غربة؟تقف فيروز في الصورة، مبتسمة على غير عادتها، ويقف على مسافة آمنة منها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبدياً احتراماً يليق بالسيدة فيروز، لم يُبدِه، وهو يواجه السياسيين في لبنان أو وهو يملي أجندته على عموم اللبنانيين. ربما بعثت ابتسامة فيروز النادرة نوعاً من التفاؤل واستدعت أغنيتها المتأخرة «فيه أمل إيه في أمل». ربما فرح الناس بظهور فيروز المعروفة بعزوفها عن الإطلالات الإعلامية. وربما شعر بعض اللبنانيين بالفخر بسفيرتهم إلى النجوم، التي أصبحت كذلك سفيرتهم إلى زعماء الغرب، والتي تمثّلهم وتمثّل ثقافتهم بخير ما يمثّلها سياسيوهم.
فلماذا تلَقّى بعضُنا إذَن، وأنا منهم، الصورة كأنّها طعنة في الظهر؟ أو كما لو كنّا أهل جبال الصوان، في المسرحية الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، وهم ينتظرون غربة (فيروز)، ابنة مدلج الذي مات وهو يقاتل الغازي «فاتك المتسلط»، لتكمل مسيرة أبيها وتخلّصهم من المحتل كما وعدتهم الأسطورة والنبوءة، فتقع عليهم، كالصاعقة، الشائعة التي اختلقها رجال فاتك: «هربت غربة!».
لم نختلق فيروز المقاوِمة من عدم؛ فهي تأتينا من غربة جبال الصوان (1969، في مرحلة صعود الكفاح الفلسطيني المسلّح)، البنت التي عادت من المنفى لتقود مقاومة شعبها ضد الاحتلال، تحضّهم على أن ينبذوا الحداد واليأس وتصيح فيهم «غمر الطوفان الأرض، رجعوها اللي بقيوا، هدمت الحروب المدن، عمروها اللي بقيوا، استعبدوا الظلام الناس، حرروهن اللي بقيوا، بدنا نكمل المشوار، قلال، بيكون، بنكمل باللي بقيوا»؛ ومن ملكة بترا شَكيلا التي قدّمت ابنتها الوحيدة ضحية لكي لا تنتصر روما، في مسرحية فيروز المسماة «بترا» (في عام 1977، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية وعلى وقع الاعتداءات الإسرائيلية والتدخلات الأميركية، وعشية الاجتياح الإسرائيلي الأول).
وتأتي كذلك من غنائيات العودة، تبشّرنا بالعائدين الذين يحملون الرشاشات وبالغضب الساطع الذي سيهزم وجه القوة، وبأجراس العودة التي تستحثّنا أن نقرعها «الآن الآن وليس غداً».
ذهب كاتب «سيف فليشهر» بعدها إلى أقصى اليمين، وأعلن أنه «على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً» وعرفنا أنه حين قال «الآن الآن وليس غداً» قالها بنية التخلّص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لا بنيّة تحريرهم، وحتى الأخوان رحباني اللذان غنيا للعمل المقاوم واعتبرا نفسيهما من آبائه فنياً عندما كان ذلك رائجاً، لم يبرآ من مغازلة المعسكر الانعزالي أو من الاختباء وراء تعميمات يفهمها كل فريق كما يفهمها. أما فيروز فقد سمح لها تراثها وصمتها، ثم ثرثرة ابنها، بأن تظلّ في أعيننا رمزاً للمقاومة، فنختلق الحكايات عن خيار مزعوم بالبقاء في بيروت الغربية (بينما تحدثت حكايات أخرى عن تنقّلها ما بين بيتين أحدهما في بيروت الغربية والآخر في المتن الشمالي، في ما كان يعرف بالمنطقة الشرقية) وعن علاقات من باب التعاطف أو من باب الحماية الأمنية مع هذا التنظيم أو ذاك (ذاع مثلاً، من دون سند أو دليل، أنّ علي ذا العود الرنان كان من حركة أمل وأن الحركة انتبدته لحراسة بيت فيروز وكانت هي وزياد يعلمانه العود في أوقات الفراغ قبل أن يُقتَل في أحد المعارك، ولكن زياد الرحباني في أحد لقاءاته قال إن كل الحكايات المرتبطة بهذه الأغنية محض خيال) ونصدّقها حين تقول: «ولا الشهدا قلّوا، ولا الشهدا زادوا، وإذا واقف جنوب، واقف بولاده»، أو نفرض على اللحظة المزيد من المعاني والرموز، وهي تقدم البروفة النهائية لإعادة مسرحية «صح النوم» في بعلبك، بينما الطائرات الإسرائيلية تحلق فوقها منذرة ببداية حرب تموز 2006 (1)، وكأن التاريخ نفسه يأبى أن يضع عن فيروز تلك التركة الثقيلة التي تحملها إياها مخيلتنا.
