حضرت الحرب على قطاع غزة في الاستحقاق الانتخابي في جنوب أفريقيا، وسط تقديرات تبيّنها استطلاعات الرأي، بنهاية عهد «المؤتمر الوطني الأفريقي» كأغلبية، للمرّة الأولى منذ عام 1994، فيما لن تتّضح نتائج الانتخابات التي جرت الأربعاء، قبل الثاني من حزيران. ولم يفت حكومة «المؤتمر الوطني»، في خضمّ معركتها الانتخابية، إدانة العدوان الإسرائيلي على رفح، ولفتها إلى حقيقة أن الأوضاع الراهنة في غزة تسند بشكل كامل اتّهام إسرائيل لدى «محكمة العدل الدولية» بارتكاب إبادة. كما طغى بند «الموقف من الحرب» على أجندة القوى السياسية المتنافسة، وخصوصاً في ظلّ دعوة عدد من مكونات المعارضة الرئيسة إلى «الحياد» حيال ما يجري في الأراضي المحتلة، ومعارضتها الدعوى المقامة ضدّ الاحتلال.
«المؤتمر الوطني» يفقد الأغلبية: سيناريوات المواجهة
واجهت حكومة «المؤتمر الوطني»، في السنوات الأخيرة، انتقادات داخلية متصاعدة، على خلفية ارتفاع نسب البطالة إلى مستويات قياسية (تجاوزت الـ 32%)، والانقطاعات المنتظمة في الطاقة، إضافة إلى تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 8800 دولار في عام 2012، إلى 6190 دولاراً في عام 2023. كما واجهت اتهامات متكرّرة بالفساد في صفوف الحزب، لم تشتثنِ شخص الرئيس نفسه، سيريل رامافوسا. ومع ارتفاع نسبة التصويت لتتجاوز الذروة التي بلغتها في عام 2019 (66%)، فإن التوقعات تشير إلى فوز شبه محسوم لـ»حزب المؤتمر» بأكبر حصة من الأصوات، وإن كانت هذه الحصة ستتراجع إلى ما دون الـ 50%، من دون أن يؤثّر هذا على حظوظ رامافوسا في إعادة انتخابه رئيساً للبلاد. وسيتشكّل البرلمان في أعقاب إعلان النتائج، وذلك عبر مسار تقليدي يتمثّل في التحالف مع قوى حزبية منافسة، ولا سيما مع «مقاتلي الحرية الاقتصادية» (EFF)، ثالث أكبر أحزاب البلاد قبل الانتخابات الأخيرة، وهي في الأساس مجموعات «منشقّة» عن الحزب الحاكم، بقيادة جوليوس ماليما، الذي يطرح «إصلاح» سياسات «المؤتمر الوطني»، ويطالب بنهج أكثر راديكالية لتحقيق أهداف مواجهة الأبارتهايد، ويتبنّى رؤية دعم القضية الفلسطينية والتضامن معها عضويّاً.
واجهت حكومة «المؤتمر الوطني» اتّهامات متكرّرة بالفساد في صفوف الحزب، لم تشتثنِ شخص الرئيس نفسه، سيريل رامافوسا


وعلى أيّ حال، فإن تجربة «المؤتمر الوطني» التاريخية، وتحالفه الوثيق مع التجمعات النقابية الوطنية البارزة، و»الحزب الشيوعي» الجنوب أفريقي، تكشف عن قدرته (في حال فقد الأغلبية ونال 42% فقط، بحسب تقديرات رصدها «مجلس البحوث العلمية والصناعية» في جنوب أفريقيا) على استعادة زمام المبادرة عبر أكثر من مسار: عقد تحالفات مشروطة وممكنة واقعيّاً مع «مقاتلي الحرية» (الذي حقّق بدوره مكاسب مهمّة في الانتخابات، بحسب المؤشرات الأولية التي توقعت فوزه بنسبة 9% من الأصوات) تقتضي مضيّ الحزب قدماً في إصلاح سياسي لبرامجه وأجندته؛ والتوظيف المرتقب لمخاوف «الجماعة البيضاء» (والمستثمرون الأجانب) من تمكُّن «المؤتمر الوطني» من تشكيل حكومة راديكالية، لتمتين التفاف الأغلبية السوداء حول «المشروع الوطني» المناهض للهيمنة الغربية وبقايا النظام العنصري في البلاد؛ وأخيراً البدء الفوري في برامج اقتصادية واجتماعية لمواجهة الشكاوى المجتمعية المتزايدة من البطالة والفساد وتراجع مستويات المعيشة بشكل عام، من دون تجاهل ارتباط ذلك بتراجع آخر مرتقب في تدفق الاستثمارات الغربية، وتحديداً على جنوب أفريقيا.
وبحسب المؤشرات، يتوقّع أن يحلّ تالياً لـ»المؤتمر الوطني»، حزب «رمح الأمة» الذي أسّسه الرئيس السابق جاكوب زوماد، إذ حصل وفق هذه المؤشرات، على نسبة 12.8% من الأصوات، على رغم العقبات القانونية التي تواجه ترشّح رئيسه مستقبلاً، وقيامه على أسس إثنية (في إقليم كوازولو ناتال ذي الأغلبية من الزولو التي تعدّ أكبر إثنية مفردة في البلاد). وفي ضوء الخلافات السياسية المريرة والقائمة بين زوما وحزب «المؤتمر»، فإن تحالف الأخير مع «مقاتلي الحرية» بات شبه محسوم فيما تراجعت أسهم «التحالف الديموقراطي».

المؤتمر الوطني والقضية الفلسطينية: الدعم ثابت
اتّخذت حكومة «المؤتمر الوطني» موقفاً تاريخياً داعماً للقضية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر، حظي بتقدير عالمي كبير، وبات محل اصطفاف كل الجهود الدولية والإقليمية المماثلة خلفه، وأضاف رصيداً وازناً إلى ديبلوماسية بريتوريا ومكانتها الدولية والإقليمية. وبناءً على ذلك، يُتوقع مضيّ جنوب أفريقيا، بعد التجديد لرامافوسا، وفق ما هو مرجّح، في سياسات دعم القضية الفلسطينية وملاحقة إسرائيل قضائيّاً وسياسيّاً في جميع النطاقات الممكنة. ويؤشر إلى ذلك أن التحالف المرتقب مع «مقاتلي الحرية» سيمثّل قوّة إضافية لنهج بريتوريا، إذ يتبنّى الأخير موقفاً حازماً إزاء العدوان الإسرائيلي، والقوى الدولية الداعمة له. وفي مقابل غلبة أجندات التغيير الداخلي على تصوّرات التحالف المرتقب، فإن السياسة الخارجية في مجملها ستتبع مسارها السابق: التوازن في التعامل مع القوى الدولية، وجنوح إلى قيادة العمل الإقليمي عبر ملفات عدّة؛ من بينها الحرب في غزة.
ويبدو لافتاً، هنا، تخوّف الميديا الإسرائيلية وتلك الغربية، من احتمال تمكّن «المؤتمر الوطني» من تشكيل تحالف حاكم، بالتأكيد على «فقده الأغلبية البرلمانية»، مع تجاهل لجوء الحزب الحاكم، في مناسبات سابقة بداية من عام 1994، إلى التحالف مع قوى سياسية/ نقابية خارج مظلّته التنظيمية لتأمين الغالبية المريحة. وفي هذا الإطار، اعتبرت «تايمز أوف إسرائيل» (29 الجاري) أن سياسات رامافوسا الخارجية مثّلت «تغييراً راديكالياً من سياسات مانديلا القائمة على احترام حقوق الإنسان، إلى التحالف الوثيق مع الإسلاميين والسلطويين» بحسب زعمها، مضيفة أن دعم «حماس» كان موضوعاً ثابتاً في الحملات الانتخابية قبل الـ 29 من أيار، قبل العودة إلى تكرار اتهامات سابقة لنظام رامافوسا بدعم علاقاته مع إيران و»حزب الله» وغيرهما، وعزلته المتزايدة عن «الديموقراطيات الغربية».
وهكذا، لا يُتوقّع أيّ تراجع في الدعم الذي وفّرته بريتوريا للقضية الفلسطينية لعدة اعتبارات، أولها اتّساق هذا الدعم مع البنية الأيديولوجية والسياسية للتحالف السياسي الذي يتوقّع بقوّة إنجازه بين «المؤتمر الوطني» و»مقاتلي الحرية» (حتى الآن يمثل نسبة 51%)، ثم ملاءمته لمجمل سياسات بريتوريا الخارجية، ولا سيما في نطاق ما بات يعرف بسياسات الجنوب العالمي، وتمتُّعه في الأساس بحاضنة شعبية كبيرة إلى درجة أن مراقبين إسرائيليين عدّوا وقوف بريتوريا مع القضية الفلسطينية براغماتية سياسية مكّنت «المؤتمر الوطني» من حشد الأصوات.