بعد مخاض استمرّ ثمانية أشهر ولدت الحكومة، ولكي لا نقع في فخّ المماثلة، باعتبار أن مولود الثمانية أشهر لا تُكتب له الحياة، فإننا سنتخطى هذا الأمر، ولو بالشكل؛ أمّا وقد تشكلت الحكومة المنشودة، بعد كل تلك المدة من التقاتل على الحصص والتناتش على الحقائب، والذي وصل، في بعض الأحيان إلى مستوى من التخاطب، الخارج عن المألوف، بين المكوّنات السياسية؛ وهو تخاطب غير مسبوق في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية. ولكي لا نفسد على أهل السلطة فرحتهم بما صنعت أيديهم، وعلى أصحاب المعالي مناصبهم الجديدة، فإنّ العيون شاخصة اليوم إلى ذلك المولود المكوَّن من كل الأطراف دفعة واحدة، في سابقة لم نرَ مثيلاً لها في أيّ دولة من دول العالم. فالفرادة «السلطوية» في لبنان تمتاز بمنطق مقلوب، يُعاكس كلّ منطوق في العالم؛ فإذا كان أصحاب علم الكلام قد قالوا بأن «من تمنطق تزندق»، فإن أصحاب السلطة في لبنان، ولكي لا يقعوا في إثم الزندقة، تراهم، لا يخالفون المنطق إياه أبداً، لكن يقلبونه كي يمشي على رأسه بدل رجليه، فتصوّروا، ساعتئذ، أي برنامج ستُنتجه هذه الحكومة العتيدة، والذي نرى، لا بل نؤكد أنه سيكون معكوساً. وبما أن مكتوب الحكومة الجديدة، ابنة الثمانية أشهر تأليفاً، أُقرّ في بيانها الوزاري، المُتفق عليه، فهو لم يأتِ نتيجة دراستهم للأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها الشعب اللبناني، وليس تلبية لحاجات، أصبحت ملحّة عند عامة الناس، كمحاربة الفقر والبطالة والفساد وتوفير الصحة والتعليم والأمن للناس... وليس منعاً لانهيار اقتصادي، قد يصيب مفاصل الدولة وماليتها العامة، وليس درءاً لعدوان إسرائيلي على لبنان استجابة لطبول الحرب التي تقرعها «إمبراطورية الشر»، على لسان «ترامبها»، في جهات الأرض الأربع... ليس من أجل هذه القضايا كُتب البيان الوزاري، إنما أتى تنفيذاً لما تضمّنه مؤتمر «سيدر» واستجابة لشروطه، والتي، وكما بات معروفاً، ستضع مصالح الشعب اللبناني، من حقوق وتقديمات اجتماعية، في طليعة استهدافاتها، مروراً بتقليص القطاع العام وإمرار مشاريع الخصخصة ورفع الدعم عن السلع الأساسية وصولاً إلى زيادة الضرائب وخفض الأجور وزيادة التخصص بالهجرة وخدمة الاقتصاد الإقليمي، وعليه، سيكون لـ «سيدر» الثلث المعطل في الحكومة... هذا ما يُبشرنا به أصحاب السلطة، وفي المحصلة الواضحة لهذا الأمر، هو استمرارهم في انتهاج السياسات نفسها التي اتبعوها منذ الطائف وحتى اليوم، والتي أوصلت البلد إلى ما هو عليه، إضافة إلى استجاباتهم لشروط مؤتمرات الدَين.