إلا أنّ رمزية فيروز الوطنية لا تقتصر على هذا الربط، الحقيقي أو المزعوم، بينها وبين المقاومة بل تتعدّاه إلى ميلاد لبنان في الخيال، فكأنّ ماكرون حين عمد إلى أخذ صورة معها كان يعلن أنه يريد أن يلد لبنان من جديد.

لبنان الحقيقي جايي؟
كنت أقول لأصدقائي في لبنان مازحاً، بالذات كلّما ساءت الأمور، إنني أكره الأخوين رحباني، فيقولون لي: «ألأنهما اختلقا لبنان الحلم» فكنت أزيد: «ولأنهما جعلا ذلك الحلم جميلاً».
تستند كل هوية وطنية، مهما كانت، على وطن متخيّل تنتجه ثقافتها وفنونها إنتاجاً؛ وفي لبنان لا شك في أنّ اللذين اختلقا لبنان الوطن من دون منازع هما الأخوان رحباني، وأنّ الكذبة التي اخترعاها كانت أصدق من كل فبركات المؤرّخين والساسة «والآباء المؤسّسين» (2) (وهما اللذان قالا في سياق آخر «الكذبة مش خطية» ثم قال أحدهما في سياق ثالث: «والكذبة حلوة متل الصبية» وهما اللذان ناقشا في مسرحية المحطة كيف تصبح الكذبة حقيقة حين يتوافق الناس حولها حتى إن «الانتظار خلق المحطة وشوق السفر خلق التران [القطار]» وقالا في بياع الخواتم بأن الحقيقة والكذبة يختلق بعضهما البعض «واحد فينا الحكاية وواحد مانوش حكاية، قولك أنا الحكاية، وهو مانوش حكاية»). وكانت الحكايات عن لبنان مُعادٍ من قبل مولده للعثمانيين محصورة طائفياً، حتى جعلا منها حكاية وطنية في فيلم «سفر برلك» وكانت المعارك المناطقية ما بين فخر الدين المعني وخصومه لا تمثل ميلاداً لأي شيء سوى في أعين قلة من المؤرّخين الانعزاليين (طائفياً وقُطْرِيّاً) حتى عمد الأخوان رحباني إليها وخلقا منها مسرحية ملحمية تنتهي بالإعلان أن وطناً سيولد من هذه التضحيات «ساكن عاطراف المعاول، ساكن بزراريع الحطابين»، «واقف عابواب القناطر، جايي مع هبات الأشعار»، «طالل من كتب المدارس، وبده يخلق بقصص الولاد» وتختتم «وطني صار، وطن الوعد ووطن الجوهر!»
في لبنان لا شك في أنّ اللذين اختلقا لبنان الوطن من دون منازع هما الأخوان رحباني


إلا أنّ دور الرحبانييْن تعدّى صياغتهما الموسيقية والمسرحية أو السينمائية للخرافات التأسيسية اللبنانية إلى صياغة الوطن ذاته. ففي مقابل لبنان الجغرافي، هناك لبنان مجازي يعرفه اللبنانيون وكل العرب من خلال أغاني فيروز: موسيقى الرحابنة ترتبط عندنا بنسيم جبل لبنان رأيناه أم لم نره، ولا نسمع موسيقى «مونامور» إلا وتذكرنا أغنية فيروز المقتبسة منها «لبيروت» وكلما سمعنا إحدى الأغنيتين تخيّلنا أنفسنا في مكان ما بين الحمرا وكورنيش الروشة في مطلع الثمانينيات وصوت القذائف في الخلفية، ومن قبل أن نرى لبنان نعرف التلال والصخر والوديان و«صوت النهورا ينده الغياب... وصحاب عم بتقول نحنا صحاب». وحتى عندما كانت تنقطع الكهرباء، ويتراشق المسلّحون بالنيران في الشارع المجاور، والماء لا يأتي إلا خيطاً مالحاً، والرطوبة لا تطاق، كنّا نتذكر أنه «هون السما قريبة».

بعدا جبال الصوان؟
لم ينفصل إنتاج الرحابنة للبنان عن إنتاجهم لفيروز المقاوِمة، ولكنهم ألبسوها ثوباً فضفاضاً ليتشكل في أعين كل فريق سياسي على هواه. اتهمهم النقاد بأنهم بالغوا بالشعارات الفجة والزاعقة والمباشرة، إلا أنهم كانوا أذكياء بما يكفي لأن يقدموا كل ذلك من خلال رموز فضفاضة يفهمها كل فريق كما شاء. وإن كانت جبال الصوان تمثل لنا المقاومة (وقد بالغ فواز طرابلسي، على طريقته في لي أعناق الحقائق لتناسب هواه السياسي، في ذلك فادّعى أن جبال الصوان هي «فلسطين في فن فيروز والرحابنة») ففي مصطلحات «الجبال» و«الصوان» ما يغازل مخيّلة الانعزاليين اللبنانيين عن هويتهم؛ وحتى في خضم تحريض غربة / فيروز على المقاومة لا تنسى أن تلقي بإيماءة لجمهورها الانعزالي فتقول: «اللي مطرود مانه ضيف، حامل حزنه معه، وحامل الحزن بيهربوا منه الناس، بيخافوا يعديهم» وعن الذين يقاومون من خارج بلادهم تقول: «اللي بيحاربوا من برة بيضلوا برة، المصدر جوة».
هذا الأمر بالذات سخر منه زياد الرحباني في مسرحية شي فاشل التي تستعير مصطلحات جبال الصوان وتجعل منها أضحوكة، ويقدم نسخة هزلية من أبيه وعمه وهما يحاولان تقديم عرض مسرحي يرضي الهوى السياسي لبيروت الغربية والشرقية سواء ويضيفان مقاطع عن الجنوب والمقاومة حين يقدمان العرض في بيروت الغربية بينما يتحدثان بتعميم عن الغرباء حين يذهبان إلى المنطقة الشرقية أو يتحدثان مع ممثلي الصحف الانعزالية. طبعاً هناك باب للجدل في ما إذا كان زياد قد ظلم أبويه بهذا الكاريكاتور (وفي رأيي أن زياد لا ينقطع هنا عن تراث عاصي ومنصور وفيروز ولكنه يبني عليه شيئاً مضاداً له؛ ولهذا لا أتفق مع متعصبي زياد الذين يريدون إعلان ولائهم له عن طريق نبذ وازدراء تراث عاصي ومنصور) إلا أننا في هذا السياق يمكننا أن نقرأ مباشرة زياد وجنوحه إلى مواقف سياسية قد تكون مبالغة في وضوحها في بعض الأحيان، كرد فعل على تعميمات أبيه وعمه. هذه الضبابية الرحبانية تجعلنا قادرين على أن نقرأ مسرحية بترا، وصراع بترا البلد الصغير الذي يقاوم، مع روما «الإمبراطورية المجنونة» التي تتوسع على حساب شعوبنا وحرياتنا، في سياق المواجهة مع الإمبريالية الأميركية، فنتحمس حين تصيح الملكة شكيلا في روما: «انتو الحرب العدد القوة نهر العسكر نبع الخيل، نحنا الحق ودمع الناس أمل الناس والحرية وغناني الأجيال، وضحكات الأطفال» أو نؤمّن سراً حين تقول الملكة: «روما، رح تلحقك لعنة الشعوب المقهورة والمدن المحروقة، رح يجي يوم تهدمي حالك وتنتحري، رح تتشلعي من جوة وتصير كرومك نهب الطرقات. أنا شايفة الخيل اللي جاية من بلاد البربر وسهول المغول عم تصهل بقصورك [إذا مش اليوم] بعد مية سنة. بعد ألف سنة. إلا ما تدعوسك مركبات الإيام والناس اللي جايين، وتنكسري متل الشجرة، تنكسري متل الشوكة قدام الريح».
هذه الضبابية، وهذا الموروث المقاوم المقحم والأصيل في آن، يجعلاننا كذلك قادرين على أن نستحضر، بأثر رجعي، وعقب استشهاد هادي نصر الله كلمات ملكة بترا الأخيرة في المسرحية: «تعبك للناس، فرحك للناس، أولادك للناس، يا ملك المتوج عقلوب الناس» وتجعلنا قادرين كذلك، في أعقاب حرب الـ2006 ـــــ أو ما تلتها من مواجهات حاربت المقاومة فيها على جبهات داخلية ـــــ أن نردّد مع شَكيلا ــــــ فيروز «يا سيد النصر، وقف الساعة اللي جاية، لو تعرف شو كلف النصر، إشيا انقالت، إشيا ما انقالت، وبعدا ورا الدمع مخباية» (3). النص الرحباني، ومشروع فيروز والرحابنة الغنائي، فضفاض من البداية يسمح لنا أن نسقط قراءاتنا الخاصة عليه ويسمح لغيرنا أن يستلبه في مشاريع معادية للمبادئ التحررية التي غنّت لها فيروز، وفيه من النبوءة ما يجعله صادقاً، وفيه من الكذب ما يجعلنا قادرين على أن ننسج منه حكاياتنا نحن.
هذه الإحالات، وإن بدت عارضة ومقحمة، فهي ضرورية، أولاً لتوازننا النفسي أمام هجمة الصورة الاستعمارية، وثانياً لمشروعنا الثقافي الوطني ما دامت فيروز جزءاً أصيلاً منه. المسألة هنا ليست مسألة وضع الرموز والإحالات في مقابل الرموز والإحالات، أو اجترار المخزون الوطني الذي احتوته أغاني فيروز أو الذي فرضناه عليها. جوهر المسألة أن صورة ماكرون مع فيروز، إلى جانب صورته وهو يحتضن، بحنان وحزم والتأثر في عينيه، إحدى المتظاهرات في شوارع بيروت في أعقاب انفجار المرفأ، وصورته على رأس الطاولة والسياسيون اللبنانيون يلتفون حوله؛ هي كلّها جزء من الحملة الدعائية لتجميل دور فرنسا في لبنان، الذي يهدف بدوره إلى تجميل المشروع الاستعماري الأميركي لضمان أمن إسرائيل، ويضفي عليه وجهاً «حنوناً».
المسألة إذن ليست حصول أي فنانة، حتى وإن كانت فيروز التي جعلنا منها «أيقونة»، على تكريم من سياسيي الغرب؛ فيروز نفسها حصلت على أوسمة من ميتران في عام 1988 ومن شيراك في عام 1998 بل إنها غنّت، في حفل باريس 1979 التاريخي، «باريز يا زهرة الحرية يا دهب التاريخ يا باريز». ولكن المسألة هي أن اللقاء هذه المرة يأتي ضمن مساعي ماكرون الاستعمارية؛ المسألة هي توظيفه لصورة فيروز، التي تمثل لنا الكثير، في هذه المساعي.
فطن موظفو الدعاية والعلاقات العامة الفرنسيون إلى رمزية فيروز وما قد تحمله صورة لرئيسهم معها من قيمة وتأثير، ولكنّهم ربما لم يفطنوا إلى مدى قسوة ما فعلوه إذ عمدوا إلى أيقونة وطنية فاستلبوها وجنّدوها من دون أن تدري هي في مشروعهم، وكأنهم ينتقمون من تراثها أو كأنهم أعوان فاتك المتسلط في جبال الصوان وهم يتآمرون وينذرون «غربة بالنسبة إلهن، تاريح الدم والندر، لازم تتصغر بعيونن، تتهدم قدامن، قبل ما تصحوا شي يوم، وهني عم بينضفوا سلاحاتهن».
ثمة شائعات لا دليل عليها، عن أن فيروز تحدثت لماكرون عن الأسير اللبناني في السجون الفرنسية جورج عبد الله، يقابلها غضب لأنها لم تذكر جورج عبد الله، أو لأنها ارتضت أن تجتمع مع المستعمر، وتلتقط معه الصور، وتبتسم على غير عادتها.
