تعدّدت الروايات التي أُطلقت على العملية الإسرائيلية لاستعادة رُفات الجنود الإسرائيليين المفقودة منذ عام 1982 وتحديداً في معركة السلطان يعقوب، بين الجيش الإسرائيلي والجيش السوري والمقاومة الوطنية. حيث تم قتل 20 جندياً إسرائيلياً وجرح 30 آخرين وأسر جنديين (تمت مبادلتهما لاحقاً)، وتدمير حوالى 20 دبابة واغتنام 8 منها في حالة سليمة من قبل الجيش السوري، إحداها لا تزال معروضة في بانوراما حرب تشرين التحريرية في دمشق، وواحدة أخرى استعادتها إسرائيل من بوتين عام 2016 بعد أن أهداها الجيش السوري لروسيا.
بداية القصة
عشية معركة السلطان يعقوب، تمكّنت المقاومة من احتجاز ثلاث جثث لجنود صهاينة هم: زكريا بومل، يهودا كاتس، تسيفي فيلدمان. وفي محاولة منّا لفهم ما جرى تعيّن علينا العودة إلى أحداث معركة السلطان يعقوب التي تقدّمت فيها المدرعات الإسرائيلية بهدف تعزيز حصار بيروت من جهة، والسيطرة على الطريق الدولية بين بيروت ودمشق لعزل القوات السورية والفلسطينية بين بيروت والبقاع من المصنع إلى ظهر البيدر. إلّا أنّ القوات السورية بقيادة العميد الركن علي حبيب قائد اللواء 58، تمكّنت من إيقاع الوحدات الإسرائيلية في كمين محكم فدارت معركة شرسة استمرّت لأكثر من 8 ساعات بلغت حدّ الاقتتال بالأسلحة البيضاء. بعد انتهاء المعركة التي شارك فيها كلٌّ من جيش التحرير الفلسطيني وقوات الصاعقة والمقاومة اللبنانية، تم جلب إحدى الدبابات الإسرائيلية المغتنمة محمَّلة بجثث الجنود القتلى للاحتفال في شوارع دمشق ومخيم اليرموك، وقد أُشيع وقتها أن العميد صلاح معاني رئيس الدائرة العسكرية في منظمة الصاعقة (تنظيم فلسطيني سياسي/عسكريّ مقرب من دمشق) في ذلك الوقت كان هو من يقود شخصياً هذه الدبابة لتختفي بعدها جثث الجنود وتبدأ رحلة البحث عنها. في نيسان/ أبريل من عام 2019 أعلنت تل أبيب استعادتها لرُفات الرقيب أول زكريا بومل بعد 37 عاماً من اختفائها، وهو أحد أفراد طاقم الدبابة التي استعادتها إسرائيل من روسيا عام 2016 بطلب مباشر وجّهته على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقد أُطلق على عملية استعادة الرفات اسم أغنية «الحلو المرّ»، بمشاركة عدة جهات أمنية إسرائيلية من خلال فريق متخصّص يُطلق عليه اسم (إيتانا). حاول الكثير توظيف هذه الحادثة كلٌّ بطريقته الخاصة وحسب مصلحته أو اصطفافه من دون أية محاولة لفهم الصورة الشاملة ومدى تعقيداتها وأبعادها والتفسيرات والاستنتاجات التي يمكن بناؤها من خلال هذه المعطيات التي باتت تتوفر لدينا على الرغم من السرية التامة التي تحلّت بها أجهزة الاحتلال الصهيوني؛ لأسباب واضحة تتعلق ــــ بحسب تصريح مسؤول الوحده لـ«هآرتس» وعلى التلفزيون العبري 12 ــــ بأن «كشف المعلومات الآن سيؤثر سلباً على إيجاد الجثث الأخرى»، ما يعني أن العملية ما زالت مستمرّة ويؤكد على هذا إعادة انتشار خبر مفاده أن روسيا ما زالت تبحث عن الجثث الإسرائيلية المتبقّية، وربما عن جثة الجاسوس الإسرائيلي الشهير كوهين أيضاً في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك وفي أماكن أخرى في العاصمة السورية دمشق.
منذ إنشائها في عام 1964، إثر ارتقاء شهيدين من كتيبة الاستطلاع السورية من مخيم اليرموك، حيث كانا في مهام رصد لتحركات الصهاينة شمال فلسطين بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، بدأت مقبرة الشهداء القديمة في اليرموك باستقبال الشهداء من أبناء الثورة الفلسطينية وقياداتها حتى عام 1979.
تتولى حراسة المقبرة مفرزة تابعة لجيش التحرير الفلسطيني وفيها متحف عسكري متواضع تعرّض إبان الأحداث الأخيرة في سوريا للنهب على أيدي مسلّحي المعارضة.

استعادة الرفات هاجس يؤرق تل أبيب لعقود
شغل موضوع استعادة رُفات الجنود حيزاً كبيراً في العقلية الإسرائيلية العسكرية والإعلامية. وظلّ ملف زكريا بومل وزميليه يحتلّ مكانة خاصة لدى تل أبيب ووحدة أيتانا التي عملت على مدى أكثر من 30 عاماً لاستعادتها. فبومل إسرائيلي من أصل أميركي كان والده يتمتّع بعلاقات واسعة في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وقد أمضى حياته منذ اختفاء ابنه محاولاً الضغط على الحكومة الإسرائيلية والأميركية والغرب لاستعادته، إلى درجة نجاحه في استصدار قانون أميركي عام 1999 وبمباركة بيل كلينتون للضغط على منظمة التحرير وسوريا ولبنان لإيجاد ابنه ورفاقه واستعادتهم بأسرع وقت، بل إنه وفي أكثر من مناسبة أعلن إضرابه عن الطعام ووجّه رسالة مفتوحة لبشار الأسد عبر جريدة «واشنطن بوست» لاستعادة ابنه، وذكر فيها أنه حصل على فيزا لثلاثة أشهر لزيارة سوريا ولم يستطِع القيام بذلك لصعوبة تأمين موعد مع أحد المسؤولين السوريين عن هذا الملف، ما أدّى إلى إيلاء هذه القضية أهمية كبيرة على المستويات كافة. وقد قامت أجهزة الأمن الإسرائيلية منذ التسعينيات بعدة محاولات عبر اتصالات عشوائية على أرقام الهواتف المنزلية لأهالي مخيم اليرموك، بهدف الوصول إلى معلومات عن الجثث عبر تقديم إغراءات مالية. وقد أُلقي القبض على أكثر من شخص حاول تقصّي معلومات عن الجثث من قبل قوات الأمن السوري، ومنهم دياب أبو الرز الذي تم إعدامه قبل الأزمة السورية بتهمة التعامل مع العدو في موضوع الجثث الإسرائيلية، وهو ضابط سابق مطرود من جيش التحرير الفلسطيني والصاعقة.
يبدو أن اتّجاه أنظار الموساد للبحث عن جثث لجنود العدوّ في لبنان كانت بناء على معلومة خاطئة من إحدى القيادات الفلسطينية، ليعود البحث و يتركز في دمشق


على مدى سنوات، عملت وحدة إيتانا بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كافة على جمع المعلومات وحصرها وتدقيقها، بدءاً بلبنان حيث حاولت تجنيد العملاء هناك وبالذات من أولئك الذين وُجدوا أثناء المعركة أو أثناء نقل الجثث أو دفنها، فكان من هؤلاء الذين نجح الموساد بالإيقاع بهم العميل زياد الحمصي رئيس بلدية سعد نايل سابقاً، والذي كان في الماضي مقاتلاً في منظمة الصاعقة في معركة السلطان يعقوب وله صورة على ظهر الدبابة المغتنمة. تم تجنيد الحمصي مطلع عام 2006 عبر إغراءات مالية تحت غطاء شركة تجارية عالمية وهميّة أنشأها الموساد الذي عمل على تزويده بأجهزة متطورة وخرائط وتعليمات لتحديد أماكن وجود جثث القتلى الإسرائيليين، قبل أن يتم إلقاء القبض عليه وإدانته بالعمالة بعد اعترافه عام 2008. ويبدو أنّ اتّجاه أنظار الموساد للبحث عن الجثث في لبنان كانت بناء على معلومة خاطئة من إحدى القيادات الفلسطينية، ليعود البحث ويتركّز في دمشق ويعود الملف إلى الواجهة خاصّة بعد تغيّر الظروف في مخيم اليرموك، حيث مقبرة الشهداء، والتي تقاطعت معلومات عدة عن وجود الرفات فيها من قِبل العديد من الكوادر الفلسطينية التي عادت إلى الأرض المحتلّة بموجب اتفاق أوسلو، وقد تعهّدت القيادة الفلسطينية ببذل كل ما في وسعها لإعادة الرُّفات لإسرائيل. وكان ياسر عرفات قد قدّم السلسلة العسكرية لزكريا بومل لرابين كبادرة حسن نية ليعود وينشط دور ماجد فرج رئيس الاستخبارات الفلسطينية في ملف مخيم اليرموك وملف الناشطين. وعلى ما يبدو، فإن رُفات إحدى الجثث المذكورة أو جميعها اختفت بعد وصولها إلى سوريا عام 1982، وجرى الادّعاء بدفنها في مقبرة اليرموك في دمشق لتقوم سوريا بتسليم أربع جثامين للصليب الأحمر الدولي عام 1983، ليتبيّن أنّ جثة واحدة فقط كانت لجندي إسرائيل، أما الجثث الثلاث الباقية فكانت لفلسطينيين.
وليُشاع على إثرها، بأن منظمة التحرير الفلسطينية قد قامت بصفقة أو شراء إحدى الجثث أو جميعها وإخفائها في مكان سرّي لا يعلم به أحد إلا عدد قليل جداً من الأشخاص، من بينهم ياسر عرفات نفسه.

نبش مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك للبحث عن الجثث
على إثر دخول الجيش الحرّ إلى مخيم اليرموك أصبحت مهمّة حماية مقبرة الشهداء تقع على عاتق أهالي مخيم اليرموك. وفي تلك الفترة، نشطت كتائب من المعارضة السورية (لواء أبابيل حوران) والتي كان لها وجود على الحدود الشمالية مع إسرائيل وفي مخيم اليرموك، ومن قادتها: علاء الحلقي الذي دخل إسرائيل مع قيادات أخرى مرات عدة. وكانت إسرائيل قد موّلت وسلّحت هذه القيادات وصولاً إلى إعلان جيش الجنوب الشبيه بجيش لحد في جنوب لبنان. وكانت أبابيل حوران بقيادة أبو توفيق الشامي في مخيم اليرموك قد حاولت أكثر من مرة نبش مقبرة مخيم اليرموك إلى حدّ التصادم مع الأهالي بسبب هذه الممارسات، تحت ذرائع البحث عن أسلحة وذخائر مخزّنة منذ عام 1982 داخل المقبرة، كما أنها نهبت المتحف العسكري في المقبرة. وكان يُعرف عن أبابيل حوران في المنطقة الجنوبية تمويلها المباشر من أحد شيوخ الإمارات، وقد تركت بعد خروجها من مخيم اليرموك إحدى قياداتها المحلية من أبناء المخيم أبو هاني الشمّوط الذي كان مسؤولاً عن المقاتلين الفلسطينيين في هذا الفصيل. وتجدر الإشارة إلى أنه متزوج من امرأة روسية وقد ساهم في المفاوضات التي أدّت للوصول إلى اتّفاق يقضي بخروج المسلحين من جنوب دمشق تحت الرعاية الروسية. وبهذا بقي الشمّوط ليلعب دور ضابط الارتباط الروسي في المنطقة الجنوبية، وهو أحد أهم الخبرات المحلّية التي يستخدمها الجيش الروسي في المنطقة لتنفيذ سياساته وعملياته الأمنية والعسكرية، ومنها البحث عن الجثث وتجنيد المرتزقة للقتال في صفوف الشركات الأمنية الروسية في ليبيا وغيرها من البلدان. توالت أطرف عدة على انتهاك حرمة المقبرة من أجل العثور على الجثث الإسرائيلية مقابل إغراءات مالية ولوجستية، فيما سُجّلت أكثر من حالة اعتقال كان آخرها لامرأة أُلقي القبض عليها على حاجز بيت سحم وبحوزتها كيس يحوي على عظام بشرية. لكن الغلبة في نهاية المطاف، كانت لقوات الجيش الروسي الذي عمل طيلة شهور على نبش مقبرة الشهداء في المخيم بعد أن قام بتطويقها ومنع أيّ من السكان المدنيين من الاقتراب منها، وذلك بعد أيام قليلة من خروج تنظيم داعش والنصرة من المخيم. لكن على ما يبدو، وبحسب تصريحات العميل المسؤول عن الملف على التلفزيون العبري 12 وصحيفة «هآرتس»، أنّ هناك معلومات مهمّة في ما يتعلق بمكان الجثة الإسرائيلية المحددة، وصلت قبل أيام من إعلان استعادة الجثة. ولعلّ هذا يوصلنا إلى معلومة مهمة جداً قد تم كشفها مؤخراً بناء على ضمانات تتعلق بالأمن الشخصي لصاحب المعلومة وخروجه من سوريا في شهر أبريل عام 2019.
تقول الصحافة العبرية وجريدة «واشنطن بوست» أنه وصل إلى مخبر تحليل الجثث في القدس أكثر من اثني عشر جثماناً، تم التأكد من واحدة فقط تعود لزكريا بومل أما البقية فتعود لشهداء فلسطينيين دُفنوا في مقبرة الأرقام الإسرائيلية دون أي حسيب أو رقيب، فيما انتُهكت حُرمة المقبرة خلال الفترة الممتدة من الـ2012 حتى الـ2021 أكثر من مرة.. من خلال النبش والتكسير على أيدي الدواعش والقصف المكثّف حيث بات من الصعب معرفة مكان القبور أو أصحابها
من المؤكد أن هذا الملف قد ساهم فيه أكثر من جهاز وأكثر من دولة وأنها كانت عملية بالغة المستوى من التعقيد والاحترافية والإمكانيات الهائلة التي وظّفها الكيان الإسرائيلي تحت ذرائع إنسانية وهي العثور على جثمان جندي ميت. لقد حققت إسرائيل مصالح استراتيجية في تدمير مخيم اليرموك وتصفية ناشطيه واستهداف المقبرة بشكل مباشر عن طريق عملائها ومرتزقتها، إضافة إلى اختطاف واحتجاز جثامين شهداء فلسطينيين آمنين.
* باحث وناشط فلسطيني

المراجع:
*الأخبار الأخيرة التي وصلت قبل أيام من شهر 4 2019 لتحديد مكان رفات بومل، وجثث فلسطينيين مع جثث أخرى دزينة
https://www.timesofisrael.com/for-the-idf-leaving-no-one-behind-is-more-than-a-mission/
*معلومات عن وحدة المفقودين في جيش الاحتلال وعملها على مدار السنوات
https://www.israelnationalnews.com/News/News.aspx/131628
*معلومات عن محاولة والد المفقود العثور على ابنه
https://www.syria.tv/%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D8%A8%D9%88%D8%B3%D8%AA-%D8%AA%D9%86%D8%B4%D8%B1-%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84-%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%AA-%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%86%D8%AF%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
*مكالمات ورسائل نصّية بدون اسم تصل إلى سكان المنطقة، «واشنطن بوست» ومعلومات عن أكثر من رفات والتحليل المخبري
http://www.haqeeqa.net/Subject.aspx?id=132997
*دور جهاز مخابرات السلطة في ملفّ الناشطين وأرشيف المقبرة وترميم مقبرة الشهداء
https://www.actionpal.org.uk/ar/post/15125/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%AA%D8%AF%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%82%D8%A8%D9%88%D8%B1-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%AF-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B1%D9%85%D9%88%D9%83
*الوثيقة المسربة عن مكان الجثث
https://www.israelhayom.com/2019/04/28/deal-for-remains-of-fallen-idf-soldier-zachary-baumel-complete/
* لا صفقة تبادل وإنما عملية استخباراتية شارك بها الموساد
https://www.enabbaladi.net/archives/167609
*جيش الجنوب وائل الحلقي ابابيل حوران
https://snacksyrian.com/%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D9%84-%D9%85%D9%86-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82/
*ابابيل حوران والخروج إلى درعا
https://www.almasdarnews.com/article/four-rebel-commanders-flee-to-israel-as-syrian-army-takes-over-quneitra/
*هروب الحلقي إلى اسرائيل
https://www.haaretz.com/.premium-prisoner-x-scuttled-israeli-mias-return-1.5241355
*الموساد في لبنان والبحث عن الجثث
https://www.reuters.com/article/oegtp-isr-aust-my5-idARACAE9B2EF420130507