لم تغب أزمة اليورو والتخبّط المالي والاقتصادي الذي تعيشه اليونان وباقي أوروبا، عن الصحافة الأميركية. بعضها تناول أسباب هذه الأزمة وطرح حلوله الخاصة لها من وجهة نظر متفرج بعيد، لكنّ بعض الصحف والمحلّلين السياسيين والاقتصاديين ربطوا بين هذه الأزمة والوضع المالي في أميركا، وتخوّفوا من أن يأتي الدور على واشنطن، التي تعاني عجزاً مماثلاً لما تعانيه اليونان في موازنتها. وفيما استغل بعض المحافظين الفرصة للانقضاض على دولة الرعاية في أميركا للتخلص منها نهائياً، دافع المقرّبون من الإدارة الحالية عن الوضع المالي لأميركا، معتبرين أنّه غير متشابه مع اليونان
إعداد وترجمة: ديما شريف

لسنا اليونان



بول كروغمان*
إنّها رياح سيّئة لا تأتي بالخير على أحد، والأزمة في اليونان جعلت بعض الأشخاص، وهم الذين عارضوا قانون الرعاية الصحية، وينتظرون عذراً لتفكيك الضمان الاجتماعي، سعداء جداً جداً. أينما نظرت، هناك افتتاحيات وتعليقات، بعضها يدّعي الصحافة الموضوعية، جازماً بأنّ اليونان اليوم هي أميركا غداً إذا لم نتخلَّ عن كلّ هذا الهراء، عن رعاية من هم بحاجة إلى العناية.
لكنّ الحقيقة هي أنّ أميركا ليست اليونان، وفي كلّ الأحوال فإنّ الرسالة الآتية من اليونان ليست هي ما يريد هؤلاء الناس أن يوهمونا به.
إذاً، كيف يمكن مقارنة أميركا واليونان؟
كانت الدولتان تعانيان أخيراً عجزاً كبيراً في موازنتَيهما، ويمكن مقارنتهما عبر النسب المئوية للناتج الإجمالي المحلي لكلّ منهما. لكن إذا فصلنا بعضهما عن بعض، ودرسنا كلّ حالة على حدة، فسنرى أنّ الفائدة على سندات خزينة الحكومة اليونانية أكبر بمرتين من النسبة المفروضة على تلك الأميركية، لأنّ المستثمرين يرون مخاطر أكبر ستجبر اليونان على التخلف عن سداد ديونها في نهاية المطاف. في المقابل، لا يرى هؤلاء أيّ خطر إطلاقاً في أن تقوم أميركا بالفعل نفسه. لماذا؟
الإجابة الوحيدة هي أنّه لدينا مستوى منخفض من الدين، وهو مبلغ نملكه على عكس الاقتراض الجديد، المرتبط بالناتج الإجمالي المحلي. والصحيح هو أنّ ديننا يجب أن يكون أقل من ذلك بكثير. كنا سنحتل مرتبة أفضل للتعامل مع الطوارئ الحالية لو لم تُبعثَر كلّ هذه الأموال على الاقتطاعات الضريبية للأغنياء، وعلى حرب غير ممولة، لكن كنّا سندخل الأزمة بطريقة أفضل من اليونانيين.
إلا أنّ الأمر الأهم هو أنّّ لدينا طريقاً واضحاً للتعافي الاقتصادي، في الوقت الذي لا يملك فيه اليونانيون هذا الخيار.
يكبر الاقتصاد الأميركي باستمرار منذ الصيف المنصرم، وذلك بسبب رزمة التحفيز المالي والسياسات التوسعية التي اتّبعتها إدارة الاحتياطي الفدرالي. أتمنى لو أنّ النمو كان أسرع، لكنه في النهاية ينتج زيادات في الوظائف، ويظهر الأمر جلياً في العائدات. نحن الآن على وشك مطابقة توقعات مكتب الموازنة في الكونغرس، التي تقول إنّه سيكون هناك زيادات مهمة في العائدات الضرائبية. إذا وضعنا هذه التوقعات مع سياسات إدارة أوباما، فستوحي لنا بتراجع كبير في عجز الموازنة في السنوات المقبلة.
على العكس، تبدو اليونان عالقة في فخّ. خلال السنوات الجيدة، حين كان رأس المال يتدفق، تنامت الكلفة والأسعار اليونانية كثيراً مقارنةً بباقي أوروبا. لو كانت اليونان لا تزال تملك عملتها الخاصة، لاستطاعت إعادة التنافسية عبر خفض قيمة العملة. لكن، بما أنّها لا تملك عملتها الخاصة، وبما أنّه لا تزال فكرة مغادرة منطقة اليورو غير واردة إطلاقاً، تواجه اليونان سنوات من الانكماش الطاحن ونمواً منخفضاً قد يصل إلى صفر في المئة. إذاً، السبيل الوحيد لخفض العجز هو عبر الاقتطاعات الكبيرة من الموازنة، ويتساءل المستثمرون إذا كانت هذه الاقتطاعات ستحصل فعلاً.
ومن المجدي أن نذكر أنّ بريطانيا التي هي اليوم في وضع مالي أسوأ منّا، ولكنّها عكس اليونان لم تعتمد اليورو كعملة لها، لذا تبقى قادرة على الاقتراض بفوائد منخفضة نسبياً. يبدو أنّ امتلاك الدولة عملتها الخاصة يمثّل فارقاً كبيراً.
باختصار، نحن لسنا اليونان. قد نكون حالياً نعاني عجزاً بنسبة كبيرة، لكن وضعنا الاقتصادي، وبالتالي مستقبلنا المالي، أفضل بكثير.
بعدما قلنا ذلك، نحن نعاني مشكلة مع الموازنة منذ وقت طويل. لكن ما هي جذور هذه المشكلة؟ الجملة الاعتيادية التي نسمعها هي «نحن نطلب أكثر مما نحن مستعدون لدفعه». لكن هذه العبارة مضلّلة كثيراً.
أولاً، من هم الـ«نحن» الذين يتحدث عنهم الناس؟ تذكّروا أنّ الدفع باتجاه خفض الضرائب أفاد أقلية صغيرة من الأميركيين: 39 في المئة من الاستفادة من جعل الخفوضات الضريبية التي أقرها بوش دائمة، ستصب في مصلحة أغنى واحد في المئة من الشعب.

علينا أن نتجاهل أولئك الذين يحاولون استغلال الأزمات أينما كان، لتفكيك دولة الرعاية

وتذكّروا أيضاً أنّ الضرائب تراجعت لتصبح خلف الإنفاق. ويعود ذلك جزئيّاً إلى استراتيجية سياسية مقصودة، وهي «تجويع الوحش». إذ حرم المحافظون عن قصد الحكومة العائدات في محاولة منهم لفرض الخفوضات في الإنفاق التي يصرّون اليوم على أنّها ضرورية.
في هذا الوقت، حين تنظر تحت سطح هذه التوقعات الضريبية القديمة المقلقة، تكتشف أنّها ليست بسبب مشكلة عامة في زيادة الإنفاق. على العكس، هي تعكس بوضوح أمراً واحداً فقط: الاستنتاج أنّ أكلاف الرعاية الصحية سترتفع في المستقبل كما حصل في الماضي. هذا يخبرنا أنّ مفتاح مستقبلنا المالي يحسّن فعالية نظامنا الصحي. وهذا أمر تحاول إدارة أوباما القيام به.
إذاً هذا هو الواقع: مستقبل أميركا المالي في السنوات القليلة المقبلة ليس سيئاً. بالطبع لدينا مشكلة في الموازنة قديمة وجدية، يجب علينا حلّها عبر مزيج من إصلاح الرعاية الصحية وخطوات أخرى، ربما تتضمن زيادة معتدلة في الضرائب. لكن، يجب علينا أن نتجاهل هؤلاء الذين يدّعون أنّهم مهتمون بالمسؤولية المالية، فيما هدفهم الحقيقي هو تفكيك دولة الرعاية. وهم يحاولون استغلال الأزمات أينما كان، لإخافتنا حتى نعطيهم ما يريدون.
* عن صحيفة «نيويورك تايمز»


أيّها الأميركيون... استيقظوا!



روبرت ج. سامويلسون*
قد يظنّ المرء أنّ الإضرابات المالية الأوروبية ستُدخل بعض العجلة في النقاش المتعلق بالميزانية الأميركية. ففي النهاية، يبدو العجز الحكومي المرتفع، والدَّين العام هما جذور المشاكل في أوروبا، وهي المشاكل نفسها التي ابتُليت بها الولايات المتحدة. لكن، لا. معظم الأميركيين، بدءاً بالقادة السياسيين لهذه الأمّة، يتجاهلون ما يحصل في أوروبا، ويعتبرونه دراما خاصة بها، ذات صلة بعيدة بهم.
ما يتفاداه الأميركيون بحزم هو النقاش الجدي بشأن الدور المطلوب من القطاع العام. إلى أيّ حد يجب أن تكون ضخماً؟ هل يجب أن تفضّل الكبار في السن أم الشباب؟ هل سيلغي الإنفاق الاجتماعي الإنفاق العسكري؟ هل سيثبط القظاع العام الضخم النمو الاقتصادي عبر عجز أكبر أو ضرائب؟ لا أحد يريد الالتزام بهذا النقاش، لأنّه إذا تناوله بجديّة، فإنّه سيخيّب آمال الليبراليين والمحافظين على السواء.
فبعدما ووجهوا بزيادات كبيرة في الإنفاق، ما يعكس وجود شعب هرم وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، سيضطر الليبراليون إلى الاعتراف بضرورة خفض الفوائد والإنفاق. وبعد أن يروا أنّ الإنفاق الحكومي العام سيرتفع حتى بعد هذه الاقتطاعات (مزيد من الناس سيجنون الفوائد، حتى لو انخفضت نسبتها) سيضطر المحافظون إلى الاعتراف بالحاجة إلى ضرائب أعلى. الملتزمون الصادقون، في اليمين واليسار على السواء، سيصرخون.
يمكن تحديد انعدام الجدية عبر الكلمات المفقودة التالية: «وازنوا الموازنة». هذه العبارة هي تابو. في شباط، أنشأ الرئيس باراك أوباما لجنة وطنية بشأن المسؤولية المالية والإصلاح (فلنسمِّها لجنة العجز). مهمة هذه اللجنة هي اقتراح خطوات من شأنها خفض العجز إلى مستوى «دفعات الفوائد على الدين» بحلول 2015 كي «تحفظ توازن الدين مقابل نسبة الناتج الإجمالي المحلي على مستوى مقبول».
فهمتم؟ لا؟ حسناً، ليس مطلوباً منكم أن تفهموا. كلّ هذا الكلام عن تثبيت توازن «الدين مقابل الناتج الإجمالي المحلي» وإيلاء معاملة خاصة لدفعات الفوائد، هي أمثلة على لغة الموازنة. هي لغة «الخبراء»، وتُستخدم لقتل النقاش وإقناع الناس بأنّ «شيئاً ما يجري فعله» في الوقت الذي يُفعل فيه القليل أو لا شيء على الإطلاق. على سبيل المثال، هدف أوباما لعام 2015 قد يتضمن عجزاً بحوالى 500 مليار دولار، رغم التوقعات بتعافٍ اقتصادي كامل (نسبة البطالة: 5.1 في المئة). من المفترض أن تقترح اللجنة «توصيات تحسّن تحسّناً كبيراً المستقبل المالي، ومن ضمنه تغييرات لمواجهة النمو الخاص باستحقاقات الإنفاق»، وهو تكليف عام. أمّا موازنة الموازنة، فلا ذكر لها.
في أيّ صفّ دراسي، يمكن الدفاع عن تحديد الدين العام مقابل الناتج الإجمالي المحلي. الفكرة هي لتطمين المستثمرين (أي الأسواق المالية) إلى أنّ عبء الدين لم يصبح أثقل، وذلك كي يستمروا في الإقراض بفوائد منخفضة. لكن، في الواقع، هذا المنطق لا يعمل. تواجه الحكومات في نهاية المطاف ركوداً حاداً، حروباً أو مسائل طارئة أخرى تتطلّب استدانة كبيرة. لتثبيت توازن الدين مقابل الناتج الإجمالي المحلي، يجب أن يكون هدفك أقل مما تسعى إليه في الأيام الجيدة، ما معناه أنّك يجب أن توازن الموازنة (أو تطرح فوائض بسيطة) بعد أن يتعافى الاقتصاد من الركود.
المثير للاهتمام، أنّ خبرة أوروبا تُضعف فرضية الدين مقابل الناتج الإجمالي المحلي وأهدافها. كان من المفترض أن تلتزم الدول الست عشرة التي تستخدم اليورو بدين يساوي 60 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي. قبل الأزمة المالية، خُرق هذا الهدف بقوّة. بين 2003 و2007، كان متوسط دين ألمانيا 66 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، وفرنسا 64 في المئة، وإيطاليا 105 في المئة. بعدما ضربت الأزمة، قفزت نسب الدين مقابل الناتج الإجمالي المحلي. ومع حلول 2009، وصلت إلى 73 في المئة في ألمانيا، 78 في المئة في فرنسا، و116 في المئة في إيطاليا.

