نُسب، رسمياً، إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قوله، في أول جلسة للحكومة الجديدة، أنّ «هذه الحكومة صُنعت في لبنان». ووافقه الرأي الرئيس تمام سلام حين ذكر في مداخلته، في الجلسة نفسها، بأنّ «هذه الحكومة هي صناعة لبنانية». حبذا لو كان الأمر تماماً كذلك! لقد درجت العادة على أن تتولى تفاهمات الخارج، الاقليمي أو الدولي، مهم تشكيل الحكومات بعد مهمة تعطيلها أو اسقاطها أو تأجيل تشكيلها...

لم يكن الخارج المذكور، في هذه المرحلة، في موقع القادر على أي إنتاج أي تفاهم بالمعنى الايجابي. لكنه هو الذي وضع حداً لاستعصاء التشكيل طيلة احد عشر شهراً، من خلال حسابات تقاطعت على «عدم تفجير» الوضع في لبنان في هذه المرحلة التي تمر بها ازمة العلاقات الدولية والاقليمية، والسورية بالدرجة الاولى. ذلك اتاح، بل فرض ان يتراجع طرفا الأزمة الحكومية، عن شرط الحصول على «الثلث المعطِّل»، من قبل فريق 8 اذار، وشرط انسحاب مقاتلي حزب الله من سوريا، بالنسبة لفريق 14 اذار.
لم تعقد من اجل هذا التقاطع، المُجيز لولادة الحكونة، الاجتماعات والمؤتمرات في «الطائف» السعودية أو «الدوحة» القطرية. لكن ذلك لا ينفي أن قراري التأجيل والتشكيل كانا، على حد سواء، قرارين خارجيين!
ورغم ذلك يجب التوقف عند مسألتين: الاولى تباهي كل من رئيس الجمهورية والحكومة بالطابع المحلي لصناعة الحكومة. والثانية الجهود التي بُذلت من أجل اخراج هذه الحكومة الى الضوء والوجود في صيغتها التي انتهت اليها (أي توزيع بعض الحقائب واختيار بعض الاسماء)، وهي جهود لبنانية في المقام الاول.
نتوقف عند المسألة الأولى، لنقول إنّ التباهي هو امر جيد، من حيث المبدأ، عندما تكون المسألة موضوع التباهي ذات اهمية وطنية كبيرة، من نوع ان تكون الحكومة، يوماً ما، «صناعة لبنانية». هذا يعني انه يجب ان تبذل بإستمرار جهود مواظبة ومكثفة لكي تكون الحكومات صناعة لبنانية، ولو بالتدريج!
ذلك من شأنه معالجة خلل كبير وخطير ومتفاقم في الحياة السياسية اللبنانية. وهو خلل ناجم عن علاقة التبعية التي تحكم قوى الداخل بقوى في الخارج هي ذات مصالح، قد لا تتفق الا نادراً مع المصلحة الوطنية اللبنانية. فأن تكون الحكومة، يوماً ما، «صناعة وطنية»، فهذا يعني تحرير قرار الكتل السياسية المقررة، في تشكيل الحكومات وفي سواها، من الارتهان لقرار القوى الخارجية.
وهذا يعني، بالضرورة ايضاً، أن تغييراً جوهريا قد طرأ على نظام المحاصصة الطائفية المذهبية الذي يحول دون قيام علاقات سويّة بين اللبنانيين انفسهم، وبينهم وبين الخارج، الاقليمي والدولي، ايضاً.
وفي المسألة الثانية، أي مسألة الدور المحلي في توليف التركيبة في بعض اسمائها وتوزيع حقائبها، ينبغي إنصاف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بالدور الذي اختاره والذي ترجمه بكفاءة ومرونة واصرار الوزير وائل ابو فاعور: انها «الوسطية الايجابية»، تلك التي اختارها جنبلاط ، والتي استندت، دون شك، الى امتلاكه كتلة برلمانية باتت في موضع «بيضة القبان» منذ ان قرر وليد بك الانفصال عن تحالف 14 اذار، والانتقال الى موقع ودور وسطيين في الصراع المتفاقم بين التحالفين الاذاريين اللذين يفقدان بريقهما ويتراجعان، سياسياً وشعبياً، بإستمرار.
يستوقفنا في «الوسطية الجنبلاطية»، ما اعتمده صاحبها من مواقف بشأن الازمة السورية: هو متعاطف مع المعارضة، بل هو يدين، دون تردد، سياسات النظام القائم في دمشق، ويؤيد بشكل كامل وصريح مطلب رحيل الرئيس بشار الاسد. لكنه، بالمقابل، لم يوافق ابداً، على انخراط من يتبنى هذا الموقف بالتورط في دعم المعارضة السورية عسكرياً أو لوجستياً.
وبالنسبة لمشاركة حزب الله في القتال الى جانب قوات السلطات السورية، فقد كرر اعتراضه على هذه المشاركة، كما فعل بالنسبة لفريق 14 اذار. أي أن جنبلاط قد طالب الطرفين اللبنانيين الرئيسيين، في تحالفي 14 و8 اذار، بالاكتفاء بالموقف السياسي، دون الموقف الأمني أو العملي أو العسكري...
لا شك أنّ الموقف من «النكبة السورية» هو الأهم في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها سوريا، وأيضاً لبنان وسواهما (المنطقة عموماً). وحيث أن جنبلاط قد شدد، باستمرار، على ضرورة تفادي الاسوأ، اي الانزلاق إلى حرب اهلية كاملة وشاملة بسبب الانخراط المباشر في هذه الأزمة، فقد تحولت وسطيته من الحيادية السلبية إلى المشاركة الإيجابية في تعطيل الاندفاعات السلبية الفئوية، من جهة، وفي ابقاء احتمال التواصل قائما عندما يسمح الظرف الخارجي بذلك.
ليست الحكومة «صناعة لبنانية» في واقع الامر. لكنها «تجميع لبناني»، على غرار ما كانت قد بدأت تتجه اليه الصناعة اللبنانية قبل الحرب الاهلية المديدة بين عامي 1975 و1990.
إنها، مع ذلك، خطوة الى الأمام. يبدي الآن طرفا الصراع الأساسيان ارتياحهما لتشكيل الحكومة ويدافعان عن الكيفية التي تشكلت بها. انهما، في الواقع، ودون قصد أو حتى رغبة، يبديان ارتياحهما إلى «الوسطية الايجابية» التي تباهى بها جنبلاط واشاد بمساهمات ممثله في تظهير نتائجها وفي تذليل عدة عقبات وتفاصيل برزت اثناء المراحل الاخيرة من عملية التشكيل.
لا تنفع المكابرة في الاصرار على المواقف السابقة. لا بد من إعادة تقويم للوضع اللبناني، لتفادي الاسوأ الذي ما زال شبحه ماثلاً، طالما أن الازمة السورية مستمرة ومرشحة للمزيد من القتل والدمار والعنف والتدخلات الخارجية والاقليمية والدولية.
الاهم، في امتداد ذلك، أن نسعى، بالفعل، لتكون سياساتنا وحكوماتنا «صناعة لبنانية» صافية! ذلك يستدعي احداث تغييرات جوهرية، لا تمليها فقط مصالح خارجية ومطالب فئوية، بل، اساساً، وضع اللبنات الصحيحة لقيام دولة موحدة ومستقلة وحصينة وضامنة لحقوق الافراد والجماعات، دولة متحررة من التمييز والارتهان والفئوية. لا يتعارض ذلك مع الواجبات القومية فيما هو يشترط قيام قوى اليسار والديموقرطية بدورهما المفقود!
* كاتب وسياسي لبناني