يوم 17 أيلول/ سبتمبر 1978 كان استثنائياً في تاريخ منطقتنا. ففي ذلك اليوم كانت أميركا تشهد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و «إسرائيل». ظهر الرئيس الأميركي، كارتر في منتهى السعادة وهو يرعى تبادل الأحضان والقبلات بين أنور السادات ومناحيم بيغن أمام كاميرات العالم كله. كان ذلك مجداً شخصياً لكارتر الذي رأى جهوده المكثفة على مدى 14 شهراً من المفاوضات التي بدأت عقب زيارة السادات للقدس تثمر اتفاقاً ناجزاً سيخلّد اسمه كصانع للسلام الذي «أنهى النزاع العربي الإسرائيلي»، كما ظنّ. وعدا المجد الشخصي لكارتر فإن أميركا كلها، بدولتها العميقة وكونغرسها ومؤسساتها، كانت في حالة ابتهاج ونشوة وهي ترى الخروج الرسمي والنهائي لمصر من خيمة الدول «المعادية» ودخولها بيت الطاعة الأميركي الذي يضم «حلفاء» وتابعين ممّن يطلبون الرضى ويرون في أميركا ذخراً وسنداً وسيداً يستحق أن يطاع. ومصر ليست شيئاً بسيطاً. إنها ثمرةٌ كبرى تقطفها أميركا بعد جهدٍ جهيد بذله كيسنجر ونيكسون وفورد، وتابعه كارتر. مصرُ أكبر وأقوى بلد عربي، وذات نفوذٍ وتأثير في أفريقيا والعالم الثالثأ وكانت على مدى سنين طويلة أهم حليفٍ في الشرق الأوسط لعدوّها السوفياتي، والأهم من ذلك أنها كانت الحاضنة لفلسطين وقضيتها، الداعمة لثورتها، الحاملة لواءَها والمتصدّية لــ»إسرائيل» في آخر ثلاثة عقود، لم تبخل خلالها عن تقديم كل ما لديها من أجل القضية ودفعت من أجلها أغلى الأثمان. والصهاينة بدورهم كانوا أشد فرحاً ونشوةً وهم يرون عدوّهم الأصعب والأخطر، بلد جمال عبد الناصر، يتخلى عن فلسطين ويقبل لها بمجرد «حكم ذاتيّ « تحت ظل «إسرائيل» التي ستحصل على الشرعية والبقاء على أنقاض فلسطين ومقاومتها التي ستموت ولن تقوم لها قائمة بعد الآن. فتح السادات أبواب مصر لأميركا والصهاينة، مع إقامة قواعد عسكرية لهم وصفقات استثمارية وبيع القطاع العام، وصفّى تركة عبد الناصر داخلياً وخارجياً. ولذلك كله كانت ابتسامات كارتر العريضة وضحكاته المجلجلة مفهومة تماماً.ولكن القدر كان لكارتر بالمرصاد، ولم يمهله. إنها دورة الأمم والشعوب، صعودٌ هنا وهبوطٌ هناك، ولا جمود. ديالكتيك التاريخ، يقول الماركسيون، أو إرادة الله حسب المؤمنين. في 1 شباط/ فبراير 1979 كانت طائرة آية الله الخميني تهبط في طهران وسط حشود الملايين من الإيرانيين الذين اجتمعوا للترحيب بإمامهم وقائد ثورتهم في يوم الانتصار العظيم على نظام الشاه. أربعة أشهر فقط تفصل ما بين الحدثين. ما كادت أربعة أشهرٍ تمر على احتفاليّة كامب ديفيد وضحكات كارتر وبيغن في أميركا، حتى شخصت أنظار العالم إلى مكان آخر، بعيدٍ عن أميركا، لتشهد لحظة تاريخية لا تقلّ أهمية عن ما أنجزه كارتر في مصر، وإنْ في الاتجاه الآخر! كان نظام الشاهنشاه يتهاوى في إيران ويبزغ في مكانه نظامٌ ثوريّ جديد نقيضٌ له في كل شيء. لحظة فارقة في تاريخ المنطقة، سقوطُ إمبراطور وصعودُ إرادةِ شعب. وفي عالم السياسة الدولية واستراتيجيات القوى العظمى، إيران لا تقل أهمية عن مصر. فهي تضاهيها من حيث الحجم والمساحة والموقع الجغرافي والعُمق الحضاري. وإيران أيضاً ذاتُ نفوذ وتأثير كبير في المنطقة يمتد إلى خارج حدودها. ولذلك كانت خسارة كارتر فادحة والضربة التي تلقّاها قوية (إلى حد أنها أطاحت بمستقبله السياسي). ففي إيران كان الشاه محمد رضا بهلوي حليفاً عريقاً لأميركا ولـ «إسرائيل» منذ عشرات السنين، حليفاً موثوقاً مجرّباً فتح لهما أبواب إيران على مصاريعها وثبّت أقدامهما فيها، أمّن لهما النفط وتآمر معهما ضد عبد الناصر وحارب عدوّهما السوفياتي وحاول أن ينزع عن إيران ثوب الإسلام ويردها قوميّة كِسرويّة معادية للعرب. كانت إيران درّة تاج الإمبراطورية الأميركية في منطقتنا.
وبالعكس مما جرى في مصر من ردةٍ قومية ونكوصٍ عن قضية فلسطين وتراجعٍ عن دورها الإقليمي والدولي، فإن إيران شهدت نهوضاً ثورياً كان أكبر انعكاساته يتمثل في الموقف من فلسطين وقضيتها التي صارت في صلب عقيدة الجمهورية الإسلامية الناشئة، تتبنّاها وترفع رايتها داخل إيران وخارجها. قُضي في إيران على نفوذ أميركا وأدواتها، وتمّ التخلص من وزر العلاقة الشاهنشاهيّة مع «إسرائيل», والتحوّل كاملاً نحو دعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني مادياً وعسكرياً وسياسياً وفي كل المجالات، قولاً وفعلاً.
فكأنّ هذه بتلك! كأنّ إيران جاءت تعويضاً بدل مصر. فإذا كانت قضية فلسطين خسرت الكبيرة مصر، فهي قد كسبت الكبيرة إيران، وفي الوقت نفسه! إنها عينُ الله ترعاها وتأبى أن تترك فلسطين لتصير نسياً منسياً.
*كاتب وباحث من الأردن

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا