«لم يشأ شعب الشيروكي أن يفلت الذين أبرموا معاهدة الترحيل المشؤومة من العقاب، فما إن وصل الزعيم الوطني جون روس (John Ross) مع المجموعة الثالثة عشرة والأخيرة من المُهَجَّرين حتى عقد مجلساً (١٣ يونيو/ حزيران ١٨٣٩) حضره كل من بقي من الزعماء إضافة إلى الحكومة المؤقتة التي تشكلت قبل وصوله. وبعد أيام من المناقشات وتبادل الآراء انتخبوا حكومة جديدة يرضى عنها كل الشعب. في هذه الأثناء وصل عدد من زعماء حزب المعاهدة، لكنهم سرعان ما أدركوا أنهم "لا أهلاً ولا سهلاً"، فهربوا خوفاً على حياتهم. كانوا يعلمون أنهم سيسألون عما ألحقوه بشعبهم حين تفردوا خلسة بتوقيع هذه المعاهدة التي لم يوافق عليها أحد غيرهم، وكانوا يعلمون أن الإغراءات المالية الموعودة التي أرادوا إغراق المواطنين فيها وإلهاءهم بها ليست بديلاً عن الوطن ولن تخدع أحداً. وفعلاً دعا رئيس المجلس الشرعي جون روس إلى تطبيق ما يعرف بقانون الدم (Old blood law) على كل من وقع على هذه المعاهدة المشؤومة لأنهم مسؤولون عن التفريط بالوطن وعن سقوط هذا العدد الهائل من الضحايا. هكذا أقيمت محكمة غيابية للمتهمين إلياس بودينو (Elias Boudinot) ومايجور ريدج (Major Ridge) وجون ريدج (John Ridge) وستاند واتي (Stand Watie) وجيمس ستار (James Star) وجون أدير بل (John Adair Bell) وجورج أدير (George W. Adair) وحكم عليهم بالإعدام إلا إذا حضروا واعترفوا بجريمتهم أمام الشعب. ثم تشكلت فرق موت طاردت الهاربين وأعدمتهم واحداً واحداً».منير العكش («دولة فلسطينية للهنود الحمر»، ص. ٢٩١).

هل سمعتم عن الحوار الذي أربك «الإسرائيليين»؟
إليكم القصة:
ما بين ٢-٥ تموز/ يوليو ١٩٩٢، عقد المجلس الأعلى للاتحاد العام للمهندسين الفلسطينيين دورته الرابعة في تونس. و«أهمية المحاضرة» قدمها محمود عباس، يقول إبراهيم عرفة، وهو مسؤول الإعلام في الاتحاد، في مقدمته التي تم نشرها في كتاب بعنوان «مباحثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية» (الطبعة الأولى صدرت في تونس في ١٩٩٢ والثانية في رام الله ٢٠١١). إليكم أهم ما جاء في كتاب/محاضرة عباس، مسؤول ملف المفاوضات في «منظمة التحرير الفلسطينية» حينها:
«قلنا لهم (للوفد المفاوض) فليطرح علينا الإسرائيليون ما يريدون. وتذكرون أنهم عرضوا علينا إدارة الصحة ونحن كنا نتصور أنهم سيعرضون علينا إدارة الصحة. لكن في حوارنا مع بعضنا بعضاً قلنا لهم افترضوا أنهم عرضوا عليكم مسألة «الزبالة» وليس البلدية، قولوا نعم نأخذها. الزبالة تحتاج إلى تنظيم والتنظيم يحتاج إلى قانون "أي إلى من ينظمه". القانون يحتاج إلى من يشرعه. نريد انتخابات. نرجع إلى الانتخابات. «الزبالة» نريد أن نضعها في مكان ما في الأرض. الأرض لنا. إذاً لا بد من وقف الاستيطان. نعيد كل قضية إلى أصولها الثلاثية: «الانتخابات، وقف الاستيطان، الأرض هي أرضنا». هذا الحوار أربك الإسرائيليين» (ص. ١٥).
يمكن، فعلاً، تفهم ارتباك العدو هنا، فالنص السابق لم يكن ليخطر حتى على بال كاتب نص مشهد إحراق الساحرة في فيلم مونتي بايثون «الكأس المقدسة» (1). فبعد قراءة النص (والكتاب بصفحاته الـ٢١ كلها)، عليك أن تتساءل مصدوماً عن مستوى التخلف الإدراكي، حتى لا نقول الانحطاط السياسي والتاريخي والوطني (والاستحمار، أيضاً) (2)، الذي يجب أن يكون عليه المرء حتى تنطلي عليه تلك الأفكار الغبية وحتى يقتنع بهذا المنطق السخيف وهذا النهج (حتى لا نقول شيئاً عن الجرأة على نشرها، وفي كتاب خاص، لـ«أهميتها»). لكن، لم تكن هذه لحظة تخلٍّ أو سهوٍ ولا سوء تعبيرٍ، إذن، وإلا ما أعيد نشر الكتاب مرتين، وما تم توفيره مجاناً على صفحة عباس الرسمية لتعم النعمة والحكمة على عباد الله (إلا إذا كان يظن أن الناس لا تقرأ). لكن أهم ما في هذه العبارة أنها تختصر مستوى انحطاط الفكر السياسي الفلسطيني المهيمن؛ هكذا فقط يمكننا أن نفهم كيف أصبح الصراع الفلسطيني - الفلسطيني الراهن يتمحور ليس حول مقاومة الاحتلال، بل حول من له الحق و«الشرعية» إلى التوصل لاتفاق هدنة مع العدو: «فتح» أم «حماس»؟
كارثية الخراب الهائل الذي خلفته أوسلو وسلطتها لا يمكن حصرها في المجالات التي يمكن قياسها


قد يسخر البعض فعلاً من استراتيجية «التحرير بالزبالة». لكن هذه العبارة في الحقيقة ليست فقط أفضل ما يمكن لآلة الدعاية الأوسلوية أن تنتج، بل هي التعبير الأوضح والأدق عن أوسلو كعقيدة، وطريقة تفكير، وخيال، وعقلانية سياسية، وشبكة مصالح، ومسار، ومنظومة مفاهيمية مضادة بمفردات جديدة تم اختراعها، أو قديمة أعيد تعريفها جذرياً لتناسب المرحلة الجديدة وتُؤسس لها وتُحَدِدْ أفقها. وهذه العبارة، ومثلها الكثير مما كتبه عباس في كتبه العديدة، تفسر، جزئياً على الأقل أين نحن الآن ولماذا (للمزيد عن هذا المنطق وأصول هذا النهج، أنصح بقراءة كتابيه الآخرين: «هذه الاتصالات... لماذا؟» و«الاتفاق في عيون المعارضة»). فهي لم تصدر عن مسؤول ملف المفاوضات في «منظمة التحرير» فقط، بل عن الرجل الثاني في حركة «فتح» والمنظمة آنذاك، وبحضور ياسر عرفات شخصياً أيضاً (حتى يعرف من يدعو لمراجعة التجربة من أين يبدأ). فمحمود عباس لم يسقط من السماء، ويمكن القول، بأثر رجعي الآن، إنه على رغم طريقته الخاصة، وحتى الكريهة أحياناً في التعبير عن هذا النهج («التنسيق الأمني مقدس»)، هو خلاصة مسار طويل خَطَّتْهُ وسارت به قيادة «حركة التحرر الوطني الفلسطيني» و«منظمة التحرير» منذ البداية، أو على الأقل منذ قبول نهج التسوية وإقرار برنامج «النقاط العشر» في حزيران/ يونيو ١٩٧٤. هذا ما مهد فعلاً لـ«صفقة القرن» ولقرار ترامب حول القدس واللاجئين بمراكمته ركاماً هائلاً من الخراب الضروري الذي أشرف عليه وهندسه وصاغ فلسفته عباس شخصياً.

«مستوطنو عباس»
هل تعرفون أن أكبر مستوطنة في الضفة على الإطلاق، «مودعين عليت» (بعدد سكان ٦٤١٧٩، في نهاية ٢٠١٥)، تأسست عام ١٩٩٦، أي بعد أوسلو بثلاث سنوات؟ وهل تعرفون أيضاً أن ثاني أكبر مستوطنة، «بيتار عيليت»، التي تأسست عام ١٩٨٥، في موجة الاستيطان التي تبعت اتفاقية «كامب ديفيد» السادات، ولم يتجاوز عدد سكانها على مدى عقد كامل من الزمن (٧٥٧٠ مستوطناً حتى ١٩٩٦)، توسعت بأكثر من ٧٥٠٪ في أقل من عقد بعد أوسلو (٤٩٣٤٣ مستوطناً في نهاية ٢٠١٥). أما ثالث أكبر مستوطنة، «معاليه أدوميم» التي تأسست عام ١٩٧٥، ولم يتجاوز عدد سكانها على مدى واحد وعشرين عاماً كاملة (١٨ ألف مستوطن حتى ١٩٩٦)، زادت بأكثر من ٢١٠٪ في أقل من عشر سنوات بعد أوسلو (٣٧٥٢٥ في نهاية ٢٠١٥).
البيانات المتوافرة لأكثر من ١٢٦ مستوطنة وبؤرة استيطانية تفيد بنتيجة واحدة: أوسلو وفرت السياق السياسي للتوسع الاستيطاني. لم تفشل، فقط، استراتيجية الزبالة لاستعادة (بعض) الأرض، كما تفيد الأدلة الحسية بشكل حاسم، بل شكلت الاستراتيجية (المضادة) لضياع ما تبقى من فلسطين. فعند انطلاق «العملية السياسية» في مدريد، وقبيل توقيع اتفاقية أوسلو بقليل، في عام ١٩٩١، مثلاً، لم يتجاوز عدد المستوطنين في الضفة ٩٥ ألفاً. أما التقديرات في بداية ٢٠١٧، فكانت تتراوح ما بين ٧٥٠ ألفاً في الضفة والقدس - أي بزيادة ٧٩٠٪ منذ «مؤتمر مدريد» (هذا تقديري، المحافظ جداً، بناء على حساب معدلات النمو المعلنة من «دائرة الإحصاء الصهيونية» وتقرير اجتماع «اللجنة الرباعية» من حزيران/ يونيو ٢٠١٦ وبيانات مؤسسة «بيت سيلم»)، أو حوالى ٨٠٠ ألف (بحسب تقدير مركز «مسارات» في رام الله). أما في «القدس الشرقية» وحدها، أو ما يسمونها «القدس الشريف» التي اخترعتها عبقرية «القيادة الفلسطينية» لتعطي شرعية دينية لتنازلها عن باقي القدس، فتشير البيانات إلى أن عدد المستوطنين الذي تجاوز هذه الأيام ٢٢٠ ألفاً لم يتجاوز ٩ آلاف في منتصف السبعينيات، أو قبل «كامب ديفيد» المشؤومة؛ هذا ما تفعله اتفاقات سلامكم معهم 3)).
لكن مشكلة الاستيطان لا تكمن حقيقة في عدد المستوطنين فقط، بل في التعقيدات التي تواجه الخيار التفاوضي الذي تعتمده وتصر عليه سلطة عباس في أعقاب سابقة إخلاء المستوطنين من غزة في ما عرف حينها بـ«فك الارتباط الأحادي». فتكاليف إخلاء نحو ثمانية آلاف مستوطن («سلمياً») من غزة، بينهم عدد قليل آخر من أربعة بؤر استيطانية في الضفة، تجاوزت ٢٪ من إجمالي الناتج المحلي للكيان الصهيوني عام ٢٠٠٥. فمعدل التعويضات تجاوز ٢٠٠ ألف دولار للفرد 4)) (حصل كل مستوطن على ما بين ١٥٠ -٤٠٠ ألف دولار وفق معايير التعويض كحجم البيت والأسرة والدخل... إلخ)، هذا عدا التكاليف الإضافية التي تحملتها الخزينة كبديل عن النقل ومصروفات أخرى. هذا يعني (لو وافق الكيان على إخلائهم بحسب الأوهام التي يسوقها عباس عن دولته) أن إخلاء نحو ٧٠٠ ألف مستوطن بالطريقة نفسها سيكلف الخزينة الصهيونية ما يعادل ١٧٥-٢٠٠٪ من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما لن تفعله ولا تقدر عليه «إسرائيل»، حتى لو تحملت الولايات المتحدة قسماً كبيراً من التكاليف. بهذا المعنى، إن المستوطنين في الضفة باقون هناك على رغم كل شيء، إلا إذا اختار الفلسطينيون نهجاً جديداً (أقترح نموذج الجزائر، وأفضل نموذج هايتي. انظر: سي. ل. ر. جايمس. «اليعاقبة السود»).

«مستعربو عباس»
لكن أوسلو لم توفر السياق السياسي لتوسع الاستيطان فقط. فالانحياز الأمني في بنية سلطة أوسلو وفر أيضاً السياق الأمني الضروري للتوسع الاستيطاني وحمايته، وجعل حتى من فكرة مقاومة الفلسطينيين للاستعمار الصهيوني وطنهم صعبة بطريقة غير مسبوقة، ربما في كل تجارب حركات التحرر الوطني الحديثة (هكذا وصلنا إلى هتاف أهل القدس وغزة الموجوع: «منشان الله، يا ضفة يَلاّ») (5). فالمنظومة الأمنية غير المسبوقة التي تشكلت في أعقاب أوسلو (تحديداً في مرحلة عباس) جعلت «الفلسطينيين الشعب الأكثر خضوعاً للحِراسة على وجه الأرض»، وفق الاستنتاج الذي خرج به الكولونيل في الجيش الصهيوني و«الباحث» في «معهد واشنطن» غال لوفت. لكن، حين كتب لوفت استنتاجه هذا عام ١٩٩٨، كان التقدير حينها أن عديد أجهزة أمن السلطة هو في حدود الستين ألفاً، أو ما نسبته مجند واحد في أجهزة الأمن لكل ٥٠ مواطناً (6) (هذا يعني أن نسبة مجندي أجهزة الأمن للسكان كانت ضعف تونس عشية الانتفاضة على ابن علي حين وصفت بأكثر «الدول بوليسية في العالم»، وتقريباً ثلاثة أضعاف مصر عشية خلع مبارك في كانون الثاني/ يناير ٢٠١١). كان هذا في عهد عرفات طبعاً. لكن، بعدها بثلاثة عشر عاماً، ستفيد البيانات الجديدة ما بعد ٢٠١١ إلى أن النسبة في عهد عباس أصبحت تقارب ٤٠ في بعض التقديرات وتصل حتى مجند واحد في أجهزة الأمن لكل ١٦ مواطناً عند البعض الآخر (7)، وستفيد البيانات كذلك أن أجهزة أمن السلطة أصبحت أكثر تمويلاً وأفضل تطوراً تقنياً، ومختلفة بنيوياً إذ لم يعد غالبية عناصرها من أعضاء التنظيمات السابقين ممن قد تكون لديهم بعض من مخلفات عقيدة وطنية، بل مجموعات من الموظفين الأمنيين «المهنيين» و«المحترفين» الذين أشرفت على تدريبهم الاستخبارات الأميركية، وبعض أجهزة استخبارات المنطقة بعقيدة جديدة تتوافق مع «عقيدة الزبالة». هذا الرقم طبعاً لا يشمل آلاف عناصر الأجهزة الأمنية الصهيونية العاملة في الضفة والقطاع وتنسق أمنياً مع أجهزة الأمن «الفلسطينية» وتنفذ الاعتقالات والاغتيالات والعمليات الأمنية المتعددة.
كل ما سبق يفسر مستوى التضامن المتدني مع ثلاثة إضرابات جماعية للأسرى أخيراً، ويفسر أيضاً الهدوء النسبي في الضفة فيما أهلنا المحاصرون من العدو والسلطة في غزة يستشهدون يومياً. ما يحدث يؤشر على حالة الانحطاط والخراب التي أنتجتها أوسلو. هذا لا يعني أن شعبنا فقد قدرته على التضحية، بل يعني أن البنية الأمنية لسلطة عباس كانت فعالة في أداء دورها نيابة عن الاستعمار لدرجة أرهقت المناضلين وبيئتهم الحاضنة في شكل لم يستطع، وحتى لم يحلم، المستعمِر الصهيوني نفسه بإمكان فعله على مدار عقود خلت. لكنهم سيستنتجون حتماً في المستقبل أن التاريخ لم يعرف ولن يعرف حلاً تقنياً لمقاومة الاستعمار.