أما نحن، وبغضّ النظر عمّا قد تكون فيروز الحقيقية قد قالته لماكرون، فلنا أن نصر أن فيروز التي في مخيّلتنا لا يمكن أن تكون قد قالت لماكرون وللمشروع الاستعماري الذي أتى به سوى ما قالته غربة لفاتك في مسرحية جبال الصوان: «شو بدك تقتل تا تقتل ما بقى رح تخلص القصة؛ ورا كل صخرة، تحت كل شجرة، بفية كل بيت، عم يخلق ولد لمدلج».

المراجع:
1ـ هذا الوصف ليس من قبيل المبالغة فقد كانت الطائرات تحلق بالفعل في أجواء البقاع الغربي وقد حكى لي بعض من حضروا هذه البروفة، التي كانت مفتوحة لجمهور محدود، كيف أن صوت الطائرات الإسرائيلية كان يقطع صوت المغنين والممثلين. لم يُقدم العرض الرئيي في بعلبك لأن الحرب الشاملة قامت في اليوم التالي، ولكنها تأجلت لتقام في مسرح البيال في وسط بيروت في ديسمبر-كانون الأول 2006، في وقت تصادف مع بداية الإضراب العام الذي قاده تحالف المعارضة آنئذ (حزب الله- التيار الوطني الحر) لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة؛ وفي تواصل مع إدارة المسرح في هذا اليوم قالوا لي بأن لا شيء أقل من إنزال إسرائيلي في بيال سيمنع الرحابنة من تقديم هذه المسرحية في هذا الموعد. وكان العرض، واكتسب رمزية إضافية بحديثه عن الوالي الغارق في النوم والجموع والقوى السياسية في الخارج ومن بينهم قسم كبير من ورثة الرحابنة أنفسهم ومن معدي العرض، يطالبون بإسقاط رئيس الحكومة فؤاد السنيورة؛ وصفق المشاهدون بحماس زائد وضحكوا حين كانت قرنفل (فيروز) تصيح من قاع البئر «دولتنا خشب ما بتغرق».
2ـ يُستخدم هذا المصطلح، المستعار كما هو واضح من الخرافة السياسية الأميركية، في بعض الأدبيات اللبنانية، للتغطية على أن للبنان، على المستوى الفكري والنظري، أباً مؤسساً واحداً هو ميشال شيحا الذي كان يقطر عنصرية ضد العرب والمسلمين والذي كان على استعداد أن يقبل بلبنانية عبد الحميد كرامي، ومن ورائه سنّة الساحل، فقط لأن ملامح كرامي الشقراء تدل على أن أصله من أهل شمال الجبل «المردائيين/المردة» لا من العرب. طبعاً هذا الدور تلقّفه من بعده شارل مالك الذي حاول أن يجعل من لبنان رأس حربة للمشروع الأميركي في وجه المشروع العربي الوحدوي والنظام الناصري، ففشل فشلاً ذريعاً وأطيح به وبمعلمه كميل شمعون، بثورة شعبية، فشارك بعدها مع ساسة وأدباء انعزاليين وطائفيين (من بينهم سعيد عقل، صاحب «سيف فليشهر» ذاته) في تأسيس «جبهة الحرية والإنسان» التي عُرفت بالجبهة اللبنانية والتي أدخلت لبنان في الحرب الأهلية وابتدعت القتل على الهوية قبل أن تجاريها فيه بعض أحزاب «الحركة الوطنية».
3ـ في كتابه آثار استعمارية يناقش جوزيف مسعد هذه المشاهد نفسها في سياق اختلاق الهوية الوطنية الأردنية، وخاصة قد قُدمت هذه المسرحية في عمان بحضور الملك حسين. ومنذ قراءتي لهذا الكتاب وأنا في جدال، ما بين الجد والهزل، مع جوزيف مسعد عما إذا كانت بترا في المسرحية هي الأردن المتخيل أم لبنان المتخيل. النقطة الأساسية هنا ليست الانتصار لهذه القراءة أو تلك، وإنما تحليل النص الرحباني كنص فضفاض يتحمل كل هذه القراءات والإسقاطات، ويمكن تقديمه في مهرجان رسمي أمام الملك حسين ليترجمه أنصار الوطنية الأردنية والعرش الهاشمي على هواهم، كما يمكن أن يصبح منشوراً دعائياً داعماً للمقاومة ومعادياً للإمبريالية.

* باحث عربي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا