات لمقاومة التطبيع، تحت مسمّى آليات المقاومة من داخل الإطار الفكري والعلمي والتربوي، منها مجابهة الأيديولوجية الصهيونية التي تربط الدين بالقومية وتسخّر الاعتقاد الديني لجني مكاسب سياسية وتربط العقيدة بالمصالح الاستراتيجية، ورفض سردية الكيان المتعالية عن منطق التاريخ، وكذلك القيام بقراءات مناهضة للصهيونية بتفكيك مفهوم الوعي، واعتماد الثقافة والفكر خط دفاع استراتيجي لهندسة العقل والوجدان العربيين.
إن ما يتفق عليه الباحثون، وخاصةً الذين يعملون في مجال مكافحة التطبيع، هو أن الشعوب العربية لا تزال تؤمن وتدافع عن القضية الفلسطينية وتنبذ الاحتلال الصهيوني، فالصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجود لا صراع حدود، ومع أن العدو يعمل دائماً على البحث عن ثغرات يدخل منها إلى تطبيع العلاقات، ومنها المسارات التربوية والثقافية والإعلامية، تأتي أهمّية عقد هذا المؤتمر الذي يؤكد على التأصيل الفكري والثقافي والتربوي الرافض لفكر التطبيع، والذي يؤكد على أن الفكر العربي يرفض التسليم لوجود الكيان الصهيوني.

* باحث في العلاقات الدولية