يجب أن يُستكمل الحراك من خلال تثبيت هويته السياسية ضد السياسات الحكومية

أمّا وقد تشكّلت الحكومة، مع بيانها الوزاري، ولكي لا نفسد على هؤلاء مجدداً، استعادتهم «لوحدتهم الوطنية» المنشودة من خلالها، والتي بالمناسبة، لا تكون ولن تكون إلّا على حساب حقوق الناس ومصالحهم، وهو السلوك نفسه الذي دأبت عليه كل حكومات ما بعد الطائف وحتى اليوم، فإن هذه الحالة المرتبكة والمتوترة، التي واكبت التكليف والتأليف، عكست، بشكل جلي، أزمة النظام السياسي المتحكّم في كل مفاصل الدولة، وليس أزمة مكوّناته، فحالة التجذّر المذهبي في طبيعة تلك المكونات بلغت حدودها القصوى، وبخاصة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. في المقابل، هناك صعوبة لقيام حركة وطنية ببرنامج مرحلي كما في السابق، وذلك لأسباب موضوعية جدّية، ليس أقلها ندرة وجود أحزاب وقوى سياسية من الموقع النقيض، أو مناخ عام يسهم في رفع منسوب الحالة النضالية التغييرية في لبنان، إضافة إلى الطبيعة الملتبسة لعلاقة المواطن بمنظومات الدولة ومؤسساتها، والتي طغت عليها الزبائنية، القائمة على توزيع الحصص بين مكونات السلطة ومريديها. يضاف إلى ذلك الوضع الاقتصادي المتأزم، وما يحمله من مخاطر ستطال مفاعيلها أكثرية الشعب اللبناني، والناتجة، بدورها، من الطبيعة الريعية للنظام السياسي القائم على الاستجابة الطوعية لمندرجات مؤتمرات الديون ولشروطها الاقتصادية والاجتماعية وموجباتها. هذا الأمر ستطال مفاعيله، بطبيعة الحال، أكثرية الشعب اللبناني، ما سيدعونا إلى رفضه ومواجهته، بعناوين وقضايا مختلفة، وفي سياق التحركات الشعبية الجارية في البلاد حالياً، والهادفة إلى بناء كتلة شعبية من كل المتضررين، ومن الموقع النقيض؛ قوى سياسية واجتماعية وأهلية ونقابية ومدنية... تشمل أوسع فئات المجتمع، وبخاصة المهمّشة منها، كي تضغط من أجل إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي القائم وسياساته، والذي أوصل البلاد إلى وضع خطير من التأزم وعلى المستويات كافة، والتي من المفترض أن يجري العمل عليها اليوم من خلال مسار تصاعدي ومدروس، يسعى لجذب الكتل الكبرى المهمشة، من فقراء المدن والأرياف والمتعطلين عن العمل والعمال المكتومين... إلى دائرة الفعل في الصراع السياسي والاجتماعي القائم، وفي مواجهة سياسات المنظومة الحاكمة، التي تهدد حياة عموم فقراء وكادحي لبنان ولقمة عيشهم ومستقبل أولادهم. وكما يهدف، أي هذا الحراك إلى انتزاع مساحة واضحة في المشهد السياسي العام للقضايا الاقتصادية – الاجتماعية التي يعاني بسببها كل الشعب اللبناني.
من هنا نؤكد، وأمام هذا «الصمم السلطوي»، بأن أي سياسات ستصب في خدمة أصحاب رؤوس الأموال ستكون مرفوضة، وأية ضرائب إضافية على كاهل فقراء لبنان وعمّاله وموظفيه ستكون مرفوضة، وأي استجابة لشروط التبعية السياسية والاقتصادية، لأوصياء الخارج، من دول ومؤسسات وبنوك ستكون مرفوضة بدورها. فمصالح الشعب اللبناني وحقوقه في العلم والسكن والصحة والكرامة ستكون معيار منح الثقة من عدمها، والدفاع عن مصالح هذا الشعب ضد العدوان المزدوج، الصهيوني وشروط مؤتمرات الدين المتتابعة، هو معيار الثقة من عدمها... فأنتم، أصحاب السلطة، تريدون للشعب اللبناني أن يبقى مرتهناً لأصحاب رؤوس الأموال، هو وأبناؤه وأحفاده، يدفعون الديون إلى الأبد، وأن لا يقوم بأي عمل إلّا في سبيل ذلك، ونحن، من جهتنا، سنرفض كل ذلك، ونريد للشعب اللبناني، المناضل والمقاوم، توفير موجبات الحياة الكريمة التي تليق به، وضرورات ذلك تتطلب تأمين أفضل شروط المواجهة، والقضية الاقتصادية-الاجتماعية ليست إلّا إحداها. وعليه سيكون الشارع هو المكان الذي من خلاله سنتصدى لكم ولكل سياساتكم.
أمّا عن الحراك الموجود في الشارع اليوم، والذي بدأ مع تظاهرة 16 كانون الأول 2018، وتتابع في 12 و13 و20 كانون الثاني 2019، فهو حراك لن يتوقف بل سيتصاعد ويستمر، وموعدنا الثابت المنتظر هو مع مناقشة البيان الوزاري، والذي يجب أن يُستكمل من خلال تثبيت هويته السياسية كحراك ضد السياسات الحكومية المتبعة، وخارج أي اصطفاف طائفي أو مناطقي، وبأن الحلّ هو بالتغيير الشامل وبناء دولة وطنية مدنية عادلة واقتصاد منتج، دولة تسودها العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعزيز العمل على المستوى النقابي، لأن أي عمل من هذا النوع خارج النقابات يبقى جزئياً، ما يستلزم التنسيق بشأنه مع الأطر النقابية المستقلة، ومن خلالها مع قواعد النقابات المصادر قرارها من قبل السلطة. فمن هنا يصبح التركيز، على بناء تلك الكتلة الشعبية، حاسماً من خلال هذا التحرك، لضمان ديمومته، مع تحديد مساراته وتوضيحها وكيفية الوصول إليها، والتي يمكن أن تكون من خلال مستويين متوازيين ومترابطين: مركزي ومناطقي، مع ضرورة تشكيل لجان تنسيق؛ فهناك أطر موجودة يجب تفعيلها، وهناك ما يجب استكماله أو إيجاده، مع التركيز على العمل المناطقي، باعتباره ضمانة لخلق توازن حاسم في طبيعة القوى وتركيبتها، واستكمالاً لخلق موازين قوى جديدة، تفرض تغييراً في طبيعة النظام السياسي الحالي. إن هذا المشهد، لا يكتمل إلّا بالربط بين المسألة الوطنية والقومية والتحرر الاجتماعي والاقتصادي باعتبارهما مساراً واحداً، وبصوغ موقف واضح من أحداث المنطقة، وبخاصة من المشروع الاستعماري الغربي بنسخته الحديثة، التي تهدف إلى تدمير المنطقة كمقدمة للسيطرة الكاملة عليها ونهب ثرواتها كافة، والذي بدأت إرهاصاته تظهر من خلال ما يُحضّر لها من اعتداءات ومشاريع تصفوية، تطال القضايا كافة، (فلسطين، تحرير الثروات، بناء الدول الوطنية...)، وكذلك المتعلقة بالأمور الحياتية واليومية للمواطنين. من هذا المنطلق وبناءً عليه، تصبح مهمة بناء تلك الكتلة السياسية، الشعبية والواسعة ملحّة وضرورية، وما طرح موضوع «المقاومة العربية الشاملة»، إلّا الشكل العملي للربط بين مجمل تلك القضايا والمهام والبناء عليها: هو الإطار الذي يجمع كل الذين يريدون مواجهة المشروع الإمبريالي الغربي، وموقعه المتقدم العدو الصهيوني، وأدواته في المنطقة من نظم رجعية وغيرها، والذي يشكل مساحة تضم كل الساحات المتاحة أو الممكنة للمواجهة، ومكاناً لتتقاطع فيه كل الجهود، بين حدّي التضامن والكفاح المسلح؛ مقاومة تُعيد إلى الأذهان مقولة بأن للشعوب حقاً في المقاومة، وهذا المفهوم، لطالما جرى العمل على طمس معالمه، ليس لسبب إلّا لتثبيت ثقافة اليأس وتعميمها كقدر لا مفر منه.
*عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني