في كتابه «نظام التفاهة» (La médiocratie) يعيد الفيلسوف الكندي ألان دونو شرح المصطلح الفرنسي médiocratie، الذي لم يظهر إلا في عام 1825، وكيف تغيّر معناه من وصفٍ لقوّة الطبقة الوسطى، ليصبح لاحقاً مرادفاً لهيمنة الأشخاص التافهين، باعتبار أنّ هذه الهيمنة هي حالة سيطرة خلقتها الأشكال التافهة ذاتها، ضمن نظام اجتماعي تتمّ فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضاً عن الجدية والجودة. وفي معرض تحليله لكيفية وصولنا إلى سيادة نظام التفاهة على جميع مفاصل الدولة الحديثة، يشرح دونو العلاقة ما بين توسّع هذا النظام من جهةٍ، وهيمنة السوق (بكل أبعاده) وشعارات الديموقراطية والشعبوية وحرية الرأي من جهةٍ أخرى، ويكرّس فصولاً كاملة لدور الأنظمة الاقتصادية والإعلام وصناعة الرأي العلمي.وبالرغم من أنّ غالبية الأمثلة التي قدمها دونو مستقاة من الواقع الغربي، إلّا أنّ التشابه مع ما يحصل في بلادنا واضح لا ريب فيه، خصوصاً في ما يخص تكاثر منتحلي صفة «الخبراء» الذين أصبحوا، في ظلّ سيطرة التفاهة، مَراجع في الاقتصاد والمال والسياسة والعلوم... في العلوم تحديداً، ومع بروز أيّ أزمة ذات طابع علمي في بلادنا، ينشط «الخبراء» للإدلاء برأيهم، حتى في المجالات التي يفتقدون فيها للخبرة، أو حتى للمعرفة البدائية، ويتلطّون خلف شرعية مصطنعة استمدّوها من صفات من نوع «باحث» أو «مخترع» أو «عالِم»، إلى ما هنالك من ألقاب تبجيلية قد أُفرغت تماماً من مضمونها! والأمثلة على الدجل العلمي لا تُعد ولا تحصى... مثلاً مع ظهور وباء «كورونا»، بدا تكاثر الطفيليات العلمية أشدّ فتكاً منه ومن ضرره. فقد نجد شخصاً يحمل شهادة دكتوراه في الفيزياء أو الكيمياء (على سبيل المثال لا الحصر)، ولكنّه ينشر معلّقات عن الفيروس لم يتجرّأ على نظمها حتى أعتى المتخصّصين في علم الأوبئة، أو آخر يقحم نفسه مثلاً في نقاش عن الأسلحة البيولوجية، من دون أن تكون له أي علاقة عملانية أو معرفة عميقة في هذا المجال الحساس! وهذا غيض من فيض ما قرأه المواطنون أو شاهدوه، إن كان على وسائل التواصل الاجتماعي أو صفحات الجرائد وشاشات التلفزة. وأتى انفجار مرفأ بيروت الكارثي، ليجد «الدكاترة ــــــ الخبراء» فرصة إضافية كي يعبّدوا درب نجوميّتهم ولو على حساب مآسي المواطنين وآلامهم، ومن دون أي تقدير للتضليل الذي سينتج عن وجهة نظرهم المبنية على تكهّنات شخصية بعيدة عن البراهين العلمية (منهم مثلاً من يُصر على الإفتاء بكل ثقة في موضوع التفجير كما في موضوع «كورونا»!). هؤلاء يصنعون بهشاشة معرفتهم وتناقضاتهم المتكرّرة «رأياً علمياً» مزوّراً ومضلِّلاً، لن يعود علينا إلا بالمزيد من التفاهة الشاملة، ويساهمون في قتل ما تبقى من مصداقية العلميين الحقيقيين، ويبدّدون الأمل بعودة الثقة بالرأي العلمي المجرّد. في كلّ هذه الفوضى، لا بدّ من الإقرار بأنّ هذه «التفاهة العلمية» لم تكن لتُهَيمن لو لم تَستغل من جهةٍ الخلط الدائم والربط التلقائي بين مفاهيم عدّة مختلفة (وغير متلازمة)، مثل العلم والمعرفة والخبرة والشهادة الجامعية، ومن جهة أخرى الهوس المستفحل «بالتافهين» لتجيير أي حدث لمصلحة الشعبوية والتسييس.
فاليوم، لا يمكن لصفة «العالِم»، التي تُطلق باستسهال تام على كلّ من حمل شهادة جامعية عليا، أن تعني ما عنته مثلاً في أيام ابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم والرازي والكندي وغيرهم، والذين كانوا يجسّدون وحدة وتكامل المعرفة قبل أن تخضع، وفقاً لمنطق تقني ــــــ صناعي بحت، لتجزئة مستمرّة وصولاً إلى يومنا هذا، حيث قُسّمت العلوم إلى تشعّبات لا متناهية وإلى اختصاصات ضيّقة. وفي هذه النقطة تحديداً، يذكّر عالم الاجتماع إدغار موران بأنّ «تفريخ التخصصات وإغلاقها أكثر أدّيا إلى تشييء العلوم (chosification) من دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ أيّ موضوع علمي هو فعلياً مركّب ومستخرج من مواضيع أخرى متنوعة»... ولذا، فإنّ حامل شهادة الدكتوراه، مثلاً، هو شخص يعرف الكثير الكثير عن أقل القليل من مسألة لا يتعدّى كونها واحدة من ملايين (أو مليارات) المسائل العلمية الصغيرة التي تعالَج في ملايين أطروحات الدكتوراه حول العالم، وهو ما يعني حكماً عدم إلمامه بما لا يندرج ضمن حدود تخصّصه العلمي المنكمش بالإضافة إلى محدودية خبرته في الحقل المعرفي ككل، حتى ولو كان باحثاً لسنوات طويلة (أن تضع «د.» قبل اسمك لا يمنحك تفويضاً في كل العلوم، أن تحمل دكتوراه في مجال محدد من الكيمياء مثلاً، لا يعني أنك خبير في كلّ المجالات التي تصنّف ضمن حقل الكيمياء، وأن تكون باحثاً في الأمراض السرطانية لا يعني إلمامك بعلم الأوبئة، إلخ). وفي السياق نفسه، فإنّ علم الأدلة الجنائية علمٌ قائم بذاته ويستند إلى معطيات دقيقة ومتسلسلة، وبرغم كلّ التقدّم العلمي وتطوّر التقانات العلمية، إلا أنّ العلم يعجز في الكثير من الحالات عن الوصول إلى نتيجة نهائية مؤكدة. من يعود إلى عام 2001، وتحديداً إلى انفجار AZF في فرنسا، سيجد أنّ القضية أُغلقت بقرار يحفظ الدعوى رغم سنوات من التحرّي والبحث في أسباب الحادثة! أما التحقيق في تفجير أوكلاهوما، عام 1995، (وأطلق عليه اسم OKBOMB) فقد صُنّف الأكبر في تاريخ التحقيقات، حيث استمع المحقّقون لأكثر من ثمانية وعشرين ألف إفادة وجمعوا ثلاثة أطنان من الأدلّة وما يقارب مليار معلومة، قبل الوصول إلى حكمٍ مبرم. وهنا تبرز «تفاهة» من قفز من تحليل بدائي سطحي إلى استنتاج جنائي، من دون الركون إلى معطيات ملموسة ومن دون إبراز أي دليل قطعي يثبت ادعاءاته. كمية الترّهات التي سمعناها وقرأناها، خير دليل على تغلغل «التفاهة» في ذهنية من يعتقدون أنّ الشهادة الجامعية تخوّلهم أن يصبحوا في الوقت نفسه باحثين وعلماء وخبراء متفجّرات ومحققين جنائيين ومحللين سياسيين.
تتجلّى التفاهة الأخطر في الشعبوية وأدلجة العلم من دون أي اعتبار للثوابت التي تؤطّر العمل العلمي بعيداً عن تضليل الأيديولوجيات الاقتصادية والسياسية


أما التفاهة الأخطر، فتتجلّى في الشعبوية وأدلجة العلم، من دون أي اعتبار للثوابت التي تؤطّر العمل العلمي بعيداً عن تضليل الأيديولوجيات الاقتصادية والسياسية. من يقرأ قليلاً في التاريخ عن الليسينكووية (Lyssenkisme)، والتي أسس لها تروفيم ليسينكو، في منتصف القرن العشرين، سيعي خطورة فرض الأيديولوجيات (الفردية أو العامة) على النظريات العلمية. ليسينكو، مستغلاً في حينها هوية النظام الحاكم واللحظة التاريخية (موت الملايين في أوكرانيا نتيجة المجاعة)، نجح في إقناع السلطات العليا في بلاده بنظرياته التي بُنيت في غالبها على منطلقات أيديولوجية، كتلك التي تتهم علم الوراثة بأنه «برجوازي»، وزعم أنّه قادر على تحويل أي نوع نباتي إلى نوع آخر! تبوّأ ليسينكو أعلى المراكز العلمية وحظي بدعم سياسي قلّ نظيره، وصل إلى حدّ إبعاد وسجن وحتى إعدام معارضي نظرياته، وكانت نهايته عندما أطلق مشاريع عملاقة باءت غالبيتها بالفشل، وأدت إلى كارثة غذائية في بلاده.
علمياً، لم يكن ليسينكو معدوم المعرفة، بل كان له العديد من التجارب العلمية الناجحة، ولكنّه فشل عندما أخضع العلم لأهوائه وأصبح منذ ذلك الحين مصطلح الليسينكووية اختصاراً «للعلم الذي أفسدته الأيديولوجيا». في كل زمان ومكان، تنشط جحافل الليسينكوويين، ولكن تختلف أساليبهم وقصصهم وأيديولوجياتهم، تماماً كما هي الحال عالمياً وعندنا أيضاً. فمنذ الساعات الأولى التي تلت الانفجار (وقبلها مع ظهور «كورونا»)، غرق بعض «الخبراء» في الشعبوية على حساب الحقيقة، وأدلى كل «خبير» بتحليلات تحاكي توجهات من يتابعه من المواطنين (خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى مبدأ «ما يطلبه المستمعون»)، أو تتماهى مع الهوية السياسية للمحطة الإعلامية التي فتحت فضاءها له (وبواسطتها ينجح الخبير في دغدغة مشاعر جمهورها المتابع). لن تظهر عواقب الأدلجة على شكل كارثة ملموسة واضحة المعالم، كما حصل مع ليسينكو، ولكنّها تراكمياً ستتجلّى مع الوقت بمزيد من التسخيف الفكري للمواطن وتعميق الهوة بينه وبين العلم الذي سيبدو خاسراً في معركته مع الشعبوية
كيف وصلنا إلى هذا المستوى من هيمنة منتحلي صفة العلم والخبرة؟ الإجابة تستوجب أن نعدّد الأعطاب التي فتكت بعلاقتنا بالعلم، وأن نفنّد أسبابها المتشعّبة والمتداخلة. نحتاج، مثلاً، لدراسات في علم الاجتماع وعلم النفس، لتفسّر لنا كيف تحوّلت مجتمعاتنا عبر القرون، من تقديس «العلم» إلى تأليه «الألقاب»، وما علاقة هذا التحوّل بتركيبنا النفسي والثقافي والاجتماعي والسياسي وبتسليع المدرسة والجامعة والشهادة الجامعية، وكيف أصبح السعي للشهرة والجماهيرية أو المركز الاجتماعي (أو السلطوي) هو المحرّك الأول للكثير من «المتعلّمين ــــــ المتطفّلين»، وكيف طغت أدلجة العلم على المنطق العلمي (وطبعاً من دون إغفال دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي)... المؤكد أنّه في صلب كلّ هذه االشوائب والتحوّلات، يبرز ضعف الأنظمة التربوية في مكوّناتها الفلسفية والأخلاقية والبحثية، كأحد أهم الأسباب التي ساهمت في تهشيم المعرفة. مثلاً، كيف نتخرّج من المدارس والجامعات (بما فيها مرحلة الدكتوراه) من دون الغوص الجدي في الفلسفة وفلسفة العلوم والأخلاقيات ومنهجية البحث العلمي؟ من يراقب تصريحات «الخبراء»، يتيقّن أنهم لم يسمعوا يوماً بالأخلاقيات بشكل عام، وبأخلاقيات العلوم بشكل خاص، والتي تحتّم على من يحترمها أن لا ينتحل صفة الخبرة في كل المجالات، والأهم أن لا يقدّم شكوكه على أنّها الحقيقة الخالصة غير القابلة للنقاش (وخاصة في قضايا يختلط فيها الشق العلمي بالأمني والسياسي!). لو أنّ «الخبراء» الذين يؤكّدون الشيء وضدّه، التزموا مبادئ الأخلاقيات العلمية، لما أوصلونا للمقولة الساخرة «خبير واحد يعطي رأي وخبيران يدليان بتناقض وثلاثة خبراء يؤدون للحيرة التامة». ولهذا الخلل ارتباط وثيق أيضاً بعدم إدراج منهجية البحث العلمي كمادة إلزامية في كل المراحل التعليمية. فبرغم شهاداتهم الجامعية العليا، يفتقر هؤلاء «الخبراء» إلى أدنى القواعد العلمية والبحثية التي تحدد آليات الانتقال من اشتباه إلى استنتاج، وكيفية طرح الفرضيات ومناقشتها وفقاً لأدلة أو نظريات قابلة للبرهان أو حتى للنقض، وهذا مردّه أيضاً إلى أن مرحلة الدكتوراه تحديداً، باتت في غالبها مكرّسة لاكتساب مهارات تقنية بدل أن تكون فترة تأسيسية لتكوين باحث هدفه كشف الحقائق وفق المنهجيات العلمية السليمة (وهذا موضوع يحتاج وحده إلى دراسة موسّعة). أما المواطن الذي يتلقى تحليلات «الخبراء»، فهو أيضاً عاجز عن التحرّي عن صحّتها، أو حتى عن مدى اتّباعها للمنطق العلمي، لأنّه بدوره لم يحظَ يوماً، لا في المدرسة ولا في الجامعة، بفرصة للتعرّف جدياً على منهجية البحث العلمي التي تتيح له اكتساب الحس النقدي والقدرة على الاستدلال واستخراج الاستنتاجات. للأسف، يظنّ كثر أنّ منهجية البحث العلمي تعني كيفية القيام بتجارب علمية بغية إنتاج أبحاث، بينما هي في الأساس نهجٌ يرتكز إلى الموضوعية والعقلانية والمصداقية والتجرد والدقة والأخلاقيات، وإن لم نولِ هذه المبادئ المكانة اللازمة في كل مناهجنا فسنكون أمام المزيد والمزيد من الوضاعة الفكرية في بلادنا.
باختصار، إن لم تُواجَه هذه الطفيليات التي تغزو البيئة العلمية وهذا الدجل الذي يتلاعب بوعي المواطنين ومستوى ثقافتهم، فسنستحضر طويلاً ما أوردته المترجِمة د. مشاعل الهاجري في مقدمة النسخة المعرّبة لكتاب دونو، وهو قول لإخوان الصفا وخلان الوفا، وهم جماعة من فلاسفة القرن العاشر، جاء فيه ما بدا كأنه كُتب اليوم: «إنّ أشد بلية على الصناعة (أي التخصص العلمي) وأعظم محنة على أهلها أن يتكلّم عليها من ليس من أهلها، فيحكم في فروعها ولا يعرف أصلها، فيُسمع منه قوله ويُقبل منه حكمه وهذا الباب من أجل أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في المجالس ويتكلّمون في الآراء والمذاهب ويناقضون بعضهم بعضاً وهم غير عالمين بماهياتها فضلاً عن حقائقها وأحكامها وحدودها، فيسمع قولهم العوام ويحكمون بأحكامهم فيضِلون ويُضلون وهم لا يشعرون...».

* مديرة أبحاث في المجلس الوطني للبحوث العلمية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا