احتل الحديث المسرّب من السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان صدارة التطورات، وكان أكثر ما لقي تعليقات وردود فعل، رغم أن الرجل لم يعد في موقع القرار، كسفير مثلاً، وإن ظلّ مستشاراً في وزارة الخارجية الأميركية، على ما ترافق من تعريفات بكلمته.المسافة الفاصلة بين فيلتمان اليوم وفيلتمان السابق، شاسعة جداً، وتراوح بين صانع قرارات، وتحرّكات، وثورات، في غضون ولايته سفيراً في لبنان، حين كان مهندس التحرّكات التي جرت في زمنه ارتداداً لاغتيال الرئيس الأسبق رفيق الحريري عام ٢٠٠٥، بينما هو اليوم مجرّد لافت للنظر في إدارته الأميركية، منبّهاً من مخاطر، ومنذراً بمحاذير. فيلتمان بالنسبة إلى اللبنانيين شخصان في شخصية واحدة. في الأولى، كان زمنه متصاعداً، قوياً، لا بل منفرداً على الصعيد العالمي. في تلك الأثناء، كانت الولايات المتحدة القوة غير المتنافسة على صدارة الأحداث في العالم. التعبير المطلق لها أنها كانت منفردة السيطرة، ومنفردة القرار، وقوتها لا تضاهى، ولا يقال لها «لا» على المستوى الرسمي، وعلى مستوى الدول. فقط المقاومات بأشكالها الشعبية المختلفة كانت تصارعها في الخفاء.
في تلك الحقبة، احتل فيلتمان صدارة الأحداث الشرق أوسطية بما يملكه من قوة مستمدة من قوة إمبراطوريته الوحيدة القرار. سار في ركب حدثِ عام ٢٠٠٥ وما رافقه من تطورات شعبية، ملونة، أثمرت ما رغبت فيه وزيرة خارجية بلاده غوندوليزا رايس ضمن تطبيق مشاريع التحالف البروتستانتي ــ اليهودي في السلطة الأميركية برئاسة جورج بوش الابن. فكانت إعادة صياغة المنطقة على تقطيعٍ، وتقسيمٍ، وتفتيتٍ جديد، عبر خلق دول مذهبية متناحرة، تبقي المنطقة تحت السيطرة الأميركية إلى آماد بعيدة تريح خلالها الكيان الصهيوني من أي تهديد أو وجع رأس. وكانت ما رغبت رايس في تسميته «ثورة الأرز»، التي سيطرت على السلطة والبلد، وأخذته باتجاه أحادي، تسلّطي، رغم صمود المحور المقاوم لها. صعد نجم فيلتمان، في هذا الإطار، وكان كل ما يقوله يؤخذ على محمل الجد، فهو ممثل سيدة العالم، ومنفذ كلمتها التي لا تقهر. وعندما غاب فيلتمان عن الساحة، في نهاية ولايته، لم يعد يظهر إلا نادراً، لكنه ظل يشكل محطة مؤثرة في أذهان اللبنانيين، ومتى أطلّ ينصت الجميع إليه باهتمام، آخذين كلامه بجدية مطلقة، لما تركه في ذاكرتهم من وقع وتأثير.
فيلتمان الثاني هو كما ظهر منذ أيام متحدثاً أمام لجنة الشؤون الخارجية في الولايات المتحدة. تحدث كونه خبيراً في الشأن اللبناني الذي بناه على أكتاف «ثورة الأرز»، ورافق تطوراته اللاحقة، عبوراً بمحطات كبيرة مهمة أبرزها حرب تموز ٢٠٠٦، ومعارك غزة المتتالية، وصولاً إلى الحركات الشعبية التي عرفت بـ«الربيع العربي»، وخصوصاً محطتها الأبرز، أي الأحداث السورية، وما تمخّضت عنه من نتائج هو يدرك أكثر من سواه أنها لم تكن في مصلحة بلده.
