يبدو أن لشعبنا موعداً دائماً مع المجازر! والتاريخ الفلسطيني الذي لم يتوقف حتى هذه الأيام عن الانتقال من مجزرة إلى مذبحة وحشية على يد المستعمر الإمبريالي واليهودي الصهيوني، خاصة، أنه يحيي في شهر نيسان ذكرى مجازر: دير ياسين وقرية ناصر الدين في قضاء مدينة طبريا، وقرية عين نقويا قضاء مدينة القدس. كما يعيش لحظات البطولة والتحدي والثبات على الموقف في معركة «القسطل» التي قادها واستشهد بها القائد الشجاع عبد القادر الحسيني.
المجزرة الجديدة التي تم الإعلان عنها في بداية هذا الشهر والتي نحن بصدد التوقف عندها، هي من نوع آخر: مجموعة قرارات من «حكومة الوفاق» في رام الله، دفعت بأكثر من مئة ألف من الموظفين وعائلاتهم إلى وضع مركب من الفاقة والعوز والظلم في قطاع غزة المحاصر والخاضع لسلطة حركة حماس. القرارات المجحفة، استهدفت قطاعاً واسعاً من موظفي الحكومة، حيث قرّرت خصم ما قيمته 30% وأكثر من رواتب الموظفين بالقطاع دون سابق إنذار، وهو ما فجّر بركان غضب في الشوارع والساحات العامة، شاركت فيه قطاعات واسعة من حركة فتح «حزب السلطة»، في مدن القطاع المحاصر بوجه حكومة سلطة رام الله التي لم تعجز عن تبرير «فعلتها» بالإعلان «إن الأسباب الدافعة لهذا الخصم، كانت الأزمة المالية التي تعاني منها الحكومة»! لكن الخبير الاقتصادي الدكتور أسامة نوفل، أشار إلى معلومات تتناقض مع ما تحدث به بيان الحكومة عن العجز «في الفترة الأخيرة دخلت إيرادات إلى خزينة السلطة بشكلٍ جيد، كما أنّ أموال المقاصة ازدادت بنسبة معقولة في أول ثلاثة أشهر من العام الحالي، نتيجةً لزيادة عدد البضائع الواردة إلى الأراضي الفلسطينية».

قرارات حكومة رام الله
انطلقت من مواقف سياسة
«المناكفة مع سلطة حماس»

اللافت، أن تلك الحكومة كانت قد أعلنت أن السعودية قد تبرعت بمبلغ 30 مليون دولار لصالح دعم الموازنة العامة الفلسطينية، عقب انتهاء القمة العربية الـ28 في الأردن. كما أن التساؤلات التي يتم تداولها بشيء من الاستغراب – التي لا تحتاج إلى جهد كبير لمعرفة دوافعها – أن الخصم لم يشمل قطاع الموظفين في الضفة الغربية البالغ عددهم 92 ألفاً، بينما عدد موظفي القطاع لا يتجاوز 60 ألفاً بين مدني وعسكري. في عام 2006، كان عدد موظفي السلطة في قطاع غزة 67 ألف موظف، وانخفض هذا العدد في عام 2016 إلى 62 ألف موظف، أي أنّ هناك 5000 موظف من القطاع فقدوا عملهم، إما بسبب التقاعد أو بسبب الوفاة. في المُقابل، فإن عدد موظفي السلطة في الضفة الغربية كان في عام 2006 65 ألف موظف، أمّا في عام 2016 فبلغ عددهم 92 ألف موظف، أي أنّ هناك زيادة في عدد موظفي السلطة في الضفة بمقدار 27 ألف موظف، بحسب الدكتور نوفل.
من الواضح أنّ تلك القرارات انطلقت من مواقف سياسة «المناكفة مع سلطة حماس» التي كانت قد شكّلت «لجنة إدارية لإدارة القطاع»، وهو ما عبّر عنه الناطق بلسان حكومة رامي الحمد الله في رام الله بالقول: «تشكيل اللجنة الإدارية التي بدأت تعمل كحكومة موازية في غزة، ومواصلة حماس جباية الإيرادات وعدم إعادتها إلى الخزينة، أثّر بشكلٍ سلبي وفاقم الأزمة المالية إلى هذا الحد الذي وصلنا إليه»!
وهو ما كان قد هدّد به قبل أيام قليلة من صدور قرارات الخصم رئيس السلطة (ستكون هناك ردود غير مسبوقة)، رداً على تشكيل حركة حماس في غزة لجنة إدارية لإدارة القطاع.
إن محاولة استقراء دوافع تلك القرارات لا بدّ لها من التوقف أمام بعض المؤشرات السياسية التي مهّدت لـ«المجزرة»:
ــ اندفاع جديد في طريق تعميق الانقسام بين السلطتين.
ــ الاستجابة لأحد الشروط التي طرحها مبعوث ترامب للشرق الأوسط جيسون غرينبلات على رئيس السلطة، المتضمن أنه «على السلطة الفلسطينية أن تتوقف عن تحويل أموال إلى قطاع غزة إذ يساهم ذلك بتمويل مصروفات حماس»، وضرورة التنفيذ خلال الفترة القصيرة المتبقية على لقاء عباس - ترامب المرتقب.
جلبت النتائج الاقتصادية والاجتماعية على مئات الآلاف من المواطنين في القطاع كارثة جديدة. فما يتبقى من الراتب، لا يتجاوز لدى الآلاف، بضعة دراهم لا تكفي لشراء الخبز. إذ أن الجزء الكبير منه يذهب لتسديد القرض البنكي، بعد أن تحول المواطن الفلسطيني «رهينة عند البنوك». وهو ما أشار إليه بيان غرفة تجارة وصناعة محافظة غزة حول «المجزرة»: «إن الجزء الأكبر من الموظفين مديون للبنوك ومجمل ما يتقاضونه شهرياً لا يتجاوز 40% من إجمالي الراتب في أحسن الأحوال، وبعد خصم قيمة 30% من الراتب لن يتبقى للموظف شيء ليعتاش منه ويسدد التزاماته وديونه. وكل هذا سوف يتسبّب في خلل كبير في حركة دوران السيولة النقدية ونقصها من الأسواق، وسوف يفاقم الأوضاع الاقتصادية ويتسبب في مزيد من الركود التجاري وتراجع في القوة الشرائية المعدومة أصلاً، وارتفاع معدلات البطالة المرتفعة والأعلى عالمياً، والتي تجاوزت أكثر من 41% وأكثر من 200 ألف شخص عاطل من العمل، وارتفاع معدلات الفقر والتي تجاوزت 65%، كما سوف يتسبب في زيادة كبيرة في الشيكات الراجعة وعدم التزام الموظفين بتسديد الأقساط المترتبة عليهم، وسوف يترتب على هذا القرار العديد من المشاكل الاجتماعية».
لم تكن «الأزمة المالية» هي السبب لأن ضغط النفقات والهدر في بعض المؤسسات كان كفيلاً بتوفير المال. فما تنفقه مؤسسة «الرئاسة» في رام الله بلغ في عام 2016 160 مليون شيكل ما بين رواتب ونثريات وبدلات وسفريات، كما يشير الخبير الاقتصادي د. نوفل، الذي يضيف «هناك تضخم أيضاً في نفقات السفراء والسفارات في الخارج وغيرها، فكان من الأجدر تخفيض هذه النفقات، وليس على حساب المواطن».
إن القوى والأحزاب والحركات والهيئات الشعبية والشخصيات الوطنية، مطالبة اليوم بالضغط على السلطتين من أجل التوصل إلى توافق وطني يوقف الكارثة ويلغي تلك القرارات الجائرة، حتى لا ينفجر القطاع من الداخل، بما يمهّد للعدو المحتل، المتربص به، الانقضاض عليه.
* كاتب فلسطيني