اللبنانيون مدينون بالمازوت والكرامة، للرجال الذين يقفون وراء الباخرة الميمونة، لكننا جميعاً مدينون لهم بأشياء أخرى: بإسقاط العديد من مراوغات حجج الاستسلام!منظر شريان الشاحنات الذي امتدّ من سوريا إلى لبنان، فضح سخف فكرة «النأي بالنفس» و«الابتعاد عن محاور الصراع» التي يطبّل لها الإعلام المشبوه في بلادنا وكل بلاد يمتلك أعداؤها وسائل إعلامها والمجنّدين.
إن إنجاز الباخرة هو ثمرة «القرب بالنفس» الذي أبدته ايران للمقاومة اللبنانية، فدعمتها لتحيا، والذي أبدته مقاومة لبنان لإيران فلم تخجل أن تشكرها وتبين فضلها عليها وتدافع عنها.
وهو ثمرة «القرب بالنفس» بين المقاومة اللبنانية وسوريا. فرغم أن سوريا محاصرة من إمبراطورية الوحوش، ومن حقها أن تطلب شيئاً يسدّ رمقها مقابل تعاونها، إلا أنها لم تفعل ولم تضع أية شروط على التعاون، ومرّرت المازوت كله إلى لبنان.
لماذا؟ لأنه حين تعرّضت سوريا لخطر الدواعش، لم «تنأَ» المقاومة اللبنانية بنفسها عنها، كما كان يتمنى ويحرض المجندون والمخدوعون بالمجنّدين، ولم «تبتعد عن محاور الصراع» بل قفزت لنجدتها وقدّمت التضحيات والشهداء. لقد رأت المقاومة اللبنانية أنها ضحية للعدوان وهدف له، فكيف تبتعد ضحية عن «محور صراع» هي الهدف منه؟ تخيّلوا لو ساد بين شعوبنا شعار «النأي بالنفس»، وشقيقه «الابتعاد عن محاور الصراع»، كيف كنا سنكون ضحية سهلة لحصارهم ودواعشهم! تخيّلوا وعندها ستعرفون لِمَ يدفعون بكل أتباعهم للتطبيل لهذه المبادئ المسمومة ويروّجون «فضائلها» و«حكمتها»!
وأسقطت الباخرة وأبطالها عبارة «لا أخلاق في السياسة»، فها هي «السياسة» التي تولد من رحم الأخلاق، تأتي بأجمل شكل وأبهى صورة، وارثة جمال عيون «الأخلاق» التي ولدتها، وابتسامتها... وبيّنت أن «السياسة الخالية من الأخلاق» ليست هي السياسة الوحيدة الممكنة كما يدعون، مثلما أن «الإنسان بلا أخلاق» ليس هو الإنسان الوحيد الممكن، إنما هما مسخان قبيحان لما هو ممكن في العالم.
وأسقطت الباخرة وأبطال الباخرة عبارات أخرى طالما انتفخ بها «المثقفون» من مبرّري الاستسلام مثل «البراغماتية» (الاسم الدبلوماسي الملطّف للأنانية وقصر النظر)، فلم تتصرف المقاومة اللبنانية ولا الحكومة السورية بـ «براغماتية» لتحصلا على ما تستطيعان الحصول عليه في الموقف الآني وتنسيان المبادئ، بل نظرتا إلى المستقبل ورأتا مصلحتهما البعيدة في التعاون المتبادل الذي يُحسب بعيداً، ورأتا أن التضحية في وقتها، «مصلحة» أيضاً.
فبانتهاجها «القرب بالنفس» و«سياسة المحاور» و«السياسة الأخلاقية» لم تكن المقاومة اللبنانية تنتهج نهجاً تضحوياً أخلاقياً فقط، بل نهجاً عقلياً باحثاً بذكاء وشجاعة وبعد نظر، عن مصلحتها أيضاً!
كذلك أسقطت الباخرة المباركة المعنى الذليل لعبارة «السياسة فن الممكن» من ترسانة وعّاظ ضرورة الاستسلام للقوي، ونفخت فيها معنى الشموخ والإعجاز، فكشفت أن «الممكن» ليس تعبيراً عن المحدود والصغير، بل هو كبير وكبير جداً فوق خيالنا! وأن «فن الممكن» هو فن الوصول إلى تلك الذرى الشاهقة لـ «الممكن» ومساحته المذهلة! وبهذا قلب حدث الباخرة ومثالها، عبارة «السياسة فن الممكن» على أصحابها المبرّرين للخذلان، وستكون مع ذكرى الباخرة، سلاحاً بيد من يطالب الساسة بإنجازات لم يتخيّلها المواطن ممكنة!

وأخيراً، مرّت الباخرة الكريمة على جثث «لا تكن صلباً فتكسر» و«حقيقة واقعة شئنا أم أبينا» وعرّت مذلّة من يقف على «الحياد» بين مَن يقطع عليه أنفاسه ومن يمدّه بها، فكأنّ الباخرة، سيف ذو الفقار، يضرب به المقاومون المتخاذلين فيقيم مذبحة لعبارات تبرير الاستسلام، ويحرر الإنسان فينا من خدرها ليفيق شاعراً بالقوة والأمل... فلم نعد ندري هل خدمت الباخرة لبنان أكثر، أم نحن؟

*كاتب عراقي