تقوم مشروعية السؤال أعلاه على رزمة من المعطيات كانت قد برزت بقوة في الآونة الأخيرة، وهي في مجملها تشير إلى أنّ ثمة «طبخة» يجري إنضاجها بعيداً عن الأضواء، وعنوانها العريض هو قيام «سوريا حيادية» كبديل وحيد للخروج من الأزمة التي دخلت قبيل ثلاثة أشهر عامها العاشر، من دون وجود أفق للخروج من نفقها المعتم الذي استعاد في مطلع هذا العام ـــ ثم جدّد استعادته تلك مؤخراً في غضون الأيام القليلة الماضية على إيقاع دخول قانون «قيصر» حيّز التنفيذ ـــ قتامته التي ظهر عليها، خلال عامي 2012 ـــ 2013، والفرضية ـــ الطبخة هنا تستمدّ مشروعيّتها من نقطة استنادية أساسية، مفادها استحالة أن تستطيع قوة خارجية بمفردها ـــ أياً يكن ثقلها ـــ فرض تسوية سياسية يكون من شأنها إنهاء الأزمة. صحيح أنّ مؤشر تراتبية القوى الفاعلة في الميدان السوري يشير إلى رجحان الكفة الروسية، لكن يبدو ظاهراً بشكل جليّ، أنّ الولايات المتحدة ماضية بإصرار، نحو تعزيز إمساكها بالعديد من الأوراق ضماناً لحجز دور لها في أية تسوية مفترضة. ثم إنّ العديد من الدول الإقليمية الفاعلة، مثل تركيا وإيران والسعودية، تبدو جاهدة هي الأخرى في تفعيل مؤثّراتها للحصول على جزء من «الكعكة» السورية، وهي في مجملها، وإن كانت غير قادرة على رسم أطر للتسوية ـــ أو جزء منها على الأقل ـــ لكنّها بالتأكيد قادرة على ممارسة فعل العرقلة، الذي يحدّده العديد من الخيوط التي تمسك بها ومدى متانتها.
شيرين نشأت ــ إيران

أمّا المشروعية الداخلية للفرضية سابقة الذكر، فمستمدّة من صعود تيارات ليبرالية، هي من حيث التكوين تتمتّع بقدرة لافتة على التكيّف مع مطالب الخارج الذي يرى فيها هو الآخر امتداداً طبيعياً لأجندته ومصالحه في المنطقة. هذا الصعود يمكن لحظه بقوة، منذ سقوط بغداد عام 2003، ثم تجذّر وقوِي عوده في أتون الأزمة السورية البادئة ربيع عام 2011. ومن بعيد، يبدو أنّ معقد الآمال يمنح مشروعيّته هنا، من أن يستطيع فعل الإسناد الخارجي تعويض النقص الحاصل في القدرة التي يتمتّع بها ذلك التيار، في مواجهة جبهة مناهضه يبدأ طيفها عند القوميين، ثم يختم عند الإسلاميين، مروراً باليسار بكل تشظّياته.
عانى الكيان السوري، منذ ولادته بشكله الراهن عام 1921 ـــ وفقاً لتشخيص العديد من مفكريه ـــ من ثلاثة أنواع من القلق، أوّلها قلق التكوين المتوّلد بفعل فقدان الجسد الأم للعديد من أعضائه، بسكّين «سايكس بيكو» عام 1916، والتي نتج منها ولادة كيانات ثلاثة هي، لبنان والأردن وفلسطين. في ما بعد، سيتعمّق هذا النوع من القلق بفقدان لواء الإسكندرون عام 1939 لصالح تركيا، ثم مرتفعات الجولان التي احتلّتها إسرائيل عام 1967. وثانيها، قلق جيوسياسي ناجم عن وقوع الكيان في خضم منطقة مضطربة تمتد من باكستان حتى المغرب، لكن النصيب السوري من هذا الفعل كان هو الأكبر، قبيل أن يضيف إليه سببان آخران قوة ضاغطة شكّلت مدعاة للتوتر الدائم: أولاهما، قيام دولة إسرائيل عام 1948، الأمر الذي كان شديد الوطأة على المنطقة برمّتها، إلّا أنّه كان أشدّ وطأة على الكيان السوري تحديداً، فإذا ما كان ممكناً عزل مصر جغرافياً عن الصراع، عبر إجبارها على الانكفاء وراء حدودها، الأمر الذي تحقّق ما بعد عام 1979 في «كامب ديفيد»، فقد كان من المستحيل عزل سوريا عنه، لأنّها موجودة فيه بفعل عوامل التاريخ وعوامل الجغرافيا؛ وثانيهما الجوار التركي الحائر في تحديد لبوس مناسب له، ما بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية عام 1918 وسقوط دولة الخلافة عام 1923، فخلال أقلّ من قرن، جرّبت تركيا العلمانية، ثم الطورانية، فالإسلامية، وصولاً إلى الأردوغانية التي مثلت مزيجاً من هذه الأخيرة مع العثمانية. وفي الآن ذاته، كان الجواران الأردني واللبناني قد مثّلا عاملَي ضغط في مراحل عدة، ناهيك عن أن استقرارهما كان ناجماً عن تقاطع مصالح إقليمية ودولية، غالباً ما كانت تُرخي بظلالها الثقيلة على المشهد السوري، فيما الضفّة العراقية كانت أكثر اضطراباً وتأثيراً، من حيث قدرتها الواضحة على تصدير فعل الاضطراب في مراحل عدّة، حيث سيمثّل تصدير شحنتها الأخيرة المتمثلة بـ«النخر الكردي» البادئ ما بعد ركوب الأكراد السوريين موجة القرار 2170 الصادر عن مجلس الأمن في 15 آب/ أغسطس 2014، خطراً متحفّزاً ـــ بل جاثماً ـــ في آن واحد. والمؤكد أنّ تحوّلات الأكراد السوريين التي بدأت مع هذا التاريخ الأخير، كانت تستمدّ فعل التأثير من خزّان «حزب العمّال الكردستاني» القابع في جبال قنديل شمال العراق، بل من الممكن الجزم بأنّ كلّ السياسات التي اتّبعتها «الإدارة الذاتية»، اليوم، كانت بإشراف تلك القيادة التي صدّرت إلى شرق الفرات كوادر أمسكت بدفّة صناعة القرارات على جميع الأصعدة. أما القلق الثالث، فيتمثّل في اضطراب النسيج المجتمعي السوري الذي فرضته فسيفساء تحوي في زراكشها أربعاً من القوميات، وست عشرة من الطوائف والمذاهب والأديان. ولا تشكّل، هنا، تجربة التعايش السورية القائمة على امتداد آلاف السنين عاملاً مُلغياً لحقيقة أنّ التركيبة ظلّت ـــ ولسوف تظل ـــ حاملة لشروط البركان، مع إمكان مغادرة هذا الأخير لحالة الكمون كلّما اهتز العقد الاجتماعي القائم.
ثالوث القلق هذا، سوف تظهر تراسيمه لاحقاً في العديد من مفاصل التجربة القائمة منذ ولادة 1921، بل من الممكن تلمّس مدى «الألم» الدفين الذي يستولده ذلك الثالوث، في غرف صناعة القرار السياسي لذلك الكيان.
مضى الكيان السوري ما بعد الاستقلال ـــ شأنه في ذلك شأن باقي الدول العربية ـــ نحو ربط نفسه، أو التسليم بعملية الربط، مع النظام العالمي، وشيئاً فشيئاً، راحت عجلات دواليبه تدور على إيقاع حركة هذا الأخير، الأمر الذي ظهرت تراسيمه في العديد من المظاهر، مثل أزمات الحدود بين الجوار التي لم تنقضِ فصولها بعد، ونشوء الجمارك بكلّ ما تتركه هذي الأخيرة من أثر طاغٍ على طبيعة العلاقات القائمة بين الدول، ثم السعي إلى تشكيل هوية قومية تقوم على أيديولوجيا يجري ترسيخها عبر المناهج الدراسية، وكذا في أدبيات الأحزاب. وبمرور وقت قصير، راحت ملامح الكيان ـــ شأنه أيضاً شأن باقي الدول الشقيقة ـــ ترتسم محدّدة طبيعته وسياساته التي كانت غالباً ما تُرسم وفق هذي الوقائع السابقة، مع تسجيل غياب شبه تام لكلّ من عاملَي التاريخ والجغرافيا شديدي الأهمية بالنسبة إلى صانع القرار السياسي، إذا ما أراد هذا الأخير انتهاج سياسات ترمي إلى إنقاذ المركّب في خضمّ تلاطم أمواج متلاحق لا تكاد مقدّمته تتكسّر، حتى تلحق بها الأخرى، ثم الأخرى بمتوالية هندسية تكاد لا تنتهي.
عانى الكيان السوري منذ ولادته بشكله الراهن عام 1921، وفقاً لتشخيص العديد من مفكريه، من ثلاثة أنواع من القلق


في أتون المضيّ سابق الذكر، عاش الكيان السوري ما بعد الاستقلال 1946 حالاً من الاضطراب القصوى، بفعل أزمة ذات طابقين أولاهما خارجي تمثّل في محاولات الخارج السيطرة على القرار السوري، تلبية لمصالح شركات النفط التي أضحت في تلك الفترة شريكاً ـــ بل ومقرراً ـــ في صناعة القرار السياسي لكلّ من لندن وباريس وواشنطن، وثانيهما داخلي تمثّل في الإرهاصات الناجمة عن حلّ المسألة الزراعية التي بقيت عصية على الحل إلى يومنا هذا. ومن حيث النتيجة، شهدت البلاد عشرين انقلاباً ما بين ناجح وفاشل خلال ربع قرن لا يزيد، إلى أن شهدت حالة من الاستقرار النسبي ما بعد تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، الأمر الذي شكّل ظاهرة لافتة تصدّى لها العديد من الباحثين والمؤرّخين تحليلاً وشرحاً. فمن قائل إن مردّ ذلك الاستقرار، هو نجاح الرئيس حافظ الأسد في بناء «شبكة من الاستبداد»، على حدّ توصيف الكاتب البريطاني باتريك سيل، إلى قائل بمبدأ «الطاعة والإذعان» الذي ورد لدى المؤرّخ الهولندي نيكولاس فان دام، وهو يرمز إلى نجاح النظام في ربط كبار مسؤوليه بشبكة من الفساد، نجحت في وضعهم في حالة «تحت السيطرة» بشكل دائم، حيث سيكون من المستحيل معها خروجهم عنه، إلى تشخيص بدا أكثر اكتمالاً ـــ وإن كان مشوباً ببعض النقص ـــ عند حنا بطاطو المؤرّخ الأميركي من أصل فلسطيني، الذي قال إنّ استقرار النظام في تلك المرحلة يعود إلى «القاعدة الفلاحية» للنظام، التي نجحت في «ترييف» الجيش بفعل عوامل اقتصادية، بالدرجة الأولى، مع تأكيد مهمّ لبطاطو، في هذا السياق، أنّه لا وجود لأدلّة واضحة على أن «الأسد كان قد أعطى في سياساته الاقتصادية تفضيلاً ملحوظاً لطائفته، أو أنّ غالبية العلويين كانوا يتمتعون بأسباب الراحة في الحياة أكثر من غالبية الشعب السوري».
ما يُعاب على هذه الطروحات كلّها، هو أنها استبعدت ـــ أو همّشت بمعنى أدق ـــ فعل السياسة الخارجية، في بلد كان فيه من الواضح أنّ لهذي الأخيرة فعل السحر في ترجيح كفّتها على نظيرتها الداخلية، خصوصاً عندما يستطيع عامل الاقتصاد لعب دور «اللاصق» القادر على جمع ما لا يُمكن جمعه. فحرب تشرين 1973 كانت قد وضعت دمشق في خانة «الصدقية» تجاه مركزية قضية فلسطين، ثم أعطى عبور الدبابات السورية بلدة المصنع الحدودية باتجاه الداخل اللبناني، يوم 1 حزيران/ يونيو 1976، توهّجاً لدور دمشق لم تعرفه منذ عصر الأمويين (662 ـــ 750م)، ليكتمل المشهد في ما بعد، بتلاقيات هذي الأخيرة مع الثورة الإسلامية الإيرانية بُعيد انتصارها في طهران شباط/ فبراير 1979، ثم لاحقاً مع حزب الله، حيث سيشكّل هذا الثالوث محوراً إقليمياً وازاناً له حساباته، وأهمّ ما فيه هي تلك الصلابة التي أبداها في مواجهة الاختبارات العديدة التي شهدها على امتداد ما يقرب من أربعة عقود.
لا يصحّ، هنا، أن نخرج إلى خلاصة مكثّفة ممّا سبق، من دون أن نعرّج على أمر مهم، وهو أنّ سوريا كانت قد شهدت بُعيد استقلالها، أزمتين كبيرتين أولاهما أزمة 1979 ـــ 1982، وثانيتهما الأزمة التي اندلعت في ربيع عام 2011، ولا يزال حدّها الثاني مفتوحاً من دون وجود أفق محدّد لإغلاقه، وذاك أمر يستحق التوقّف عنده مطوّلاً، لضرورة تحديد الأجنة الكامنة في البنيان، والتي استطاعت إحداث هذا الانفجار لمرّتين، في غضون ربع قرن أو يزيد قليلاً. فالمسألة تتعدّى في عمقها، البعد الاقتصادي الذي يشير إلى أنّ الأولى كانت تمثّل تمرّداً على «رأسمالية الدولة»، فيما الثانية كانت تمرّداً على «اقتصاد السوق».
ما تريد هذه السردية قوله، إنّ تجربة الحياد السويدية عام 1814 والسويسرية عام 1815، اللتين تعمّقتا في مؤتمر السلام الثاني في لاهاي عام 1907، من المستحيل تطبيقهما في الحالة السورية، قياساً إلى اختلافٍ كبيرٍ في ظروف التكوين ومسارات التطوّر المتباينة بشكل واضح في ما بين الأوليين وبين الأخيرة. ولربما أبرزها، هو أنّ السويد وسويسرا كانتا عندما اختارتا الحياد قد أنجزتا مهامهما الوطنية والقومية، في حين أنّ ذلك لا يزال أمراً بعيداً في حالته السورية. وعليه، فإنّه من الممكن الجزم بأن مشروع «سوريا حيادية»، هو أشبه بـ«طبخة حصى» تحتاج إلى مصهّرات أكثر كفاءة من تلك المتوافرة الآن، وهي لا تعدو أن تكون وصفة ناجعة لتشظّي الجغرافيا السورية، لا بديل عن مقاومتها حتى ولو اقتضى الأمر استمرار الأزمة ـــ الحرب، لضعفي المدّة التي سجّلها عدادها حتى الآن.

* كاتب سوري