عقيدة الخراب
لكن كارثية الخراب الهائل الذي خلفته أوسلو وسلطتها ورئيسها وراءهم، حتى الآن، لا يمكن حصرها فقط في المجالات التي يمكن قياسها إمبريقياً بسهولة وبدرجة عالية من الدقة، كما في توفير أوسلو السياق السياسي والأمني لتوسع الاستيطان، وتهويد القدس، ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت، والقتل، والتهجير، والاعتقالات مثلاً. الجانب الأخطر بكثير في أوسلو هو الخراب الأيديولوجي والثقافي والمعرفي الذي استولدته أوسلو لدى قطاعات عدة في المجتمع الفلسطيني (ولا يجب ولا يمكن إنكاره)، والذي يفترض لتجاوزه الآن عملية واسعة ومعقدة وصعبة من إعادة التثقيف القومي والوطني والسياسي الجماعي التي لا يمكن أن تنجح إلا في سياق كفاحي ثوري طويل مضاد كلياً لسياق أوسلو. هكذا فقط يمكننا أن نستعيد روحنا الوطنية التي هشمتها ومسختها أوسلو.
وهذا الخراب الكارثي الذي أنتجته أوسلو، وبعكس النوع الأول من الخراب، له أبعاد وجودية خطيرة جداً سيحتاج مجرد ترميمها لثورة (في الثورة وعلى الثورة، أو «لمنظمة تحرير لتحرير منظمة التحرير»، على حد قول ناجي العلي). هذه الثورة في الثورة أصبحت الآن شرطاً أساسياً ومقدمة ضرورية لا بد منها حتى لمجرد الحديث عن تحرير أي شبر من فلسطين. لهذا، لم يعد يكفي الحديث عن حل السلطة، أو حتى محاسبة المسؤولين عنها حتى لا تتكرر هذه التجربة في المستقبل. السؤال الوجودي الذي علينا التفكير فيه جدياً فوق ذلك الآن: كيف يمكن ترميم الخراب وتجاوز الضرر وتجنب الأذى الهائل الذي أنتجته أوسلو وعصابة «سلام الشجعان». فحتى لو غطت المستوطنات كل الأرض الفلسطينية، يمكننا بسهولة شديدة تخيل استراتيجيات مقاومة متعددة تفرض على المستوطنين الهرب والعودة من حيث جاؤوا، ولن نحتاج من أجل ذلك إعادة اختراع العجلة، فالنماذج الناجحة والفعالة ماثلة أمام أعيننا. المشكلة ليست في المستوطنات بحد ذاتها، إذن، بل في الأمان الذي يشعر به المستوطنون ويدفعهم إلى التكاثر. المشكلة في السياق السياسي والأمني للاستيطان والاستراتيجية الفلسطينية التي توفر البيئة المسؤولة عن ارتفاع معدل النمو في المستوطنات بعد أوسلو إلى ٤.٤٪ سنوياً، أو أكثر من ضعف نسبة النمو العام في الكيان (٢٪). فمن يشاهد كيف كان المستوطنون البيض يبنون بيوتهم ومزارعهم في مستعمرات أخرى في دول الجنوب، سيتأكد أنهم كانوا يظنون أيضاً أن استعمارهم دائم، وأنهم باقون هناك للأبد. لكنهم خرجوا، وبعضهم هرباً، حين توافرت إرادة المقاومة وحين كانت قيادة المقاومة مؤتمنة أولاً، ومؤهلة ثانياً لأخذ دورها، وهما عاملان حاسمان تفتقدهما التجربة الفلسطينية تماماً حتى الآن.
ومستوى خراب العقل الذي أسست له أوسلو ضرب عميقاً في وعينا وحسنا السياسي، حتى ليبدو أحياناً أننا نمشي على رؤوسنا. فحين يستغفل الناس بمسرحيات من طراز إقامة الأذان من على منبر الكنيست، ويتناقلها البعض على صفحات التواصل الاجتماعي كعمل مقاوم من الطراز الرفيع، ونتناسى سؤال هؤلاء: «ماذا تفعل في الكنيست أصلاً يا «بطل»؟»، أو حين يتم تسويق تطبيع العرب والمسلمين مع العدو بقدر كبير من الاستحمار بالزعم أن «زيارة السجين ليست تطبيعاً مع السجان»، أو حين يتم تمرير توصية للجمعية العامة على أنها إحدى انتصارات «القيادة» الملهمة وحكمتها، ونتناسى أن هناك ٧٦ توصية مماثلة (بعضها حتى أفضل من ناحية النص وأقوى من ناحية الصياغة)، فيما وضعنا على الأرض يزداد سوءاً وفلسطين تضيع أمام أعيننا، فعلينا أن نعرف أننا أمام مهمة شاقة جداً لإصلاح ما لحق بالعقول من خراب! وأعظم هذا الخراب هو مدى طغيان فكرة «الدولة» على العقول بسبب الاستثمار المعنوي والعاطفي الهائل فيها عبر السنين، ما يجعل حتى مجرد انتقادها صعباً ويقارب حدود الخيانة وفق عقيدة عباس، على رغم أنها لم تكن فقط بديل ونقيض مشروع التحرير وآلية تصفيته، بل تعني في جوهرها التنازل طوعاً وبلا مقابل عن أكثر من ٨٠٪ من فلسطين وإخضاع ما تبقى منها للتفاوض، في أشد لحظات ضعف العرب والفلسطينيين بعد تدمير العراق وخضوع الوطن العربي عملياً ومباشرة لسيطرة المارينز الأبيض.

على مدار خمسة وعشرين عاماً كانت القدس تذبح كل دقيقة أمام أعينهم لكنهم لم يفعلوا شيئاً


أخيراً في خراب العقول: حين تسمع أي من أقطاب عصابة «سلام الشجعان» يرددون خرافات المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن، لا تجادلهم. فما ستسمعه بالتأكيد هو مجرد محاولات رخيصة جداً من «الاستحمار». لماذا؟ هذا ما قاله عباس بالحرف في كتابه السابق لتبرير نهج المفاوضات والرد على من طالب بأخذ الملف للأمم المتحدة كبديل للمفاوضات حينها: «إن جميع هذه الحجج لم تجد أقداماً تقف عليها خصوصاً التي جاءت في المجلس المركزي الأخير، والتي تقول علينا أن نذهب بملف القضية إلى مجلس الأمن. فقلنا لهم إن القضية ولدت في مجلس الأمن منذ عام ١٩٧٤ إلى يومنا، ومع ذلك مجلس الأمن لم يفعل شيئاً عندما كان مجلس الأمن مجلس أمن حقيقياً، وعندما كانت له سلطة وكان هناك فيتو، فكيف الآن ومجلس الأمن هو مؤسسة من مؤسسات الإدارة الأميركية، والجمعية العامة مؤسسة من المؤسسات الأميركية كذلك. كيف، إذن، يمكن أن نحيل هذا الملف على الأميركيين مرة أخرى؟» (ص. ١١).

