في العادة، يجري التركيز على دور الأنظمة العربية إزاء ما جرى ويجري من أحداث تتعلق بالقضية الفلسطينية، وخصوصاً الكبرى منها، تلك التي تشكل مفصلاً تاريخياً يترك أثره العميق داخلياً وخارجياً. إن رفع جرعة التركيز على مسؤولية الأنظمة ودورها، لا يُقصد منه التقليل من المسؤولية الفلسطينية، بل إن ما يبرّره هو حجم التداخل، والتأثر الكبير للتركيبة الداخلية للعامل الفلسطيني، مع الوضع العربي المحيط.تجدر الإشارة، إلى أن القضية الفلسطينية لم تكن يوماً قضية الفلسطيني وحده، بل هي قضية العرب، وليس ذلك من باب التضامن والتعاطف، بل انطلاقاً من أن المشروع الصهيوني الاستعماري لم يكن هدفه الفلسطيني حصراً، بل العربي أصلاً، بكلّ ما يعنيه ذلك من هوية وحضارة وجغرافيا وثروات.
لو مررنا سريعاً على عدد من المحطّات التاريخية في تاريخ القضية الفلسطينية، منذ النكبة وما قبلها، وصولاً إلى أوسلو، فإننا سنلمس بوضوح مدى التداخل بين العاملين الفلسطيني والعربي، وسيتبيّن لنا أن كل المخططات ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية، كانت تأتي من النافذة العربية، وأن إحباطها كان يتطلّب وحدة موقف فلسطيني لغلق النافذة العربية، ويجب أن لا ننسى أن مستنقع أوسلو دخلناه من بوابة مدريد، المفاوضات العربية الإسرائيلية، من خلال موافقة طرف فلسطيني تم استدراجه وإغراؤه ثم إغراقه.
بغض النظر عن طبيعة الأجزاء المضمرة مما سمي صفقة القرن، بكلّ الأحوال يمكن اعتبار أن ما تم تمريره مقدماً، مثل، الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وإجراءات إلغاء الأونروا، وقانون القومية، وضم الجولان، أو ما يُشاع عن ضم أجزاء واسعة من الضفة، ثم دفع عجلة التطبيع العربي بكل أشكاله السياسية، والاقتصادية، والثقافية وغيرها، هو حسم لهذه القضايا، واعتبارها خارج البحث أو التفاوض. كل ذلك يأتي في سياق العمل على خلق واقع جديد، يشكّل أرضية مناسبة تخدم ما سوف يُعلن لاحقاً.
إن تسارع عجلة التطبيع العربي بكل أشكاله، وفي هذا الوقت بالذات، هو بمثابة رضى عربي رسمي عما تمّ إعلانه


إن تسارع عجلة التطبيع العربي بكلّ أشكاله كما ذكرنا، وفي هذا الوقت بالذات، هو بمثابة رضى عربي رسمي عمّا تم إعلانه وتمريره من خطوات وإجراءات، وهو بمثابة إعلان موافقة النظام العربي الرسمي على حسم هذه القضايا الرئيسية التي تشكّل مواضيع لما سمّوه الحلّ النهائي، وهو إسهام في توفير الأرضية المناسبة للتعامل مع الأجزاء المخفية من صفقة القرن.
يظهر بوضوح حجم الإرباك الفلسطيني الرسمي في التعامل مع هذه الصفقة، فهو من ناحية يعلن رفضه لها، ويمتنع عن القيام بأية خطوات جدية لتوحيد البيت الفلسطيني الداخلي في مواجهتها، ومن ناحية أخرى، يراهن على إسناد عربي لمواجهتها، وقد طالب مؤخراً بشبكة أمان مالية عربية في وجه الإجراءات الأميركية الإسرائيلية.
علينا أولاً، وقبل التفكير والتخمين بجنس الوليد القادم (صفقة القرن) أن نبيّن حسبه ونسبه، فهو من ظهر أوسلو، الذي وضع القضية الفلسطينية على سرير المفاوضات بين أيدي العدو والراعي النزيه، الولايات المتحدة الأميركية. إذا كان أوسلو الأب الشرعي لصفقة القرن، حين جرى تفكيك الشعب الفلسطيني وقضيته التحررية، إلى قضايا تخضع للتفاوض والمقايضات الرخيصة، فإن ما سُمّي «الربيع العربي» أمه حملته جنيناً منذ أن بدأ بتفكيك الواقع العربي وتمزيقه مذهبياً وقبلياً، وتسعير التعارضات الداخلية إلى مستوى التناقضات الحادّة، ثم تمزيق النسيج الاجتماعي إلى مستوى الضياع والفوضى العارمة، وفقدان البوصلة في تحديد العدو من الصديق، وتحول الكيان الصهيوني إلى صديق يتم تطبيع العلاقات معه لمواجهة الخطر الإيراني المزعوم.
المواجهة الجدية لـ «صفقة القرن» تتطلّب إنجاز مهمّتين متلازمتين متداخلتين جدلياً. أولاً، توحيد البيت الفلسطيني الداخلي، ويعني ذلك حكماً القطع مع أوسلو بالممارسة، وليس بالشعارات، والمواقف الطنانة الرنانة، والتهديد والوعيد من دون القيام بأيّ خطوة جدية. أما المهمة الثانية، فهي إغلاق النافذة العربية التي يجري تمريرها منه، ثمناً للحفاظ على السلطة والامتيازات التي يتمتعون بها، وخصوصاً، السعودية وخلافة محمد بن سلمان، إلى مصر التي تعمل جاهدة لإحكام القبضة على كلّ مفاصل الحكم، والأردن القلق على هوية المملكة. فلا مناص من القطع مع الأنظمة والممالك التي تشكّل آليات وحوامل لتنفيذ هذه الصفقة على الأرض، ومهمّتها الضغط على الطرف الفلسطيني للقبول بما يروّج له.
هل مسموح للقيادة الرسمية الفلسطينية توحيد البيت الداخلي الفلسطيني؟ خصوصاً أن دعوة التوحيد تتركز في مواجهة صفقة القرن، كما أن توحيد البيت الداخلي الفلسطيني، هو بداية العمل على غلق النافذة العربية التي يأتي منها ريح صفقة القرن. إن توحيد البيت الفلسطيني يعني الاتفاق على قواسم مشتركة بين مختلف القوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية، وضمّها جميعاً إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا يعني تبدلاُ في ميزان القوى الداخلية في صياغة القرار الوطني الفلسطيني.
يبدو أن طرفي الانقسام ليس من مصلحتهما إنهاءه، وتوحيد الصف في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حيث إن ذلك سوف يحدّ من حرية الحركة لكلّ منها. من جهة فريق أوسلو، ستشكل القوى اليسارية والإسلامية الرافضة توجهاته السياسية ثقالات تمنعه من التجاوب مع ما هو مطروح، والهبوط السياسي كما اعتاد. ومن جهة حماس، ستشكل القوى اليسارية مع الوطنية الرافضة لتوجهاتها وعلاقاتها الإقليمية كوابح تمنع انزلاقها في مشروع فصل غزة، أو دويلة غزة وما إلى هنالك من أطروحات، تشكل الوجه الآخر من «صفقة القرن».
برغم كل الاعتلال الذي تعيشه القوى اليسارية، فلن يرضى كلا الطرفين أن يجعلاها بيضة القبان، الأقلية التي تضفي الشرعية على السياسة الرسمية الفلسطينية، في المؤسسة الوطنية الرسمية. إذا سُمح لليسار بلعب هذا الدور، فإن لمس الجمهور الفلسطيني لدوره المؤثر في السياسة الوطنية، سوف يعاظم حضوره، ويزيد من التفاف القوى الوطنية واليسارية الأخرى المتردّدة، وأيضاً الجماهير الفلسطينية اليائسة والمحبطة، التي لم تعد تتوقع تبدلاً في خريطة التوازنات في صياغة القرار الوطني.
*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين