حسين آغا *
فيما تريد شعوب المنطقة كلّها أن يخرج الأميركيون من العراق، يبقى لدى المجموعات السياسية من إسرائيل إلى القاعدة، رأي آخر في هذا الأمر.
إنّ النقاش العلني في الشرق الأوسط يعادي الاحتلال الأميركي للعراق ويطالب بإنهائه في أقرب وقت ممكن. حتى إنّ الملك عبد الله نفسه، الذي يُعتبر أقرب الحلفاء العرب للولايات المتحدة الأميركية، قد وصف احتلال العراق بـ«غير القانوني» و«غير الشرعي». ولكنّ النوايا الحقيقية تختلف كل الاختلاف عما يُعلن. قد لا تعترف الدول والمجموعات السياسية علناً به، وذلك خشية من الرأي العام، ولكنها فعلياً لا تريد أي انسحاب للقوّات الأميركية من العراق. أقلّه ليس الآن.
وذلك لسبب بسيط: ففيما لم تعد الولايات المتحدة قادرة على التلاعب بدول المنطقة لتحقيق مخططاتها، تعلّم اللاعبون الأساسيون في المنطقة كيف يستخدمون بدورهم الوجود الأميركي لتسويق الأهداف التي يصبون إليها. هكذا، بهدوء وضد رغبات شعوبهم، استطاعوا الإبقاء على الأميركيين متورطين على أمل تحقيق نصر يبقى نوعاً من السراب.
إنّ ما يُسمّى محور الاعتدال العربي المؤلّف من المملكة العربية السعودية والأردن ومصر، يخشى انسحاباً مبكراً للولايات المتحدة من العراق: أولاً لأن ذلك سيُعتبر على العموم هزيمة للأميركيين ما سيُضعف هذه الأنظمة الموالية لأميركا وسينشّط شعوبها ويزيد من راديكاليتها.
ثانياً، إذا انسحبت الولايات المتحدة الأميركية، فستصبح مسألة انبثاق نظام شيعي في العراق ــ وهي مسألة بحدّ ذاتها مزعجة لهذه الأنظمة ــ مجرّد مسألة وقت. وفي ظل حالة من العداء العربي له، سيتوجّه نظام كهذا على الأرجح شرقاً ويقيم علاقات وثيقة مع شركائه في الدين الإيرانيين. وهذا ما سيشكّل، بنظر غالبية العرب، تحدّياً كبيراً يُطلق سلسلة من الأحداث الخطيرة: تحالف إيراني ــ عراقي، دعم سياسي ومادي للحركات السنّية المستاءة في العراق، عمليات ثأرية من القوّات العراقية، وخطر تدخّل إقليمي أوسع.
ثالثاً، الانسحاب الأميركي قد يطلق عملية تؤدي إلى تقسيم العراق، إذ يرى بعض العرب أنّ الوجود الأميركي في العراق هو ضمانة وحدته الداخلية. فحسب رأي بعض العرب، إن ما يبقي العراق موحداً هو الاحتلال. فكلما بقيت قوات التحالف على الأرض، يمكن تجنّب التفتيت الكامل.
وعلى العكس، بخروج الأميركيين تزداد فرص التقسيم بشكل دراماتيكي، ما سيشكّل خطراً وجودياً على وحدة بقية دول المنطقة وأمنها. وقد يشكل تنشيط بعض الاتجاهات الانفصالية النائمة، وغير النائمة كلياً في بعض الحالات، أحد مصادر القلق. ولكن المصدر الأكبر للقلق قد يكون التحدي لكل المبادئ الأساسية لمفاهيم الأمة والدولة والحدود بين الدول في الوطن العربي.
وللمفارقة، يريد المحور المعاكس لمحور الاعتدال العربي ــ أي ما يسمى بمحور الدول الشريرة كسوريا وإيران ــ أن تبقى القوّات الأميركية في العراق. فبنظر هؤلاء، بقدر ما تبقى الولايات المتحدة غارقة في أوحال العراق، بقدر ما سيصعب عليها أن تتخذ قراراً بخوض مغامرة أخرى في الجوار. ولن يكون خوض مغامرة كهذه أصعب على الصعيد السياسي فحسب ــ بحيث يبقى المستنقع العراقي شاهداً حياً على فشل الاحتلال ــ بل أيضاً على الصعيد العسكري: فالقدرات الأميركية ستبقى ممطوطة ما بقي الاحتلال.
أضف أن القوّات الأميركية في العراق تقدم أهدافاً سهلة نسبياً لأعمال انتقامية في حال حصول هجوم على سوريا أو إيران. وبغضّ النظر عن مدى صوابية نظريتهم هذه أو خطئها، تعتبر دمشق وطهران أنّ احتلال أميركا للعراق يشكّل أقوى تأمين ضدّ أيّ هجوم أميركي محتمل عليهما.
أما بالنسبة إلى تركيا، فإنّ وجود القوّات الأميركية في العراق سيضمن أن طموحات الأكراد لن تتحقق بتحويل منطقتهم إلى دولة مستقلة بالمعنى الكامل. وهو ما تعتبره أنقرة خطّاً أحمر بالنسبة إليها، وذلك بسبب ما تعانيه من مشاكل انفصالية مع أكرادها. فمن خلال استيعابها الطموحات الكردية، ستقلّل الولايات المتحدة من إمكانية حملة تركية مكلفة وغير مضمونة النتائج لمنع تحقيق هذه الطموحات. لن تحبّذ تركيا قيام دولة عراقية شيعية متحالفة مع إيران ومتفهّمة لرغبات الأكراد، وهذا ما تتمنى تركيا أن يجعله الاحتلال أقل احتمالاً.
تعتبر إسرائيل، أيضاً، أنّ انسحاب الولايات المتحدة من العراق سيؤدي الى كارثة. فلا شيء أضعف قدرة إسرائيل على الردع أكثر من الأداء الأميركي في العراق. فقد ألهم هذا الأداء أعداء إسرائيل العرب بفكرة أنّ أكبر قوّة عسكرية في العالم يُمكن هزمها. إنّ انسحاب أميركي مُبكر من العراق، بعد حرب تمّوز الأخيرة مع لبنان، قد يضع إسرائيل في وضع خطير بتقديمه انتصاراً لإيران ــ الخطر المفترض الأخير لوجود إسرائيل ــ ويقوّي سوريا التي قد تكون تفكّر في الخيارات العسكرية لاسترجاع الجولان.
وهناك مخاطر تُُحدق بدول الخليج الصغيرة أيضاً، إذ إنها تحوي مجموعات شيعية كبيرة في مجتمعاتها وتعتمد بشكل كبير على الحماية الأميركية، لذلك فإنّ انسحاباً أميركياً مبكراً من العراق سوف يعرّض تلك الدول للخطر. في البحرين مثلاً، حيث يعيش الشيعة بظروف غير مريحة، قد تكون النتائج سريعة.
أما في الداخل العراقي فتشكل هذه الفترة فترة تعزيز القدرات لمعظم المجموعات السياسية. فتقوم هذه المجموعات بتثبيت قدراتها السياسية والعسكرية، وتوطّد وتصنع التحالفات، وتسعى الى توضيح أهدافها وتثبيتها تحضيراً لمواجهة أيّ تحدٍّ وشيك.
ليس الوقت مناسباً لمواجهة شاملة بين هذه المجموعات. فليس لدى أي من هذه المجموعات الثقة ولا القدرة على مواجهة منافسيها داخل مجتمعها أو في مجتمعات المجموعات الأخرى بشكل حاسم. وإنّ أيّاً من هذه المجموعات ليس مهتمّاً بقيام مصالحة وطنية الآن، فيما يستطيع كلٌّ منهم تحسين أوضاعه في المستقبل. إنّ وجوداً أميركياً مستمراً سيساعدهم في كلتا الحالتين: من جهة لضبط حدّة النزاعات ومن جهة أخرى لتأجيل أي ارتباط سياسي جدّي إلى وقت لاحق.
الشيعة الموجودون في السلطة يريدون بقاء الولايات المتحدة لمدّة كافية لإحكام سيطرتهم على مختلف مصادر القوّة في الدولة ولبناء جهاز أمني موثوق ووفيّ. والشيعة غير الموجودين في السلطة يريدون مكوث القوّات الأميركية في العراق لفترة كافية لتجنّب أيّة مواجهة مبكرة مع منافسيهم.
أمّا المجموعات الشيعية الأكثر راديكالية، فباستطاعتها في الوقت عينه إلقاء كلّ مآسي طائفتهم على القوّات الأميركية ومهاجمة هذه القوات لكسب تأييد أكبر. من جهتهم، يستغّل الشيعة الموالون لإيران الوجود الأميركي في العراق للردّ على أية تحركات عدائية أميركية ضد إيران، وذلك بضرب قوّاتها العسكرية الموجودة على الأراضي العراقية.
قد يكون تنظيم القاعدة والمنظمات المنضوية تحت رايته المستفيد الأكبر من الاحتلال الأميركي للعراق. فهم تمركزوا في العراق، وجنّدوا عناصر جدداً، ونفّذوا عمليات ضد الأميركيين، وازداد حجمهم. لذا آخر شيء يريدونه هو خروج القوّات الأميركية من العراق، ما سيحرمهم أهدافاً يهاجمونها وعاملاً يوفّر لهم عناصر جديدة. وهناك مجموعات سنّية أخرى بحاجة أيضاً إلى وجود أميركي للأسباب نفسها ولحماية ذاتها من الخطر الشيعي. بالنسبة إلى السياسيين السنّة، يمنع الاحتلال استيلاء الشيعة كلياً على مؤسســــــــات الدولة ويساعد السنّة على زيادة نفوذهم.
من بين كلّ المجموعات الإثنية، الأكراد هم الأكثر استفادة من الوجود الأميركي. فباحتمائهم بالولايات المتحدة الأميركية من ألدّ أعدائهم التاريخيين العرب والأتراك، بنى الأكراد مؤسسات شبه مستقلّة وازدهروا ضمن وضع أمني هادئ نسبياً. لذا ليس من مصلحتهم أن ينتهي هذا الوضع.
وكما في حال البلدان المجاورة، يتّحد الشيعة والسنّة والأكراد في قدرتهم على استخدام الوجود الأميركي بغية تحقيق أجندات سياسية مختلفة ومتناقضة بعضها مع بعض. والمفارقة الكبرى في المنطقة هي بين توجّه الناس العاديين الذين يؤيدون بشكل ساحق إنهاء الاحتلال، والحسابات السياسية لحكّامهم التي تؤكد المنافع المترتبة على استعمال الأميركيين وإطالة أمد وجودهم، أقلّه في الوقت الحالي.
في هذه الصورة القاتمة والسوداوية، يبدو الأميركيون الأكثر اضطراباً وارتباكاً بين جميع اللاعبين، إذ هم مسلّحون بأهداف غير قابلة للتحقيق، يطبقون خططاً غير متماسكة، يغيّرون تكتيكاتهم باستمرار، يعيدون النظر في تحالفاتهم بشكل مستمر، إضافة الى تكبّدهم خسائر فادحة بشرية ومادية تزداد كل يوم، فلم يعد من الواضح ما يريده الأميركيون ولا كيف يحصلون على ما يريدونه. وبتحويل أنفسهم إلى هدف للتلاعب، أضفى الأميركيون صدقية إضافية على المقولة العربية المأثورة: انقلب السحر على الساحر.
ترجمة: صباح أيوب
[نشرت هذه المقالة في صحيفة الغارديان (25-4-2007)
وأعيد نشرها في اللوموند (25-5-2007)]
* باحث في كليّة سانت أنطوني ــ جامعة أوكسفورد