حسان الزينيثير طرح رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الكثير من الأسئلة السياسية والوطنية. فرئيس حركة أمل لطالما دعا إلى طمأنة المسيحيين، ولا سيما الموارنة الذين يتوجّسون من هذا الشعار. وقد لاقى، في السابق، البطريرك نصر الله صفير في منتصف الطريق موافقاً على «خرق» اتفاق الطائف في ما يخص الدوائر الانتخابية. وكان شريكاً أساسياً في فرض قانون الستين الذي «صغّر» الدوائر الانتخابية وعاد بها من المحافظة، كما ينص اتفاق الطائف، إلى القضاء، على أمل أن يُطمئن ذلك المسيحيين ويريحهم من الناخب المسلم الذي يقرر في العديد من الدوائر ـــــ المحافظات ويختار النائب المسيحي.
يفجّر طرح رئيس مجلس النواب السؤال عن الغاية السياسية المباشرة من تهديده بالعمل الدؤوب لإلغاء الطائفية السياسية وتأسيس الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وفق اتفاق الطائف، ولا سيما أنه يعرف الهواجس المسيحية وما تثيره القيادات المسيحية، سياسية وروحية، من مخاوف وجودية على وقع جدار الصوت هذا. فشعار إلغاء الطائفية السياسية في هذا البلد الذي يتجنب الإحصاء وكأنه يختبئ خلف إصبعه، وفي ظل تنامي عدد الطائفة الإسلامية عموماً ومنها الشيعية خصوصاً، من ضمن «سلاح المقاومة»، وهو سلاح شيعي في الأساس، بمعزل عما إذا كانت المقاومة وطنية أو مذهبية شيعية. ما يعني أن آخر أهداف إطلاق هذا الشعار، من زعيم شيعي لا من قوى «وطنية»، هو إلغاء الطائفية، بل لكأنه يغذي الطائفية والطائفيات.
إذاً، لماذا أُطلق شعار إلغاء الطائفية السياسية اليوم؟ بل لماذا يُحرق حلم إلغاء الطائفية في البازار السياسي؟ فإضافة إلى الغاية السياسية المباشرة وهي إيجاد توازن رعب مع شعار تجريد حزب الله من سلاحه الذي كانت تطلقه قوى 14 آذار وما زال يتمسك به بعضها، وخصوصاً المسيحيون منهم، كأن الهدف منه هو الإيحاء بأن لدى أصحاب ذاك السلاح، وهنا هم أمل وحزب الله لا حزب الله وحده إذ يتحدث نبيه بري، لديهم ما هو أخطر من السلاح العسكري، ألا وهو السلاح الديموغرافي وسلاح تفجير الصيغة الحالية ودب الرعب في نفوس الشركاء في الوطن. ففي أفضل الحالات، إذا ما قُرئ كلام بري في البازار السياسي إيجاباً، يعني أن إلغاء سلاح حزب الله لا يُقايض إلا بإلغاء الطائفية السياسية. هذا إذا ما فُكّر في مساومة تاريخية وسارت الأمور في اتجاهها.
المعادلة هذه التي يفصح عنها رئيس المجلس النيابي، أي الرأس الشيعي لا العضلات، هي فعلاً البضاعة الأيديولوجية التي أنتجتها الشيعية السياسية. وطرحها بمثابة صراحة سياسية، هي أفضل ما يمكن أن تقدمه الطوائف بعضها إلى بعض، بيعاً وشراءً واحتكاراً للسوق والعملة والقوانين.
يرفع، إذاً، نبيه بري سعر السلاح أو ثمنه، ويتقدّم هو، من موقعه كرأس للتيار الشيعي النظامي، نحو المساومة. فالشيعية السياسية في هذه اللحظة بحاجة إلى عرض بعض أسلحتها الأخرى غير «المقاومة»، وربما ليس الهدف الأول من ذلك البيع أو المقايضة. عرض الموجودات، أو بعضها الخطير، دعوة إلى مساومة على ما هو أصغر. وإلا فلماذا لم يحشد بري وراءه ذاك الديكور الطوائفي المتعدد؟ بل لماذا لم ينسّق خطوته هذه مع القوى غير الشيعية التي يتحالف معها، ولماذا لم يفعلها مع وليد جنبلاط الذي «عاد» إلى أدبيات اليسار والحركة الوطنية، ومنها ما يشبه إلغاء الطائفية السياسية؟ ونبيه بري يعرف أن خريطة طريق رئيس الحزب الاشتراكي، اليوم، هي المصالحة مع حلفاء بري وحلفاء حلفائه من المسيحيين (سليمان فرنجية وميشال عون). أي إن جنبلاط الذي يستعيض عن التحالفات بالمصالحات، لا يسعى الآن إلى استفزاز المارونية السياسية والمسيحيين عموماً.
كأن هذا المحنّك، بري، اللاعب الرئيسي من سنوات في النظام اللبناني، والخبير في مداخل التركيبة اللبنانية ومخارجها، أراد أن يكون الطرح شيعياً، مدركاً أعباءه، بل لعله يستدعي تلك الأعباء على أمل أن تبعد كأس سلاح حزب الله عن الفم الشيعي.
وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن هذا هو هدف نبيه بري، الذي يستعير المفهوم اليساري الرابط بين التحرير بالتغيير. استعارة مذهبية تستند إلى الطائف والدستور لصرفها في النظام اللبناني. وهو في ذلك يحاكي عقول المذهبيات السياسية الأخرى وقدراتها على إثارة المخاوف والاعتراضات لدى الآخرين. فالمارونية السياسية استبدلت الاستقلال الأول (1943) بامتيازات عاشت نحو خمسة عقود. والسنّية السياسية استبدلت وقف الحرب (الطائف) بامتيازات استمرت لعقد ونيف. والآن تطرح الشيعية السياسية مقايضة التحرير ـــــ السلاح بامتيازات يوفرها إلغاء الطائفية السياسية (ديموغرافياً). وهذا لن يتحقق إلا بحرب، أو أكثر.