إيلي شلهوبكم كانت مثيرة للضحك والتندّر، تطوّرات الأزمة الأخيرة ببعديها الأميركي والإسرائيلي. وكم كانت معبّرة النتيجة التي آلت إليها، وما رافقها من دروس يجب أن تُستقى لمرة واحدة وأخيرة.
السيناريو كان شبه متكامل بما يدل على أزمة متعددة الأبعاد بين إدارة باراك أوباما وحكومة بنيامين نتنياهو، على قاعدة أن الجميع بات مسلّماً بأنّ علاقة الدولتين من المتانة «الاستراتيجية» بمكان لا يمكن فصل عراها أبداً:
جوزف بايدن، الذي يفاخر بأنه صهيوني، في زيارة لإسرائيل لتدشين المفاوضات غير المباشرة مع السلطة الفلسطينية، وإذا بوزارة الداخلية بقيادة إيلي يشاي (شاس) تعلن مناقصة لبناء 1600 وحدة استيطانية في القدس المحتلة. ساعات من المعمعة حاول خلالها نتنياهو تجاوز المشكلة عبر اعتذار عن التوقيت لا المضمون، وكاد بايدن يتجاوب معه لولا اتصال هاتفي من أوباما استمر نحو 90 دقيقة، عبّر خلاله الرئيس الأميركي عن غضب عارم (بحسب التقارير الأميركية). بعدها كرّت السبحة: هيلاري كلينتون تدين الخطوة الإسرائيلية باعتبارها «إهانة للولايات المتحدة»، وتُجري اتصالاً بنتنياهو، تحرص على أن يُعلن عنه، يستمر 45 دقيقة تؤنّبه في خلاله على ما حصل، وتشترط ثلاثة أمور لتهدئة التوتر تتلخّص في سحب القرار وتقديم مبادرة حسن نية حيال عباس وإعلان نية التفاوض على قضايا الوضع النهائي، فضلاً عن إطلاق الأبواق الرسمية الأميركية (روبرت غيبس وديفيد اكسلرود) للإدلاء بتصريحات غير مألوفة في حدّتها حيال الدولة العبرية.
لم تكن هذه الأزمة الأولى التي تعصف بالجانبين في عهد باراك أوباما. ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي، وجّه نتنياهو إلى الرئيس الأميركي الجديد (في ذاك الحين) الصفعة الأولى برفضه طلب الإدارة الأميركية تجميد الاستيطان لإطلاق عملية السلام، التي سبق لأوباما أن أعطاها الأولوية في سياسته الخارجية. وقتها، توترت العلاقات أسابيع، امتنع أوباما في خلالها، حتى اللحظة الأخيرة، عن تحديد موعد لمقابلة نتنياهو خلال مشاركته في المؤتمر السنوي لـ«إيباك». في هذا اللقاء، الذي اتفق الطرفان على أن تبقى المداولات فيه سرية، أجمعت التقارير والتحليلات الصحافية على أن كلاماً قيل فيه من القسوة بمكان لو كشف عنه لأدى إلى مشكلة جديّة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. كانت النتيجة قبول نتنياهو (ومعه الإدارة الأميركية) تجميداً جزئيّاً للاستيطان يستثني القدس ويستمر عشرة أشهر، في مقابل تحديث للتعاون الأمني ـــــ العسكري بين الطرفين.
حلّ مثالي على ما لاحظ ألوف بن في «نيوزويك»، قياساً بالسوابق التاريخية في حالات مشابهة. أصلاً لطالما اشترطت الدولة العبرية ثمناً أمنياً للاستجابة لطلبات الولايات المتحدة في لحظات الخلاف. حدث ذلك في 1949 عندما طلب هاري ترومان من إسرائيل وقف غزوها للأراضي المصرية، وعقب حرب 1956 للانسحاب من سيناء، وفي مقابل فك الارتباط مع مصر وسوريا عام 1974. كذلك الأمر عقب حرب الخليج عام 1991 يوم وافقت تل أبيب على مؤتمر مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام، في مقابل بطاريات مضادة للصواريخ.
كان بايدن يدرك هذا منذ البداية. ولذلك، وطئت قدماه مطار بن غوريون حاملاً المعادلة التالية: المستوطنات مقابل نتانز. قالها صراحةً: ساعدونا في إبداء المرونة في عملية السلام نساعدكم على إيران عبر إبقاء الخيارات كلها على الطاولة، وبينها الخيار العسكري، مع ما يتطلّبه ذلك من ترجمة على الأرض.
الافتراق بين الإدارتين كان واضحاً مذ انتخاب أوباما وتولّي نتنياهو الحكم: واشنطن اتجهت يساراً، وتل أبيب يميناً. بل إن الأولويات كانت متعاكسة: إدارة أوباما ترى عملية السلام مقدمة لحل الملف النووي الإيراني (ولإنهاء ورطتها في العراق وأفغانستان)، فيما حكومة نتنياهو تعطي الأولوية لطهران، التي ترى في إضعافها إضعافاً لـ«معسكر رافضي السلام» من «حماس» وحزب الله وسوريا، وتعزيزاً لمؤيّديه. بالتالي، كان الخلاف حتمياً.
لكن بعد الموقعة الأولى، التي أهين فيها أوباما أيّ إهانة، كان يتوقع نهاية مختلفة في الموقعة الثانية. من قال إن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن؟
على المستوى الشخصي، كانت المعادلة على الشكل الآتي: بالنسبة إلى أوباما، إمّا حفظ ماء الوجه واستعادة بعض الاعتبار، وإما عدم المخاطرة بخسارة الأغلبية في الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي في تشرين الثاني. يبدو أنه اختار الحل الثاني (سيلتقي «بيبي» الثلاثاء). أمّا نتنياهو، فكان أمام انهيار ائتلافه الحاكم، أو خسارة دعم أوباما. لقد اختار الحفاظ على الاثنين معاً، وقد أفلح في ذلك.
أما على المستوى الدولتي، فكان الوضع على الشكل الآتي: أرادت الولايات المتحدة حماية مواطنيها، وقد كشف عن ذلك بايدن علناً بإبلاغه الإسرائيليين أن التعنّت (اقرأ الاستيطان) حيال عملية السلام يهدّد حياة الجنود الأميركيين في العراق وأفغانستان. أمّا إسرائيل، فأرادت المزيد من التهويد والأراضي. فشلت واشنطن ونجحت تل أبيب، وانتهت الأزمة إلى معادلة استيطانية تحاكي المبدأ الذي يجري بموجبه التعامل مع المثليّين في الجيش الأميركي: لا تسأل (عما يجري) ولا تقل (إن علمت).
الدروس المستقاة: نزوات إسرائيل أكثر أهميةً من حياة الأميركيين. ووداعاً لحل الدولتين.