برزت الاختلافات مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين حول الخاصية المهنية للسوسيولوجيا وكان سبق لتدريس هذه الخاصية في فرنسا إن حُضّر لها مقدمة حول مهنية أدائها ولم يكن هناك وضوح حول التخصّص المهني لما سمي سوسيولوجيا. ومع تزايد الاختلافات المعوِّقة أمام التخصّص في التعليم والتوقف أمام الضرورات المتعددة لكل من حاجات دراسات « المهننة » Professionnalisation وصعوبات التوافق العلمي ــ السياسي حول مقترحات الدراسات المؤهلة للتخريج المطلوب. «وقد تجسدت الاختلافات التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا حول مقترحات الطابع العلمي لفريق العلماء المصنفين في تيار دوركهايم» وحول اختلاف الاختصاصات العلمية على تعددها والتزاماتها وتمثلت أولى مواجهات الفريق الدوركهايمي في ما أُطلق حول كرسيه الجامعي في مدينة بوردو (1900) ما سُمي «التربية وعلم المجتمع».ولم يُطلق اسم السوسيولجيا بعد موت دوركهايم عام 1917 إلاّ مع زميله موريس هالفاكس الأقرب إلى الفلسفة وظهر اسم هذا العلم في التدريـس في Ecoles Nationales primaires نزولاً عند رغبة دوركهايم قبل موته وكانت قد ارتبطت السوسيولوجيا لاحقاً بالتربية. وعورضت في هذه التسمية كلمة Sociologie من قبل كثير من علماء التاريخ القديم والجغرافيا في المدارس الإعدادية كما في صفوف الجامعة. وظل علم الاجتماع حتى عشية الحرب العالمية الثانية مقتصراً على ثلاثة كراسي في جامعات باريس، بوردو وستراسبورغ.
ومع تأسيس مركز الدراسات السوسيولوجية لاحقاً (1946) تشكلت مجموعات من الباحثين العاملين على حرية التحليل التجريبي لعلم الاجتماع المُرتكز على ملاحظة المجتمعات المُعاصرة. وقد اشتهر دور جورج فريدمان بين عامي 1948 _ 1951 في تركيزه على تحليل الأوضاع في المدارس والمدن وأماكن التسلية والنقابات موكلاً الأبحاث فيها إلى باحثين شباب. وكان قد تم التركيز على الأبحاث عام 1947 في إطار Ecole Pratique de Hautes Etudes. ومعها بدأ الكلام عن مهننة Professionnalistion علم الاجتماع وحول فهم العالم المُعاصر.
وفي هذا السياق تولّى جورج فريدمان ومن معه الاتصال عام 1953 مع مؤسسةInstitute Sociological Association لمتابعة ما يقوم به الباحثون السوسيولوجيون في فرنسا مركزين على فكرة أن عالم الاجتماع يجب أن يُركز أبحاثه على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية خلال القرن العشرين وأن هذه الأبحاث يجب أن يكون لها أهداف تطبيقية ومنها على سبيل المثال دراسات عن المؤسسات الحكومية ومتابعة الأوضاع الديموغرافية والأبحاث التطبيقية وحول التعليم والأبحاث الميدانية.
أحداث أيار 1968 وسّعت القطيعة بين علماء الاجتماع المناضلين وعلماء الاجتماع الخبراء


ولم يكن للنص الوارد عام 1953 آثاراً لاحقة في ما لـه علاقة بالمهننة السوسيولوجية، وظل الأمر على هذه الحال حتى عام 1957 ومجيء Raymond Aron عندما أمكن اعتماد الإجازة في علم الاجتماع مستقلة عن الفلسفة، مكونة من 4 شهادات هي: علم الاجتماع العام، بسيكولوجيا اجتماعية، اقتصاد سياسي، ومن شهادة رابعة يتم اختيارها من بين شهادات أخرى( ديموغرافيا وتاريخ اقتصادي اجتماعي... إلخ). واقترن هذا التعديل باختيار جديد لشهادة «حلقة ثالثة». «وقد اقتصر هذا التعديل للإجازة على اعتماد التعليم النظري ولا يتضمن ما يؤهل على البحث وتواجه هذا التعليم باقتراح للاتحاد الطلابي يقوم على: إدخال التدريب والتخفيف من البرنامج واعتماد البحث التجريبي مما يخرج عن الاهتمامات التقليدية بمواد التأهيل في كلية الآداب حيث يغلب وجود المواد الرئيسية في القاعات وتفتقد المختبرات وتسود الكتب». (1). وبرزت في المقابل الإرادة لتأسيس مهنة لعالم الاجتماع تشمل الباحثين (CNRS) والمساهمين ممن تأهلوا للبحث التجريبي. واقترن ذلك بتوسع دخول الخريجين سواء إلى الشركات في القطاع الخاص أو إلى مؤسسات القطاع العام.
وورد في اقتراحات للطلاب تتوزع بين اقتراح بإنشاء ما سُمي «دبلوم الخبير» في السوسيولوجيا ما أتاح لطلاب علم النفس والديموغرافيا والجغرافيا الحصول على «دبلوم الخبير». وساهمت هذه التحولات في حصول أحداث أيار 1968 التي كشفت ووسعت القطيعة بين علماء الاجتماع المناضلين وعلماء الاجتماع الخبراء حتى عام 1980 حيث استقر علم الاجتماع الفرنسي في الفصل بين: العلوم الاجتماعية والاقتصادية (SES) المعتمدة في التعليم الثانوي وانتهت التفصيلات الأخرى إلى توسع اعتماد هذا العلم في وزارات التجهيز والدرس وغيرها ولا يمنع ذلك من ظهور انقسام بين إيديولوجيين يتميزون عن الفلسفة وعلماء اجتماع باحثين ونقابيين وتنظيم المدن.
ومن الجدير بالذكر أن هذا التوزع في تخصصات علماء الاجتماع الفرنسيين حافظوا على الاعتراف باختلافات تخصصاتهم وارتباطاتهم العلمية والمهنية ولم يعانوا من انقسامات وتشرذمات تفقدهم فرص التوسع المهني والنضالي. لكن ذلك لم يمنع حصول حدثين لا رابط بينهما:
- الحدث الأول ممثل بالقرار على التفاهم والاندماج في ما يتعلق بأعمال من عملوا في الخارج «المركز الوطني للبحث العلمي CNRS» أو في ما يتعلق بعمل مهندس البحث المُعرّض للاشتباه. وقد لوحظ أن أعداد حاملي أطروحات السوسيولوجيا تراجع بشكل خطير مع تزايد الأجانب.
- أما الحدث الثاني فيتمثل بالتقديرات المتوقعة لتزايد العاملين الوافدين بتاريخ معين ولمصادر تقدمهم للوظيفة وتخرجهم. وقد لوحظ أن عدد حاملي الدكتوراه من السوسيولوجيين يجدون حظاً أكبر من أن يكونوا أساتذة مساعدين في الجامعات. كما لوحظ أن الدكاترة الديموغرافيين يجدون وظائف في الجامعات أو في المؤسسات العامة. وأن عدد المعلمين _ الباحثين الوافدين تضاعف خلال عشر سنوات. وتبين إجمالاً أن التخصص السوسيولوجي وبفضل ما سُمي بـ «الجامعة للجمهور» مكّن من الحصول على مراكز تعليم تسمح للبعض من الوافدين في إيجاد فرص عمل ملائمة لتخصصهم. ولكن هذا التوسع في التخصصات السوسيولوجية واتساع الفرص أمام خريجيها لا بدّ وأن يطرح السؤال حول ما أصاب خاصية المهننة؟
* باحث في علم الاجتماع
1) Claude Dubar : «Les Tentatives des professionnalistions des études de Sociologie un bilan prospectif» - Edition la decouverte : 95--115