عصام العريان *في عالمنا العربي والإسلامي حيث يسود مبدأ الانبطاح أمام القوى العظمى أو الانبهار بالنماذج التغريبية أو الانسحاق أمام قوة كبرى تملك ما دأبنا على ترديده 99% من أوراق أخطر قضايانا وأهمها منذ ستين عاماً (فلسطين)، يحسن بنا أن نتأمل قليلاً في «الدرس الأفغاني» لأخذ العبرة والعظة وتعلم بعض الدروس.
وفي عالمنا العربي حيث تُقمع المعارضة وتُصفَّى المقاومة، ويُحاصر المجاهدون، ويتم التواطؤ علناً مع «العدو الصهيوني» تحت المظلة الأميركية، ويسوّق الإعلام ألا أمل في التصدي لهذا الجبروت العسكري وأن منتهى أحلامنا أن يسكت عنا الأميركيون والأوربيون بدون إزعاجنا ببيانات شجب أو إدانة أو طلب تحقيق في قضية تعذيب، يجب علينا أن نقف احتراماً أمام شعب أعزل يعيش حالة بدائية بمقاييس العصر ويقاتل حلفاً جباراً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً هو حلف شمال الأطلسي منذ قرابة عشر سنوات دون كلل أو ملل، ويوشك أن يلحق بقوات ذلك الحلف الشيطاني أكبر هزيمة في تاريخه.
قد تكون لنا ملاحظات على حركة «طالبان» واجتهاداتها الفقهية أو ارتباطاتها الخارجية بالاستخبارات الباكستانية أو تمويلها من تجارات تعوّد عليها الأفغان من عشرات السنين، إلا أن الذي علينا أن ندركه أن هذه الحركة المقاتلة الصامدة نجحت في إرساء مبدأ في غاية الأهمية وهو «إعلاء قيمة الإرادة والتحدي»، وبعثت في كل أنحاء المعمورة الأمل في نفوس الرافضين للنموذج الغربي وعالم الحداثة والعولمة. بل وضعت بذرة النهاية لإمبراطورية أميركية تقود الغرب كله منذ نهاية الحرب العالمية «الأوروبية» الثانية. وهي تذكّر بما فعله الفيتناميون من قبل في أميركا نفسها مع اختلاف واضح في الظروف والقوى المؤيدة.
حجم الخسائر في الأرواح التي بلغت ذروتها في شهر حزيران/ يونيو المنصرم (100 قتيل) أجبرت القادة العسكريين والسياسيين على التلميح والتصريح بضرورة التفاوض مع حركة طالبان. وقد أعلن المتحدث باسم الحركة «ذبيح الله مجاهد» رفض الحركة الحوار مع الأعداء المحتلين لأنهم لا يعرفون معه إلا لغة القتال، ولماذا يتفاوضون وهم يتقدمون على معظم الجبهات؟!
الإصرار والتحدي والروح القتالية العالية والصمود لمدة عشر سنوات أدّت في النهاية إلى التصدع في صفوف المتحالفين في «محور الشر والعدوان»، مما دفع البعض إلى الإعلان عن ضرورة الخروج من أفغانستان، وخرجت التصريحات المتضاربة من عواصم القيادة في لندن وواشنطن لتدلل على مدى التخبط والحيرة إزاء حرب تبدو بلا نهاية ولا أفق ولا أمل.
الالتفاف الشعبي حول الحركة المجاهدة دفع عملاء أميركا بقيادة قرضاي لطلب رفع أسماء بعض القيادات من طالبان من قائمة الإرهاب التي وضعها «مجلس الأمن الدولي» لمحاصرة الحركات والقوى والدول التي تقف ضد المشروع العالمي بجبروتها المالي والاقتصادي والعسكري، وتصر على المعنى في سياسة «حروب بوش» إلى نهاية المطاف. وصدق الله العظيم { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿١٩﴾} [الحشر]، { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿١٨٦﴾} [الأعراف].
هذا العام فقط وفي الستة شهور الأولى، أفاد موقع «إيكاغوالتيز» كما نشرت «الشرق الأوسط» في 29/6، عن سقوط 318 قتيلاً من جنود الناتو مقارنة بـ157 في النصف الأول من العام الماضي، نتيجة زيادة العمليات القتالية والاستخدام المكثف للقنابل المزروعة على جانبي الطريق (التكتيك نفسه الذي استُخدم بنجاح في جنوب لبنان والعراق)، ومن هؤلاء 190 أميركياً و63 بريطانياً.
أثبت الدرس الأفغاني سقوط نظرية «الاستقواء بالخارج»، فقد عُزل قرضاي ورجاله
الإنفاق العسكري الأميركي فاق كل مجالات الإنفاق في الحروب السابقة، ويقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴿٣٦﴾ } [الأنفال] الموازنة المقترحة لسنة 2011 كما يقول جهاد الخازن في الحياة 30 /6 سجلت رقماً قياسياً حيث تبلغ 549 بليون دولار و159 بليون دولار إضافية للحربين في العراق وأفغانستان وحدود باكستان، أي 708 بلايين دولار، مما يعادل الإنفاق العسكري لبقية دول العالم مجتمعة، ويقدر الخازن أن مجمل الإنفاق العسكري الأميركي يصل إلى تريليون دولار إذا أضفنا اعتمادات كثيرة تسجل في موازنات وزارات أخرى أو وكالات غير وزارة الدفاع.
هذا الإنفاق العسكري المجنون في بلد هو الأكبر مديونية في العالم، ويعاني أزمة اقتصادية وماليةخطيرة ويفرض سطوته على بقية دول العالم وحكوماته، سيؤدي في النهاية لا محالة إلى المصير نفسه الذي سارت إليه إمبراطوريات سابقة عندما زادت نفقاتها العسكرية والمالية عن قدراتها الاقتصادية، وكان الترف والسفه في الإنفاق بالذات هما بداية الطريق إلى الاندثار والانحسار تدريجياً حتى تصل إلى الأفول.
الدرس الأفغاني واضح في الكذب الذي تمارسه الدولة العظمى، فهي تعودت على الكذب كما حدث في حرب العراق الذي لم يكن لديه أسلحة دمار شامل كما ادّعى كولن باول في مجلس الأمن واعتذر عن ذلك الكذب، وكما تحقق الآن لجنة تحقيق في بريطانيا بينما يفلت مجرم الحرب توني بلير بجريمته. وكما ثبت أن العراق لم تكن له صلة بتنظيم القاعدة، ها نحن الآن نجد أن الحرب في أفغانستان بين الشعب الأفغاني الذي يحتضن حركة «طالبان» وبين حلف الناتو وعملائه من حكام كابول الذين يتحصنون في قصورهم خوفاً من الغضب الشعبي، بينما لا نجد ذكراً لتنظيم القاعدة إلا في الهجمات الجنونية التي تشنها الطائرات الأميركية بدون طيارين على الحدود الباكستانية، بينما اختفت في هذه المرحلة الحالية تصريحات شيوخ تنظيم القاعدة وبياناتهم.
والكذب كله واضح كما يحدث الآن في قضية فلسطين أيضاً. فالحروب على الإرهاب كانت كذبة كبرى لجورج بوش والمحافظين الجدد. وعندما اعتمد أوباما استراتيجية جديدة، أغفل تماماً ذكر هذا المصطلح، ولكن السياسات العسكرية بقيت كما هي، والحروب المجنونة مستمرة وفق السنن الإلهية إلى أن يريد الله شيئاً آخر.
وبعد عشر سنوات على اندلاع هذه الحروب يجب علينا أن نستوعب «الدرس الأفغاني». فامتلاك الإرادة، والصمود، والتمسك بالحقوق، والمقاومة في كل الظروف والاعتماد على الله، وقيادة الشعب المسلم بصبر ووعي وبصيرة والتماسك والتعاضد وعدم التفرق والتشرذم، كل ذلك بجانب امتلاك العدّة المناسبة لكل موقعة، سياسية أو عسكرية أو إعلامية أو اقتصادية أو اجتماعية، هذا هو سبيل النجاح والتفوق: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴿٨٨﴾ } [سورة ص] صدق الله العظيم.
أثبتت التجربة الأفغانية خلال 40 عاماً قدرتها على إعلاء قيم الجهاد فى سبيل الله، وصمدت أمام أقوى إمبراطوريتين في العصر الحالي: السوفياتية التي أنهت وجودها خلال عشر سنوات (1979 ــــ 1989)، وها هي على أبواب إنهاء الإمبراطورية الأميركية بإنهاكها اقتصادياً واستراتيجياً وعسكرياً خلال عشر سنوات أخرى (2001 ــــ 2011).
ها هم القادة العسكريون يختلفون علناً مع الساسة الأميركيين، ويسخرون من شخصيات هامة في الإدارة الأميركية كنائب الرئيس ومبعوثه الخاص لأفغانستان وباكستان ورجال الأمن القومي، مما اضطر أوباما إلى إقالة الجنرال ماكريستال وتعيين الجنرال بترايوس الذي يفخر في سجله بوضع خطة الانسحاب من العراق، وكأنه عُيّن لتنفيذ الانسحاب المأمول من أفغانستان.
أثبت الدرس الأفغاني سقوط نظرية «الاستقواء بالخارج»، حيث عُزل قرضاي ورجاله فعلياً بعد فسادهم وفشلهم، وسقوط نظرية «بناء الأمم» الأميركية حيث الفشل الذريع في تطويع المجتمع الأفغاني أو غرس قيم مستوردة في أوساط الشعب الأفغاني، وكذلك سقوط نظرية «الحرب على الإرهاب» و«الحروب الاستباقية».
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر