لم تَمُرَّ الحقبة السوفياتية علينا نحن العرب مرور الكرام. فقد شهدت أثناءها مجتمعاتنا، وأيضاً تركيبة الدولة والسلطة وأحزاب سياسية وتيارات مدنية، انزياحات متباينة، أيديولوجية وفكرية وسياسية واقتصادية، علماً بأن الرائج آنذاك، تمثّل في انصهار الأحزاب الشيوعية الرسمية ببوتقة العقيدة اللينينية الستالينية.من جانب آخر، فإنَّ انهيار النموذج السوفياتي، واتساع تأثير الميل الليبرالي، انعكسا على أوضاع معظم الأحزاب السياسية المعارضة. وتجلى ذلك في اشتغال تلك القوى، إضافة إلى شخصيات فكرية وسياسية معروفة، في إعادة إنتاج ذاتها من منظور ليبرالي، وأيضاً بالتسلل من بيت الطاعة اللينيني الستاليني، ومن العقلية القومية المتوارثة. وارتفعت وتيرة الانزياحات المذكورة، بفعل فشل نماذج الحكم القومية، وتماهي غير نظام عربي شمولي مع النموذج السوفيتي، واتساع ظاهرة العولمة، وبروزها كتعبير موضوعي عن الميل العام للتطور.
في السياق، فإن تراجع الصين وروسيا عن رأسمالية الدولة/ الاشتراكية المحققة، وانزياحهما إلى السياق الرأسمالي المعولم، كان بمثابة التعبير الموضوعي الأبرز عن عالمية الميل الرأسمالي، وأيضاً فشل فكرة حرق المراحل. في الأثناء، حاول غير نظام عربي القيام بتغييرات مشابهه، لكنَّ ذلك قادها إلى تعميق التبعية الاقتصادية والارتهان السياسي، واستمرار ذات البنى السياسية الأحادية، وفق تجليات مختلفة ظاهرياً. ولذلك علاقة مباشرة بطبيعة تلك الأنظمة وبنيتها وأيضاً تركيبتها.
أما في ما يتعلق بأوضاع الأحزاب الشيوعية العربية الرسمية، فإن انغلاقها على ذاتها العقائدية، والإفراط في التماهي مع السوفيات والتبعية لهم، كان من الأسباب التي منعتها من القيام بمراجعات نقدية لمنظومتها الأيديولوجية، علماً بأن ماركس أشار إلى أنه ليس ماركسياً، بمعنى أنه يُعارض تحويل الماركسية إلى إطار مغلق على ذاته، وأنَّ منهجية التحليل الماركسي وأدواتها المادية تحتاج دائماً إلى إعادة إنتاج ذاتها في سياق التحولات الكونية والعلمية.
وإذا كان السياق العام للتحولات العالمية يستوجب إعادة ضبط منظوماتنا الفكرية من منظور حداثي يمكّننا من إعادة إنتاج ذواتنا الفكرية والثقافية والسياسية، لكنه لا يبرّر أبداً الانقلاب على الذات والانتقال إلى مواقع أخرى نقيضة. ونشير في السياق إلى أن أحزاباً سياسية يسارية ومثقفين ديموقراطيين انقلبوا إلى مواقع ليبرالية تناقض بشكل كامل آليات تفكيرهم. وتجلى ذلك في سوريا بعد انهيار التجربة السوفياتية، وترسخ بعد الغزو الأميركي للعراق، وخروج الجيش السوري من لبنان، علماً بأنَّ التحوّل المذكور تزامن مع اشتغال السلطة السورية على تحرير الاقتصاد، وإغلاق المجال العام أمام القوى السياسية العلمانية واليسارية ومؤسسات المجتمع المدني، مقابل إفساحها المجال أمام حركات إسلامية دعوية كانت تشتغل حينها على بلورة هويتها العقائدية، وتعميق مرتكزاتها الاجتماعية، ما أدى إلى تفاقم حدة التناقض والاستقطاب الاجتماعي، وتراجع تأثير قوى اليسار ومؤسسات المجتمع المدني والتجمعات العلمانية أمام تفاقم المد الإسلامي السلفي.
ولم يقف ترحال يساريين سوريين ومثقفين وناشطين عند حدود اندماجهم بالليبرالية، وإعادة إنتاج ذواتهم السياسية والنظرية في سياق العولمة الأميركية، لكنَّ أكثرهم تماهى بعد أشهر قليلة من انطلاق «الربيع السوري» مع حركات إسلامية سلفية، وجهادية، تحديداً بعد اعتماد الخيار المسلح، ما اقتضى انتقالهم إلى أحضان أطراف دولية وإقليمية داعمة للحرب السورية، وارتهان خطابهم السياسي وآليات تفكيرهم ومصالحهم لتلك الأطراف. واقترن ذلك بتقزيم مهام التغيير السياسي إلى مستوى يكاد ينحصر بإطاحة رأس السلطة، ما أثار إشكالية تتعلق بموقفهم من المسألة الوطنية. أما إدغامهم في الفصائل الإسلامية التكفيرية، فإنه أفقدهم هويتهم العلمانية، ونزع عنهم الغطاء الديموقراطي. وجميعها عوامل كان لها دور واضح في اتساع الفجوة بينهم وبين السوريين، وبينهم وبين فئات واسعة من أنصار التغيير السياسي الوطني.
وإذا كان ارتباط المعارضات المتلبرلة في الخارج، وانصهارها في الفصائل الإسلامية الدعوية منها والمسلحة، من أسباب خسارتها لعمقها السوري، فإن تعقّد الرؤية الوطنية، وتفاقم إشكالية المواقف السياسية لغير حزب سياسي داخل سوريا، يعودان إلى اندغامها في السلطة. ويتجلى ذلك بوضوح أكبر إذا ربطنا مفهوم الوطنية بقضايا المواطنة والعدالة الاجتماعية والحريات السياسية والمدنية. في السياق، نشير إلى أن مراهنة تيارات سياسية يسارية وقومية ليبرالية، وأخرى دينية سلفية، على العامل الخارجي، يعود إلى طبيعة النظام السياسي، الذي عمَّق من عجزها عن إنجاز التغيير الوطني الديموقراطي.
لكن هل أدّى الاستنجاد بالخارج إلى تحقيق الخلاص المنشود؟
في العراق، أسقط الجيش الأميركي النظام، وسط تهليل القوى السياسية المصنفة نفسها ديموقراطية ويسارية. وكما بات معلوماً، فإن هدف «المنقذ» الأميركي لم يكن إقامة نظام ديموقراطي بل تدمير العراق، دولة ومجتمعاً وجيشاً، ونهب ثرواته، وإشاعة الفوضى، وتسعير التناقضات بين المكونات الطائفية والمذهبية. أما في ليبيا، فقد تمَّ قتل القذافي وإسقاط سلطته، وتحويل ليبيا إلى مجال لصراعات قبائلية وعشائرية مفتوحة على المجهول. كذلك، فإن ما يجري في اليمن، لا يقل خطورة عمّا يجري في غير دولة عربية.
في السياق، فقد رأت واشنطن وحلفاء لها، وتحديداً إسرائيل، أنَّ تدمير سوريا وإعادة ضبط دورها الإقليمي في سياق إعادة توضيب الخارطة الجيو سياسية للشرق الأوسط، يشكّلان المدخل الأساس لتعزيز السيطرة على المنطقة. فاشتغلوا بالتزامن مع غير دولة على تصنيع حركات مسلحة وتمويلها وتوظيفها، وإفشال التغيير الوطني الديموقراطي السلمي، ما حوّل سوريا إلى ساحة صراع مدولنة.
نشير أخيراً إلى أن السلطة السورية تعاني من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية، ترتبط بعوامل أخرى، إقليمية ودولية، تفاقم من أزمتها وأزمة مجتمعنا البنيوية. فهل سنكون قادرين على تجاوز أزماتنا، والتحديات الوطنية والديموقراطية، وأيضاً التخلص من التدخلات والاحتلالات الخارجية، ومن آثار الحركات الإسلامية الجهادية؟
* كاتب وباحث سوري