تُستخدم لغة الموازنة لقتل النقاش وإقناع الناس بأنّ «شيئاً ما يجري فعله»
من محاسن موازنة الموازنة أنّها تجبر الناس على احتساب مقدار عائدات الحكومة مقابل الإنفاق. هذا معيار بديهي يفهمه الناس غريزياً. لو كانت لجنة العجز جدية، فستضع موازنة متوازنة كهدف لعام 2020، ما يسمح للوقت بأن يدمج تدريجيّاً اقتطاعات الفائدة وزيادة الضرائب. ستدعو بعد ذلك مراكز الأبحاث (من مؤسسة هيريتاج في اليمين إلى مركز أولويات الموازنة والسياسات في اليسار) وجماعات المصالح (من غرفة الصناعة إلى الجمعية الأميركية للمتقاعدين) إلى تقديم خطط للوصول إلى هذا الهدف. قد تدفع رؤاهم المتنافسة قدماً بنقاش استحق منذ وقت طويل عن دور الحكومة.
تبدو الظروف ضد هذا المشروع. قد تعتنق لجنة العجز أهداف الدين مقابل الناتج الإجمالي المحلي، وتطمح إلى «توازن أوّلي» (لا يكون فيه دفعات الفوائد) لأنّه أسهل سياسياً. تخيلوا أنّه في عام 2020 سيكون العجز 1.254 تريليون دولار مقابل نفقات تبلغ 5.67 تريليونات دولار، كما تقول لجنة الموازنة في الكونغرس. سدّ هذا العجز يتطلب زيادات كبيرة في الضرائب، أو اقتطاعات هائلة في الإنفاق. لكن تمثّل 916 مليار دولار من العجز المرتقب دفعات فوائد، تجاهلها اليوم «يحل» ثلاثة أرباع المشكلة.
الرسالة الآتية من أوروبا هي أنّ هذه المقاربة ستفشل حتماً. التهرب الأنيق فكرياً يبقى تهرباً. رغم أنّ الأسواق المالية قد تتغاضى عن التاريخ الحكومي في الاستدانة لسنوات، قد تنكسر الثقة دون إنذار. ينسحب المقرضون أو يصرّون على زيادة نسبة الفوائد. وقد تفرض ضغوط الأسواق لاحقاً تقشفاً حاداً على شكل اقتطاعات في الفائدة، أو زيادة في الضرائب، قد تكون أكثر وحشية من أيّ شيء آخر كان على الحكومات القيام به وحدها. نحن، عبر الخيبة وعدم القيام بأيّ شيء، نجذب هذا القدر نحونا.
* عن صحيفة «واشنطن بوست»