أعرف أنّ السطور الآتية لن تعجب العديد من المعارضين السوريّين، الشرفاء، الذين أثبتوا في السنوات الماضية - بالفعل لا بالقول - أنّهم يحبّون وطنهم أكثر ممّا يكرهون خصمهم، ولكن سرديّة «نقد العسكرة» التي يردّدها عددٌ من فصائل المعارضة السوريّة (خصوصاً تلك التي لم تتورّط في الصراع المسلّح) لا تعكس تحليلاً وفيّاً للواقع، بل هي، كأغلب المراجعات التي تخرج من سوريا اليوم، ترمي أساساً الى خلق تاريخ «مريح» لقائليها، والى تجسير الهوّة بين الافتراضات التي نظرت لها هذه النخب في السنوات الماضية وبين الواقع التاريخي كما يتبدّى أمامنا.
نظريّة «نقد التّسليح» تقول، باختصار، إنّ سوريا كانت فيها ثورة، أو ثورة في طور التشكّل، وكانت تسير على طريق النجاح وتنتشر باضطراد بين قطاعات المجتمع، ثمّ جاء «السلاح» وأفسد كلّ شيء. السلاح، بالنسبة لهذا المعسكر، هو ما استجلب الاعتماد على الخارج والكراهية الطائفية وغلبة النخب القريبة من المموّلين الأجانب، وباقي «الموبقات» كلّها التي اعترت جسد الحراك الشعبي في سوريا وساهمت في إيصالنا إلى رحى الحرب الأهليّة.
كان لديّ استاذ يسخر، بشيء من استشراقية، ممّا يسمّيه «الذاكرة التاريخية الشعبية» لدى العرب والتّرك، مدّعياً بأنّنا غالباً ما نتخيّل تواريخنا ضمن سرديّة «الشوكة في الطريق»، أي إنّ واقعنا الحالي يشكّله، على الدوام، مفترق مصيريّ جلل مرّ في ماضينا، لو سارت فيه الامور على نحوٍ مختلف، لتغيّر وجه التّاريخ («لو انتصرنا في بواتييه لصارت اوروبا مسلمة»، «لو سقطت فيينا لصارت اوروبا مسلمة»... الخ). فرضيّة «لوم السّلاح» فيها شيءٌ من هذه العقليّة.
من ناحية أولى، لا يمكن تحديد «لحظة مفصليّة» صدر فيها قرارٌ بالتسلح وبأخذ الأوضاع في سوريا الى دوّامة الموت (وان كان من اليسير تحديد من غذّى هذه العسكرة وموّلها وسمح لها بالتمدّد والتفاقم – الا اذا كان هناك من لا يزال يصدّق أنّ المعارضة تقاتل بالسلاح الذي تغنمه من النظام، والجنود المنشقين). منذ بداية الحوادث في سوريا، كان هناك حراكٌ مدنيٌّ سياسيٌّ سلميّ، كثيراً ما جوبه بالعنف والقتل، وكانت هناك ايضاً، وبالتّوازي، مظاهر عنفيّة ومسلّحة، يختلف مقدارها ومنسوبها بحسب الجغرافيا والفترة الزمنيّة، وأيّة سرديّة تحاول اخفاء احد هذين الوجهين على حساب الآخر تخدم الإيديولوجيا، لا الحقيقة.
من جهةٍ أخرى، فإنّ السلاح بحدّ ذاته، ليس هو الشرّ المطلق (والسلاح، تاريخيّاً، لم يكن يوماً مقتل الثورات)، بل إنّ الشرّ هو الحرب الأهليّة، والحرب التي لا تنتهي، وتحويل سوريا الى حلبة صراع. السلاح والعنف في هذه الحالة كانا واسطةً، وليسا سبباً. السببيّة الفعليّة تكمن في انسداد السياسة ورهانات اللعبة الصفريّة، التي يصير الصدام والعنف إثرها نتيجتين طبيعيتين ومتوقّعتين. ولئن كان من اليسير أن نقول إنّ هذه كانت رغبة النّظام وسياسته، وأنّ كلّ دعواته لـ«الإصلاح» و«الحوار» كانت وهميّةً وزائفة، أو غير مقبولة «تحت سبطانات الدبابات»، فإنّه من الثابت أيضاً أنّ كلّ فصائل المعارضة، تقريباً، كانت قد اتّفقت منذ أواسط عام 2011 على رفض الحوار والتفاوض مع النظام، من «اعلان دمشق» إلى «الإخوان» إلى «هيئات التنسيق المحلية»، وقد أُنشئ «المجلس الوطني» على هذا الأساس.
النظريّة هنا كانت أنّ المسألة قد أضحت مسألة «مبدأيّة» و«أخلاقيّة» (حين كان عدد القتلى في سوريا بالعشرات وبالمئات)، لأنّ النظام «قاتلٌ» و«يجب أن يرحل». التناقض هو في أن تعتمد هذا الموقف ثمّ ترفض السلاح والعسكرة، لا يمكنك أن تعتمد وصفةً للحرب ثمّ ترفض أدواتها. ماذا تعتقدون أنّه سيحصل في أيّ بلد في العالم إذا خرجت التظاهرات وهي تنادي بأنّ النظام الدستوري بكامله غير شرعيّ، وأنّ القوانين غير نافذة، وحملت علماً مختلفاً عن علم البلاد، وطالبت بالحماية الدوليّة؟ الخطيئة هنا مزدوجة: في أنك ترفض الكلام مع النظام وفي أنك غير قادرٍ على إسقاطه.

هل يحقّ لك أن تُصدم حين تكتسب الثورة ملامح طائفيّة ويسلك ممثّلوها الطريق الليبي؟


لو قدّم النظام
«ضمانات» و«تعهّدات» فإنّ هذه العمليّة تبقى محفوفة بالمهالك
أما من يعلّل هذا المسار بـ«الشرعيّة الثوريّة» و«قرار الشارع»، فهؤلاء يخلطون، بلا ريب، بين المفهوم التاريخي للثورة الاجتماعيّة وبين «الثورات الملوّنة» في العقدين الأخيرين، حيث تُرفد الحملات السياسيّة والانقلابات ببعض الاستعراضات الشعبيّة (كما حدث في مصر واوكرانيا السنة الماضيّة). الثورة تُسقط النظام، ولا تُطالب. هي اسمها «ثورة» لأنّها تقدر على جمع غالبيّة شعبيّة واضحة، وخلق حركة وطنيّة جارفة، وإطاحة النظام بلا شروط، والانفراد بالحكم. ولو كانت هذه العناصر حاضرة في سوريا، لما كنّا نخوض اليوم هذا النقاش.

في قول ما لا نريد سماعه

في المبدأ، وضمن حدود العقل والمنطق، فإنّ أقصى ما يمكن أن تُطالب به معارضة سياسيّة من نظام تسلّطي هو أن يسمح لها بالنشاط السياسي والتنافس الانتخابي بحريّة، وأن لا يلاحق النظام معارضيه ويجرّمهم، ويسجنهم وينفيهم ويقتلهم. أمّا أن يُطلب من النظام أن «يتنحّى» بإرادته حتّى تأخذ المعارضة مكانه وتبني الديمقراطيّة، أو أن يُشترط أن تطابق البلاد معايير «فريدوم هاوس» حتّى تعود احزاب المعارضة وتمارس العمل السياسي، وحتّى ترضى بألا تتعامل مع اعداء البلد، فهذا كلامٌ خارج مجال السياسة.
من الضروري أن نذكر هنا أنّه في أحسن الظروف، ولو قدّم النظام «ضمانات» و«تعهّدات»، فإنّ هذه العمليّة تبقى محفوفة بالمهالك. فالنظام قد لا يقيم انتخابات نزيهة، وسيستعمل هيمنته على الدولة حتّى يتحكّم بالعملية السياسيّة. وحتّى ولو تسامح مع معارضيه، كما فعل حسني مبارك لسنوات، فهو قد لا يكون في نيّته القبول بتداولٍ فعلي للسلطة على أيّ مستوى، وقد ينقلب فجأةً – كما فعل صدّام حسين في أواخر السبعينيّات – ويقرّر أن يعتقل ويعذّب معارضيه الذين كان قد أعطاهم الأمان. هو طريقٌ خطرٌ وبلا ضمانات، ولكنّه – سواء أحببنا ذلك أو كرهناه – الدرب الوحيد لمن يبتغي التغيير الديمقراطي عبر السياسة والسلم. هي شروطٌ صعبة ومجحفة للناشطين السياسيّين، لكنّها تبقى أسلم بما لا يُقاس للشعب السّوري ككلّ، والتاريخ يشهد.
على سبيل المثال، وفي الأيّام التي سبقت مؤتمر «جنيف»، كتب معارضٌ سوري في صحيفة «الحياة» مدافعاً عن ذهاب المعارضة إلى الحوار مع النظام، وهو أمرٌ كان لا يمكن تصوّره قبل أسابيع من عقد المؤتمر، وكان سيوصف من قبل كلّ الفصائل المهيمنة في المعارضة على أنّه فعلٌ خيانيّ: «... يدرك النظام أنه هو فقط من دون المعارضة السورية من سيُجبَر على تقديم التنازلات، ذلك أن المعارضة إياها لا ثقل حقيقياً لها... ولا تستطيع بالتالي تقديم ما ليس لها، بينما هو مضطر لذلك كونه... يتزّعم سلطة «شرعية» أبرمت اتفاقات دولية مع الأمم المتحدة، ولا مجال أمامه إلا تقديم تنازلات محسوسة لا يمكن فبركتها».
اطروحة المقال تحاجج بأنّه طالما أنّ المعارضة لا تملك شيئاً حتّى تتنازل عنه في المفاوضات، في حين أنّ النّظام ليس أمامه الّا تقديم التنازلات، فإنّ التفاوض هو حكماً في مصلحة المعارضة، بل هو «واجبٌ» عليها. هذا كلّه صحيحٌ وجميل، ولكنّه كان صحيحاً ايضاً، وبالمقدار نفسه، في أيّار 2012 وأيّار 2011، قبل أن تحترق سوريا ويتشرّد أهلها.
من السهل أن نكتفي بتعداد جرائم النظام، وقمعه للتظاهرات، وأفعاله خلال الحرب الأهليّة، وأن نفترض بأنّه، وحده، من يتحمل مسؤوليّة كل ما جرى في سوريا. هي سرديّة مريحة، وتنفع في الايديولوجيا، ولكنّها تحليلٌ رديء، يفترض عالماً لا وجود للفعاليّة البشريّة فيه إلا لدى النظام، وهو يجرّد المعارضين السوريين (نخبةً وقاعدة) من امكانيّة الخيار، فتصير كلّ أفعالهم «ردّات فعل»، طبيعيّة وميكانيكيّة، على خيارات السلطة. نحن هنا نتكلّم عن تاريخٍ فعليّ، وعلى قرارات اتّخذت، ومواقف أُعلنت، ورهانات سير بها، وتحالفات عُقدت، و- أيضاً - على خيارات واحتمالات كثيرة لم تُطرق وتمّ اقصاؤها واستبعادها. السّياسة، ان كان لها من معنى، فهي تدور في هذا النطاق. امّا «أخبث» السرديّات التبرؤيّة التي يردّدها الفاعلون السياسيّون اليوم فهي أنّ خياراتهم لم تكن، في الحقيقة خياراتهم، بل هم ببساطة قد ساروا خلف «الشعب». هنا مصادرة ايديولوجيّة مزدوجة: تستخدم «الشعب» (الذي ينطق دائماً من خلالك) حتّى تشرّع خياراتك وسياساتك، ثمّ تتنصّل منها وتعزوها اليه حين تتعثّر الأمور.
يحقّ للانسان أن يشتكي من مسار التاريخ، ولكن لا يحقّ له أن يستغرب حين يفعل المنطق البسيط فعله. هذا دأب من يهلّل لـ«غزوات» المعارضة المسلّحة على المدن والحواضر السوريّة، ثمّ يتباكى عليها بعد أشهر لأنها صارت خراباً وميدان حرب. حين تدعم، على سبيل المثال، حركةً سياسيّة يهيمن عليها «الاخوان المسلمون» السوريّون، الذين لهم ماضٍ في القتل الطائفي وكانوا حتى سنتين قبل الحرب (سنتان فحسب، نحن لا نتكلّم على تاريخ سحيق)، في تحالفٍ رسميّ مع ادارة جورج بوش - عبر «جبهة الخلاص الوطني» - بغية «تحرير سوريا» على الطريقة العراقية، فهل يحقّ لك، فعلاً، أن تتفاجأ وتُصدم حين تكتسب الثّورة ملامح طائفيّة ويسلك ممثّلوها الطريق الليبي؟
الأمر نفسه ينطبق على «محبّي» الشعب السوري في المنطقة العربية. كان من الطبيعي جداً أن تتّخذ القوى اللبنانيّة المواقف التي سلكتها خلال الحرب (وهذا ينطبق على جميع الأطراف). استبشرت حركاتٌ مثل «المستقبل» و«القوات» وغيرها، بالطّبع، حين ضربت الأزمة عدوّها اللدود، النظام الذي – في حالة «القوّات» على الأقل - حاربها وأذلّها وقتل عناصرها ووضع قادتها في السّجن. ومن البديهي أن ترغب هذه القوى اللبنانيّة في أن تأخذ الحركة الاحتجاجيّة في سوريا طابعها الرّاديكالي الأقصى، وألّا يصير حلٌّ ولا تهدئة، وأن تسلك الأمور درب النّزاع المسلّح (أوّل ظهور موثّق للسّلاح في سوريا، في حمص في نيسان 2011 ، كان مصدره – بحسب شهادات المعارضين - تيّار المستقبل في لبنان)، وأن تصطدم الثورة السوريّة مع حزب الله (منذ الأسبوع الأوّل للاحتجاجات، صرّح المعارض السّوري الأقرب الى تيّار المستقبل، مأمون الحمصي، بأنّ «حزب الله» هو من يقمع المتظاهرين في درعا). هذا كلّه منطقيّ ومتوقّع، ولكن المسألة هي أنّه لا علاقة لهذا الكلام، من قريب أو من بعيد، بمصلحة الشّعب السّوري ومستقبله.

حرب سوريا لم تحصل؟

قبيل واثناء حرب الخليج عام 1991، كتب الفيلسوف الفرنسي جون بودريار مجموعة مقالات، كثيراً ما أسيء فهمها، تحت عنوان «حرب الخليج لم تحصل». ما قصده بودريار هو أنّ كلّ من لا يتعرّف على الحرب عبر التجربة المباشرة، بل عن بعد، كالجمهور العالمي، لا يطلّع فعليّاً على الحرب التي تجري، بل على «تمثيلٍ» لها يخلقه الاعلام والتلفزيون والايديولوجيا. هذا التمثيل الاعلامي، يقول الكاتب الذي ألهمت أعماله سلسلة أفلام «المايتركس»، هو ليس مجرّد نسخ ونقل لما يجري على الأرض، بل هو يصير واقعاً موازياً ويكتسب حياةً خاصّةً به، فينفصل ويستقلّ عن الحياة المُعاشة، ويمدّك بسرديّته الخاصّة - المقرّرة مسبقاً - بغضّ النّظر عن الحوادث على الأرض (ديكتاتور مجرم يحتلّ بلداً آمناً، فيقوم «العالم الحرّ» بإنجاد الضحايا واحقاق الحقّ...)، وكلّ حدث لا يخدم هذه السرديّة ولا يندرج في سياقها لن يعرف به الجمهور.
من هذه الزاوية، فإنّ حرب سوريا لم تحصل ايضاً. هي، من جهة، من أكثر الحروب توثيقاً في التاريخ: سوريا تغصّ بالاعلاميين، محترفين ومتطوّعين، والتسجيلات المصوّرة تصلنا مباشرةً من ساحات القتال. ولكن حرب سوريا، في الوقت ذاته، هي من أكثر الحروب ضبابيّة وندرةً في المعلومات الموثوقة. نحن لا نعرف حتّى عدد ضحايا الحرب بالتحديد، ولا هويتهم، والأرقام التي تعتمدها الصحافة، كإحصاءات «المرصد السوري لحقوق الانسان»، لا تأخذ بها أيّ من المعاهد الجديّة الّا باعتبارها – كغيرها – «تقديرات». ما هو أفدح يتلخّص في أنّ المسار المقرّر والأهمّ للحرب، «الحرب السريّة» التي تجري خلف الكواليس، والقرارات التي تُصاغ في عواصم بعيدة عن دمشق، لن نعرف شيئاً عنها وعن ماهيتها حتّى عقودٍ مقبلة، حين تفتح الأرشيفات وربما لم يعد لهذه الحقائق قيمة.
ولأنّ النظام السّوري والحلف الاجتماعي الذي يمثّله يبدو، في هذه الأيام، المعسكر الرابح في الحرب، ولأنّ السرديّات الرومانسيّة عن الثورة الديمقراطية والمنتصرة صار من الصعب الدفاع عنها، يخرج اليوم – خصوصاً من بين أولئك الذين طبّلوا للحرب الأهلية، وجمّلوها وزيّنوها وأنكروها - كمٌّ هائل من «السرديّات المريحة». بعض هؤلاء المعلّقين والكتّاب أعلنوا ببساطة أنّهم، في ضوء مسار الأمور في سوريا، قد قرّروا «الانكفاء» وتجنّب التّعليق على الحرب. أي بمعنى آخر أنّ القضيّة لم تعد مناسبة ورابحة، وصار من الأجدى لهم الانتقال الى القضيّة التالية واسداء «خدماتهم» لشعوب عربيّة أخرى. هو خيارٌ قد يبدو اشكالياً من الوجهة الأخلاقية، ولكنّه يبقى أسلم، بالمعنى التكتيكي، من موقف من لا يزالون يصرّون على المفاضلة بين «الدولة» و«النّصرة» و«الجبهة الاسلامية» (أي بين السلفيّة الوهابيّة المعادية لأنظمة الخليج والسلفيّة الوهابيّة التابعة لها)، أو بين هذه المجموعات وبين أسوأها جميعاً ـ جمال معروف وأمثاله – في مقابلة أخيرة في صحيفة بريطانيّة، قال معروف بوضوح: «ما يطلبوه منّا (المموّلون الأجانب)، ننفّذه...». تخيّلوا أن تُسلّم رقاب الشّعب السوري ومصالحه العليا أمانةً إلى أمثال هؤلاء.
الحلّ هو ليس في «الانكفاء» ولا في التورّط في رهانات الحرب الأهليّة، بل هو يبدأ في اعتقادي بالتواضع وبفهم موقعنا الخطابي كمراقبين ومحدوديّة دورنا، وأنّ آراءنا لا تؤثّر على مجرى الحوادث، وأنّنا – في نهاية الأمر – «نكتب» لأننا لا نستطيع أن «نفعل».

خاتمة: عن السرديّة المنتصرة

كلّ سرديّة ايديولوجيّة تقوم – حكماً – على مصادرة للحياة المُعاشة والواقع اليومي، واختزالها في لازمات سياسيّة بسيطة ومانويّة، ومعارك واضحة بين الخير والشرّ. وقد يصل الاندماج الايديولوجي للانسان حدّاً يجعله يضفي اسقاطات رومانسيّة وعاطفيّة على عناصر السرديّة وابطالها، فيرى الواقع كما يريد أن يراه. البعض، مثلاً، وصل الى حدّ اعتبار أنّ مقاتلي المعارضة في سوريا الذين ينتمون الى الفئات الفقيرة والأرياف والأحياء الطرفيّة – تماماً كما جنود الجيش العربي السوري – هم «الهامش» في سوريا اليوم. كلّا، الهامش هو ليس التنظيمات المسلّحة، التي ينصبّ عليها اهتمام كلّ حكومات العالم ومخابراته، وتُنفق المليارات، من أجل تشكيلها واعادة تشكيلها، «الهامش» هم الملايين السبعة من السّوريين الّذين شرّدتهم الحرب ودمّرت حياتهم. هؤلاء لم يسألهم أحدٌ عن رأيهم، لا قبل «الثورة» ولا بعدها، وهم لا صوت لهم ولا تمثيل، الجميع يتكلّم باسمهم، وهم وحدهم من يدفع الثمن. للمناسبة هنا، القسم الأكبر من مأساة اللاجئين السوريّين كان يمكن علاجه فقط لو أنّ دول الخليج سمحت للسوريين الهاربين من أتون الحرب بالدخول اليها، والعمل فيها، والعيش بكرامتهم الى حين انتهاء الحرب. ولكنّ أغلب هذه الحكومات قد أمرت سفاراتها بوقف اعطاء أي تأشيراتٍ للسوريّين منذ بدء الأزمة، في أبلغ تعبير عن عمق «الأخوّة» والالتزام الانساني تجاه الشعب السوري. الزمن اليوم هو زمن السرديّات المريحة، واذا انتصر النظام والدولة في سوريا، فسوف تكون لهما سرديّتهما الظافرة ايضاً («حرب وطنيّة»، «تصدٍّ للعدوان الخارجي»، الخ...) وهي، اذا ما كانت فعّالة ومتقنة، فانّها قد تُساهم في اعادة رتق البلاد وتوحيدها بعد انتهاء الحرب. ولكنّها – ككلّ السرديّات المنافسة – سوف تقوم على تجنّب واخفاء الحقيقة البسيطة والمريعة التّالية، وهي أنّ السوريّين قد قاموا، وعلى مدى سنوات، بقتل بعضهم وتدمير بلادهم بأيديهم.
* كاتب عربي