قانون العالم: نحن وترامب
لا قدس. لا حق عودة. لا إزالة للمستوطنات. لا عودة لحدود ١٩٦٧. هذا مختصر خطاب ترامب وقرارته حول القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود، التي كان ينبغي أن تكون مواضيع مفاوضات الحل النهائي وفق أوسلو عباس. في أقل من عشر دقائق حسم ترامب (في خطابه في ٦ كانون الأول/ ديسمبر) كل ما يسمى «قضايا الحل النهائي» التي كان من المفترض أن تنتهي أصلاً عام ١٩٩٨ (8). لكن، في أقل من عشر دقائق، كذلك، أعاد ترامب تذكيرنا بالقانون الوحيد الذي يسير عليه العالم، وبالقانون الوحيد الذي يحكم صراعنا نحن العرب معهم على كل، وأي، شبر من فلسطين: إذا أردتم القدس (أو أي شبر من فلسطين)، عليكم أن تأخذوها بالقوة. لا توجد طريقة أخرى، وفق خطاب ترامب، كما لا توجد طريقة أخرى لفهم كلمات ترامب أيضاً. هذا فعلاً وحقاً مختصر ما قاله لنا. وفي تأكيد آخر لهذا المعنى، قال أيضاً إن ما قرره حول القدس لا يعدو كونه «اعترافاً بالأمر الواقع». ولهذا، علينا أن نستنتج نحن العرب: في هذا العالم «لا يفل الحديد إلا الحديد».
بعد أكثر من أربعين عاماً من الجدل الفلسطيني-الفلسطيني، والعربي-العربي، حول جدوى (وحتى الإمكانية الواقعية لنجاح) مشروع «التسوية»، حسم دونالد ترامب الجدل بتقريره عدمية هذا الخيار واستحالته، فبدا، رغم حماقته، أعلم بطبيعة قضيتنا من كل من نصبوا أنفسهم قادة لأهم (وآخر) ثورة ضد الاستعمار. لم يترك هذا الخطاب وهذا المعنى الواضح والمباشر لفريق أوسلو حتى مجالاً صغيراً للعب على التفسير والتأويل والتزوير كما تعودوا في أعقاب كل صفعة تلقوها من «راعي عملية السلام» الذي أفنوا عمرهم وعمرنا للحصول على اعترافه بهم وجلوسه معهم. لم يترك لهم حتى مجالاً صغيراً للكذب علينا وعلى أنفسهم، فارتبكوا. وهذا فعلاً ما يزعج فريق أوسلو ونخّاسي الدم وقوادي صناعة المفاوضات، وليس قرار ترامب بحد ذاته ولا ضياع القدس، كما يزعمون ويتباكون.
فعلى مدار خمسة وعشرين عاماً، كانت القدس تضيع أمام أعينهم. على مدار خمسة وعشرين عاماً كان الكيان الصهيوني يقضم القدس شبراً شبراً، وبيتاً بيتاً، وشارعاً شارعاً، وحياً حياً. وعلى مدار خمسة وعشرين عاماً، كان الكيان يُغَيِّر القدس ديموغرافياً بالطرد والقتل والحرق وهدم البيوت ومنع البناء وسحب «الإقامات» والحصار والضرائب والاستيطان. وعلى مدار خمسة وعشرين عاماً، كان الكيان ينشأ الأوتوسترادات حول القدس ويبني شبكات سكك الحديد في القدس وحولها. وعلى مدار خمسة وعشرين عاماً، كان الكيان الغاصب يشرع قوانين الضم والتهويد والتهجير عبر سلسلة طويلة من «قوانين الأساس» ذات الطابع الدستوري الذي لا يستطيع أي رئيس وزراء للعدو التراجع عنها، لو أراد ذلك. وعلى مدار خمسة وعشرين عاماً، كان الكيان يغير معالم القدس وحدود القدس وجغرافيا القدس وتاريخها وحاضرها. وعلى مدار خمسة وعشرين عاماً، كانت القدس تذبح كل دقيقة أمام أعينهم. لكنهم لم يفعلوا شيئاً. لم يحدث أي من هذا سراً. لم يحدث أي من هذا حتى بغطاء ليل. كانت البيانات المرعبة عما يحدث في القدس وللقدس وأهلها وصرخات التحذيرات تنشر كل يوم على الصفحات الأولى للجرائد والمجلات ونشرات الأخبار. كان العدو يعلن حتى مواعيد مناقصات كل مشروع باليوم والساعة والدقيقة. وأكثر، كان العدو يعلن حتى نياته وخططه المستقبلية مسبقاً. على رغم كل ذلك، لم يفعل جماعة «سلام الشجعان» شيئاً غير مقاومة المقاومة.
لكن، لا يزال جماعة «سلام الشجعان» مصرين على الاستمرار في النهج نفسه والحديث عن «عملية السلام» و«حل الدولتين». لهذا، علينا أن نستنتج أنهم شركاء في كل ما حدث. علينا أن نستنتج أنهم جزء من بنية المشروع الصهيوني مصلحياً وبنيوياً ومؤسساتياً. وإلا فكيف نفهم استمرار التنسيق الأمني واستمرار الاعتقالات السياسية؟ كيف نفسر فرض الحصار على غزة المحاصرة من العدو منذ ١٩٩١ في الوقت نفسه الذي تؤكد تقارير الأمم المتحدة أنها ستصبح «غير صالحة للحياة عام ٢٠٢٠» (ص. ٧) (9)؟. لهذا، ليس من الشجاعة حقاً الآن أن نشتم ترامب أو بنيامين نتنياهو فقط (عليهم اللعنة إلى يوم الدين). الجميع يفعل ذلك، وهو سهل جداً، ويمكن لكل من يريد أن يقوم بذلك من دون أثمان حقيقية. ماذا عن دور جماعة «سلام الشجعان» في التمهيد لتمرير مشاريع ترامب ونتنياهو ومحمد بن سلمان؟ كل مثقف وكاتب وسياسي عربي (أو وسيلة إعلام عربية) يتجاهل هذا السؤال هو متآمر أو جبان أو غبي. فسلطة عباس، كمؤسسات سياسية وأجهزة وأفراد يشرفون على عملياتها اليومية ويصنعون سياستها ويبرروها، أصبحت بحكم التجربة والواقع موضوعياً وعملياً في معسكر الأعداء.

خاتمة: ارحل
محمود عباس: ارفع حصارك عن غزة، وارحل.
ملاحظة: عنوان المقالة مستلهمة من العنوان الأصلي لكتاب أستاذي منير العكش «دولة فلسطينية للهنود الحمر». شَرَّفَني منير بقراءة النص قبل النشر، وتناقشنا في العنوان الأصلي (ملهاة الجزرة مأساة الحمار: دولة فلسطينية للهنود الحمر). انتبهت إلى أن العنوان يعيد بذكاء تركيب عبارة ماركس عن مقولة لهيغل في «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، حين قال: «التاريخ يعيد نفسه، في المرة الأولى على شكل مأساة وفي الثانية على شكل ملهاة/مهزلة». ولأن المهزلة هي في التكرار، فإن المأساة تسبق الملهاة لا العكس. لكن العكش، المؤرخ والمفكر والناقد الأدبي الاستثنائي، لفت نظري إلى قصده قائلاً: «أما العنوان، فإن من وضع الجزرة (الدولة) أمام الحمار أراد لها دور الملهاة، والمأساة الحقيقية هي التي يعيشها الحمار الساعي عبثاً إلى التقاط الجزرة، كأنه لا يكفيه أنه حمار».

* كاتب فلسطيني

الهوامش:

1- https://www.youtube.com/watch?v=X2xlQaimsGg

2- https://al-akhbar.com/node/288075

3- Colin Shindler. 2013. A History of Modern Israel. Cambridge: Cambridge University Press. P. 339.

4- Paul Rivlin (2010). The Israeli Economy from the Foundation of the State through the 21st Century. Cambridge: Cambridge University Press. p. 245; Shir Hever (2010). The Political Economy of Israel’s Occupation: Repression Beyond Exploitation, London: Pluto Press. p. 71.

5- https://www.youtube.com/watch?v=p5NmJsAkDtk

6- Gal Luft, ‘The Palestinian Security Services: Between Police and Army’, Middle East Review of International Affairs, June 1999, pp. 47–63.

7- Perry Anderson. "The House of Zion". New Left Review 96, November-December 2015.

8- https://www.cnn.com/videos/politics/2017/12/06/trump-jerusalem-remarks-full.cnn

9- ttp://unctad.org/meetings/en/SessionalDocuments/tdb64d4_ar.pdf