لم يعد أمام الأميركي من قوة يدافع بها عمّا تبقّى له من مصالح بعد تطورات مرحلة ما بين ٢٠٠٦ والنصر السوري


في هذ اللحظة من التطورات، يمكن لفيلتمان أن يعكس أمرين في كلامه المتسرّب: الأول، ما يدور في الأروقة الأميركية من تطلعات ورؤى وأفكار بشأن عالمنا. وإن كان الأميركيون يتباينون قليلاً في مراوحتهم في مقاربة الملف اللبناني، والشرق أوسطي، إلا أنهم لا يختلفون إلا في مستوى العداء والكراهية للبنان المقاوم، وحلفه الممتد في سوريا والعراق وإيران، ومن يقف معهم في خندق واحد. ولا حاجة لفيلتمان إلى التحدث، لفهم الموقف الأميركي على مستوياته المختلفة، السلطوية، والعامة. المسار الثاني، هو ما قاله فيلتمان في خطابه، الذي جرى تفسيره بطرق مختلفة، واعتبره البعض تهديداً، ورسائل مبطنة، وما إلى ذلك. أما الأساس في كلامه فهو في باطنه، وفي ما ينطوي عليه من هواجس ومخاوف، تمكننا من القول إنه تعبير عن الإفلاس، والهزيمة، وما كلامه إلا نعي لما بنته يداه يوم كان مقيماً في سفارة بلاده عندنا، ويفترض أن يكون هو، أكثر من أي أحد آخر، من يتحسّس عمق الخسارة، وانهيار ما بناه حجراً حجراً، بينما كان الهدف منه بسط السيطرة الأميركية بعد تذليل آخر معاقل المقاومة في الشرق. تحدث والخيبة ملء قلبه، وعبّر عما فيها بلغة التحذير، لكن ليس لشعوبنا ودولنا، بل للمعنيين الأميركيين، وكأنه يقول: «بتّم على نهاية معركتكم الشرق أوسطية، وتكادون تخسرون كل شيء». وهو ليس في موقف القرار، بل في موقف التنبيه، رغم إدراكه عقم قدرة سلطته على فعل أي شيء، فكان لا بد له من خطاب كأنه يرفع فيه المسؤولية عن كاهله عمّا آلت إليه الأمور من انهيار وتراجع، من جهة، ويتلو فعل الخيبة والندم من انهيار كل ما بناه، من جهة ثانية، وقد تمثل ذلك وفق ما سلف ذكره من مسار التطورات بين نصر الـ٢٠٠٦، والنصر السوري.
لم يعد أمام الأميركي من قوة أو سلاح يدافع به عمّا تبقى له من مواقع، ومصالح بعد تطورات مرحلة ما بين ٢٠٠٦ والنصر السوري، في ظل بروز قوى باتت منافسة بقوة لحضوره، قادمة بزخم، ونهم، واندفاع من الشرق، مهدِّدة وجوده، ومصالحه فيه، وتمركزه في أحد أهم مواقعه أي الساحة اللبنانية.
لكن السلطة اللبنانية، والاتجاهات التي رسمت لها أميركياً، باتت مهدّدة، وأول التعابير انقلاب موازين القوى في الانتخابات النيابية، وتشكيل حكومة بسيطرة الطرف المعادي للأميركي، وصولاً إلى ضغط الحضور الشرقي وبداية انعكاسه على الساحة، متمثلاً في بدء الانفتاح على سوريا، وهو ما لا تريده السياسة الأميركية، ولا القوى المتعاطفة معها في السلطة.
بات الأميركي يخشى على آخر مواقعه في الشرق، بخسارة هذه المواقع في السلطة اللبنانية، تحت ضغط الانتصار السوري، والحضور الشرقي ــ الروسي والإيراني والصيني ــ على مستويات عسكرية وأمنية واقتصادية، ولم يعد له من سلاح يستخدمه، فكان أسلوب «أوتبور» رهاناً على الحفاظ على آخر أوراقه.
نصيحة فيلتمان في الولايات المتحدة لم تكن أبعد من نصيحته للبنانيين المنتفضين معه، وهو ما شهدته ساحة الشهداء أخيراً من فيلم هزلي بنقل القبضة من اليسار (القبضة الثورية العمالية) إلى اليمين (قبضة أوتبور)، آخر الأسلحة الأميركية الهزيلة قبل أفولها النهائي من الشرق.
*كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية